“عاش يا كابتن”.. إرث مُدرب مصري يصنع الأبطال من العدم

يفتتح وثائقي المخرجة المصرية مي زايد مساره بالفقرة التالية “عام 2003 تُوجَت نهلة رمضان وهي في سن الخامسة عشر من عمرها بذهبية بطولة العالم للكبار في رياضة رفع الأثقال، وكانت أول رياضية مصرية حققت هذا الإنجاز، فمهدت الطريق لكثير من الفتيات الصغيرات كي يَحلمن مثلها ويَسِرن على خطاها”.

الإشادة بالبطلة واضحة في الفقرة التمهيدية، لكن ثمّة بطل آخر مرتبط باسمها، إنه والدها الكابتن رمضان الذي يكرس له الوثائقي الجزء الأكبر من زمنه، مارا من خلاله على جوانب من حياته كمدرب رياضي، وكإنسان عصامي كرّس جهده من أجل فتيات صغيرات أراد لهن تحقيق أحلامهن بالفوز مثل ابنته، ونيل بطولات دولية في رياضة رفع الأثقال، ومن جهده المبذول في تحقيقها لا يريد رمضان أكثر من تحية خجولة، مثل تلك التي وجهها له الوثائقي في عنوانه “عاش يا كابتن”.

زبيبة ووالدها.. رحلة رياضية من مدينة يحيطها الفقر

في مدينة الإسكندرية ولمدة أربع سنوات تقريبا، لازمت كاميرا الوثائقي (المصري الألماني الدنماركي المشترك الإنتاج) الكابتن رمضان، ومعه الصبية أسماء رمضان المُلقبة تحببا باسم زبيبة (14 سنة).

أرادت منتجة الفيلم وكاتبة نصه ومخرجته مي زايد التركيز على الكابتن وابنته من دون إهمال لبقية الشخصيات، فالاهتمام بها نابع من اهتمام المدرب وقناعته الكاملة بأن لها مستقبلا واعدا. حيث أراد الوثائقي التعامل معها كعيّنة لفتيات صغيرات وجدن في الكابتن أبا ومدربا يساعدهن في تحقيق أحلامهن بالفوز بذهبيات بطولات محلية ودولية.

يمضي الوثائقي خلال تلك السنوات في رحلة رياضية وحياتية تُحيل تفاصيلها إلى واقع بلد ومدينة يحيط بها الفقر من كل جانب، وتنبثق من بين طياته آمال ورغبات في تجاوزه نحو آفاق أوسع وأرحب.

بوستر فيلم “عاش يا كابتن” الذي يحكي قصة المدرب رمضان بتعليم ابنته “زبيبة” وبنات الحي رياضة رفع الأثقال

“مصنع الأبطال”.. من رحم المعاناة يولد الإبداع

الرغبة في الحصول على الأفضل رياضيا تبدو مستحيلة التحقيق للوهلة الأولى وفي سياق الوقائع على الأرض، فالإمكانيات المادية والتقنية شحيحة جدا، والمتوفر منها جاء بجهد شخصي، ومن معونات رسمية قليلة يستجديها الكابتن استجداء.

مكالماته مع مسؤولي الأندية والقاعات تدلل على ذلك، وإصراره على مواصلة تدريبه للفتيات الفقيرات لا تحده عوائق، فقد تعلّم من تجربته الحياتية الصبر والعيش بأقل ما يتوفر، وهذا ما يحرص على نقله الوثائقي بتفاصيله.

يظهر الكابتن طيلة زمن الفيلم وهو يجهز المكان الذي يفترض أن يكون ناديا رياضيا بالمفهوم المتداول، وما هو في الواقع إلا عبارة عن أرض مهملة واقعة على حافة رصيف للمارة، يعمل بنفسه وبمساعدة الفتيات وعوائلهن على تجهيزه، ورغم بؤسه فإنه يطلق عليه “مصنع الأبطال” استحضارا لتاريخ شخصي حافل صنع فيه أبطالا لمصر في رياضة رفع الأثقال من العدم تقريبا.

من مكان تدريب وصناعة الأبطال في رياضة رفع الأثقال في أحد الأحياء الفقيرة في الإسكندرية

سواسية الجنسين في الأحلام والطموحات.. فلسفة الكابتن

لا يميل فيلم “عاش يا كابتن” -الحائز على عدة جوائز عالمية، ومنها جائزة “الهرم البرونزي” للعمل الأول أو الثاني في الدورة الأخيرة لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي- إلى الخوض في السياسة مباشرة، بل إنه بدلا منها يذهب لرصد مشاعر وانفعالات فتيات صغيرات يقتحمن عالما ذكوريا بامتياز.

اقتحام من دون ادعاء، لكنه مبني على قناعات مدرب يؤمن بحق الجميع في ممارسة الرياضة، فلا فرق عنده بين فتاة وصبي، لديه الجنسان متساويان في حبهم للرياضة، وفي أحلامهما وطموحاتهما.

من دون افتعال ينقل الوثائقي عالما أنثويا يكاد يغيب عنه الرجال، فجُلّ العلاقات داخل نادي الكابتن تتسيّدها المرأة، فالأمهات قريبات دوما من بناتهن، يساعدن على توفير مستلزمات استمرارهن في التدريب والتنافس، يأخذن بكلام المدرب ويلتزمن بما يوصي به من تعليمات متعلقة بالتغذية والتهيئة النفسية.

البطلة الصغيرة “زبيبة” خلال تدريباتها في رفع الأثقال من قبل والدها المدرب رمضان

صعود المعنويات وسقوطها.. مدرب بمثابة أب

في عالم متعلق برياضيات صغيرات السن يخضعن لشروط التنافس الرياضي، هناك دوما صعود وهبوط في المستوى النفسي والمعنويات.

ذلك ما يرصده الوثائقي من خلال السنوات التي يقضيها مع الكابتن وبطلاته، فمع كل تقدم وإحراز لنتائج جيدة ترتفع معنويات زبيبة، وتنخفض عند كل فشل، فكلامه الفظ معها يزيد من حزنها، لكنها سرعان ما تنساه، لتعود وتلتزم بما يريده منها.

خلال سنوات تأكدت زبيبة وبقية الفتيات من أن الرجل الذي يتدربن على يديه هو بمثابة أب حقيقي لهن أجمعين، إذ يراعي مشاعرهن ويحرص على توصيلهن إلى المراتب الرياضية التي يحلمن بالوصول إليها، وبالتجربة يقدم لهن مثالا يحتذى، ويقدره الناس البسطاء في كل مكان.

 

حميمية الكاميرا.. فرصة عفوية لالتقاط التفاصيل

ينقل الوثائقي حالة الفقر المستشري في كثير من مناطق الإسكندرية من دون إقحام لخصوصيتها، وهذا الجانب يمنح الوثائقي حميمية، ويوفر لنفسه بذلك فرصة نادرة لتفاعل الشخصيات بعفوية داخله، فليس هناك خشية من كاميرا المصور محمد حديدي، بل ليس هناك انتباه لوجