“حياة إيفانا”.. آخر ما بقي من حياة الأجداد في القطب الشمالي

عبد الكريم قادري

تعيش “إيفانا” ذات الـ26 ربيعا مع خمسة من أطفالها داخل عربة صغيرة في مرتفعات التندرا بمنطقة القطب الشمالي في غرب سيبيريا، وذلك في طقس قاس صعب لا يرحم، ورغم هذا فقد حافظت على أسلوب حياتها بعيدا عن زوجها المدمن عديم المسؤولية الذي طردته.

لكن التغيير المناخي والاحتباس الحراري بدأ يؤثر على الحياة التي ورثتها من أجدادها القدامى، لهذا بدأت تفكر في البحث عن حياة أخرى من أجل مستقبل أطفالها، خاصة بعد أن تضاءل قطيع الرنة الذي تملكه. فهل ستنجح في هذا المسعى رغم كثرة المطبّات وصعوبة الأمر؟

سينما المعايشة.. سحر اللحظات البشرية الخالصة

تنعكس سينما المعايشة في الأفلام الوثائقية التي يعتمد صانعوها على طريقة التقرب من الموضوع أو الشخصية إلى المسافة صفر تقريبا، حيث يحصلون فيها على اللحظة الحاسمة التي تتكشف فيها الحقائق، وتظهر الوجوه على طبيعتها بدون أي مساحيق أو تصنّع، حتى أن الكاميرا تتلاشى مع مرور الزمن هي الأخرى، لتصبح ضمن الديكور العام في نظر الشخصيات الفيلمية المستهدفة، مثلها مثل المزهرية، أو الكراسي، أو الإطارات المعلقة على الجدران.

 

ولن يحدث هذا ما لم يُعط المخرج أو صنّاع الفيلم الوثائقي الوقت الضروري والمناسب لذلك، حتى يتعودوا ويتدربوا على عدم الانتباه أو التركيز في الموجودات الخاصة بصناعة الفيلم، وفي الوقت نفسه ترتفع درجات البوح لتصبح في مستوى واحد بينهم وبين الحقيقية، وبالتالي يمكن التقاط اللحظات البشرية الخالصة بدون تكلف، وهي المعطيات التي يتفاعل معها المتلقي/الجمهور ويتقبلها، لأنها تنبع من الأعماق، وبالتالي يجري التفاعل معها ومد الجسور التي توصل للأعماق.

رعي القطعان في مرتفعات سيبيريا.. تحديات التمسك بالتقاليد

هذا ما حدث مع الفيلم الوثائقي الروسي النرويجي الإستوني الفنلندي “حياة إيفانا” (Life of Ivanna)، وهو من إنتاج روسي نرويجي إستوني فنلندي (2021)، ويبلغ طوله 80 دقيقة، وقد قام بإخراجه “ريناتو بورايو سيرانو” الذي استطاع أن يوثق أربع سنوات من حياة “إيفانا” في تلك الطبيعة القاسية والحادة على المرتفعات التي تقع شمال سيبيريا، وهي من المناطق التي لا تنمو فيها حتى الأشجار بسبب الضغط المرتفع.

وتعتمد “إيفانا” وغيرها في هذه الحياة على رعي قطعان الرنة التي تتعايش مع هذا الطقس الصعب، لكنها مع الوقت بدأت تموت وتتضاءل تدريجيا بسبب المشاكل البيئية المختلفة، في ظل غياب مخطط حماية شامل، أو برنامج تنمية مستدامة يحفظ هذه الفئة، ويشجع على استقرارها وبقائها.

هذه المشكلة لم تكن لدى “إيفانا” وحدها، بل حدثت لكل من يربي تلك الحيوانات، واختار أسلوب العيش القاسي هذا ولا يريد تغييره تمسكا بالعادات والتقاليد الموروثة من الأجداد، لتتحول حياة هذه المرأة كما وُصفت في الملخص بأنها “دراما تحريرية وقدّاس جنائزي حول طرق بائدة للمعيشة”.

إطعام الأفواه الجائعة.. أحلام موسيقية مؤجلة إلى حين

شارك فيلم “حياة إيفانا” في عدد من المهرجانات السينمائية المهمة والمتخصصة في الأفلام الوثائقية، ونال عددا من جوائزها، كما دخل المسابقة الرسمية لمهرجان الجونة السينمائي الذي عقدت دورته الخامسة خلال الفترة (14-22 أكتوبر/تشرين الأول 2021)، وحصد نجمة الجونة الذهبية كأفضل فيلم وثائقي.

رغم سنها الصغير، غير أن وجه إيفانا يظهر الكثير من البؤس والشقاء بسبب مسؤولياتها الكبيرة

 

نال الفيلم هذه الجائزة المستحقة والجديرة نظرا لجمالياته المختلفة التي عكستها الإطارات السينمائية المضبوطة بدقة، والاستعادة الذكية التي قدمها المخرج وكاتب السيناريو “ريناتو بورايو سيرانو” للمخرج الأمريكي “روبرت فلاهرتي” الأب الروحي للسينما الوثائقية.

كل هذا بدون أن يسميه أو يذكره، فقط لأنه اختار الفضاء الأبيض الممتد بالثلوج، والإحاطة الشاملة بالفرد الشمالي الذي يعيش في هذا الطقس القاسي على مدار السنة، مُمثلا في الشابة “إيفانا” ذات الـ26 سنة، صاحبة الصوت الغنائي الجميل، وقد كانت أمنيتها في الطفولة أن تلج عوالم الموسيقى، وقد تقدمت خطوات للأمام لمعانقة هذا الحلم بعد أن درست في معهد الموسيقى، لكن الواقع كان قاسيا، فقد عادت لحياة التنقل بعد أن صعد على كاهلها خمسة أبناء تعمل على إطعامهم والاعتناء بهم.

توقفت “إيفانا” عن الحلم وركزت على حماية أبنائها، ودخلت في مواجهة مباشرة مع الواقع المر انطلاقا من حس الأم والمسؤولية، بعد أن عجز زوجها الكسول عن إيجاد عمل في المدينة المجاورة بشركة “غاز بروم” النفطية، حيث يعيش حياة طائشة أفسدها بالشرب المستمر والقتال والشغب، وركن لقناعة بأن لدى زوجته روح مسؤولية تغنيه عن الاهتمام بأبنائه الخمسة، رغم أنها أعطته الكثير من الفرص والدروس ليعتني بهم، لكن تعنيفه المستمر لها وعدم معاملتهم بعدل حال دون أن يجتمعوا في بيت واحد من جديد.

“نانوك ابن الشمال”.. مُصافحة مع أول فيلم وثائقي في التاريخ

بالعودة إلى المصافحة السينمائية التي قدّمها “ريناتو بورايو سيرانو”، فسببها بالأساس أن “روبرت فلاهرتي” أصدر أول عمل وثائقي في التاريخ سنة 1922 بعنوان “نانوك ابن الشمال” (Nanook of the North)، وقد تعايش من خلاله لفترة من الزمن مع عائلة من الإسكيمو تقطن في القطب الشمالي بكندا، حيث اقترب المخرج من عائلة “نانوك” وعاش معهم لأكثر من سنة كاملة، استطاع فيها أن يعرف كيف يعيش هؤلاء ويفكرون.

 

لقد لاقى الفيلم نجاحا كبيرا لأنه تطرق لحيز جغرافي وفئة من البشر لم يكن العالم يعرف عنها شيئا، لهذا فعندما يعود “ريناتو” للشمال، ويقدم تصورا على نفس الفضاء، ويقترب من عائلات وطريقة عيش هؤلاء الذين يعيشون بين الثلوج؛ فإن هذه مصافحة ذكية بينه وبين “فلاهرتي”، وأكثر من هذا يكون قد قدّم تحية عميقة للسينما الوثائقية ورائدها، وفي المقابل قدمت “إيفانا” هي الأخرى مصافحة افتراضية مع “نانوك”.

منزل العائلة.. عربة تجرها ذوات القرون على الثلج

تستحوذ المشاهد الداخلية على حيز كبير من أحداث الفيلم الوثائقي “حياة إيفانا” الذي تبلغ مدته الزمنية 80 دقيقة، وهذا داخل عربة هشة ذات قاعدة وأسس خشبية مدعمة بغطاء يمنع دخول الرياح والماء، على مساحة تقدر بحوالي متري مربع، حتى يسهل جرها من قبل حيوان الرنة ذي القرون الطويلة والمتشابكة على الثلج، لأن حياة هؤلاء القوم تعتمد على التنقل من مكان لآخر طوال فصول السنة.

وسط هذه العربة تعيش إيفانا رفقة خمسة من أطفالها

 

في هذه المساحة المحدودة تعيش “إيفانا” رفقة أطفالها الخمسة، حيث تستعملها كمطبخ مُزوّد بموقد نار خشبي ومكان نوم وغيرها من الوظائف الأخرى، وأكثر من هذا فقد وجد المخرج والمصور “ريناتو بورايو سيرانو” رفقة المصورة “داريا سيدوروفا” مكانا لتثبيت الكاميرا، التقط من خلالها اللحظات القاسية والمبهجة لهذه العائلة التي تعيش وضعا مزريا، خاصة وأن الأطفال رُضّع صغار تصعب السيطرة عليهم، لكن الأم استطاعت أن تدربهم ليتحمل كل فرد منهم مسؤولياته، إضافة إلى نشاطها اليومي.

رحلة العائلة إلى الأب في المدينة.. خيبة الأمل

ولأن الحوار شبه غائب، فقد استطاعت كاميرا المخرج أن تقتنص العديد من اللحظات الإنسانية الفارقة التي عكستها قسمات الوجه والشقاء المستمر الذي يظهر على الأم وهي ترعى أطفالها بكل حُب ومسؤولية، فقد ركز على النصف السفلي من العربة، حيث تقوم الأم “إيفانا” بغسل الثياب والطبخ وممارسة نشاطاتها المختلفة، إضافة إلى تعاملها مع قطيع الرنة والتنقل خارج العربة.

هذا الوضع سمح للمشاهد أن يأخذ تصورا شاملا عن حياتها وأحلامها وكوابيسها وطريقة تعاملها مع الآخر، خاصة زوجها الذي تتواصل معه عن طريق هاتف الجيران، وبواسطة هذه المكالمات المقتضبة يمكن أن ندرك طيش هذا الزوج غير المسؤول، حتى إن “إيفانا” ذهبت إليه مع أطفالها إلى حيث يقيم في مدينة نوريلسك السيبيرية.

إيفانا مع زوجها عديم المسؤولية، حيث تركته لتعود إلى عربتها وسط الثلوج لتفكر في مستقبل أبنائها

 

لم تنل “إيفانا” من هذه المعايشة ما كانت تتوقعه، فالزوج ما زال غير مؤهل ولا يتحمل المسؤولية، لتتركه بعدها وتعود إلى عربتها وسط الثلوج، لكن هذه المرة تفكر في مستقبل أبنائها، فبعد سنوات تبدأ العمل في أحد المصانع في المدينة، وهناك تنطلق في حياة مختلفة وجديدة كليا عن ما سبق وخبرته، وكأنها تسابق الزمن لتُعيد ترتيب حياتها مع الأحداث من جديد، بعد أن تغيرت حياة التندرا.

مقارنة الماضي والحاضر.. لوحة فنية في الشمال الأبيض

بعد أربع سنوات من الإحاطة بعائلة “إيفانا” صنع المخرج “ريناتو بورايو سيرانو” لوحة فنية مُحاطة بكثير من الجماليات التي تعكسها الصور البانورامية، من الثلوج والعواصف والأشجار المتراصة وقطعان الرنة والعربات المركونة والمسيرة، وصور البؤس والشقاء والمواجهة وحوارات الأطفال وبراءتهم، ونقاشات إيفانا مع زوجها وأصدقائهم.

هي الأجزاء الساحرة التي جمعها المخرج وقام بمونتاجها مع “إنج ليزي لانجفيلدت”، لتكون النتيجة عبارة عن خيط من الدراما أفرز بها جملة من الحقائق التي تعكسها حياة هؤلاء الذين يعيشون في مساحات شاسعة من البياض في الشمال، ويرفضون حياة المدن ومغرياتها تمسكا وانتصارا لأسلوب حياة ورثوه من الأجداد، وحُبا للعادات والتقاليد التي تسير عليها حياتهم اليومية وتتحكم فيها.

عندما تتقاطع الحياة القديمة ممثلة في عربات الرنة مع الحياة الجديدة ممثلة في السفن التجارية

 

وكأن هذه الأسئلة المشروعة تحيل مباشرة لفتح مقارنة بين القديم الذي تمثله هذه الحياة، وبين الجديد الذي تعكسه حياة المصانع ممثلة في شركة “غاز بروم”، وكأن هذه المصانع تقوم بانتصارات اقتصادية ومالية ظرفية على حساب البيئة وتغيير المناخ الذي أفسد حياة “إيفانا”، وبات يُهدد عشرات المساحات والعائلات التي تعيش على هذا الأسلوب منذ آلاف السنين.

كما يُظهر الفيلم دور المرأة المحوري في عملية بناء الأسرة والاهتمام بها، والمسؤولية الكبيرة التي تتحملها من أجل أبنائها، وكل هذا على حساب صحتها ووقتها وحتى حياتها، وخير دليل هو ما حدث مع “إيفانا” التي كانت مثالا للتضحية في سبيل الآخرين.

“ريناتو بورايو سيرانو”.. نجم المهرجانات الوثائقية وصائد الجوائز

“ريناتو بورايو سيرانو” هو مخرج أفلام وثائقية تخرج من جامعة جيراسيموف للتصوير السينمائي، وفي العام ذاته أكمل دورات تدريبية في مدرسة “مارينا رازبيشكينا” و”ميخائيل أوجاروف” للمسرح والأفلام الوثائقية.

منذ عام 2014 اختيرت أفلامه في عدد من المهرجانات السينمائية الدولية، ومن بينها “فيلم لكارلوس” (Film for Carloss) الذي حصل على جائزة في مهرجان لايبزيغ السينمائي للأفلام الوثائقية عام 2017، وفاز بتنويه فخري من لجنة التحكيم في مهرجان آرت دوك بموسكو 2017، كما حصل على جائزة أفضل فيلم قصير في دوكيو دايز بأوكرانيا عام 2018.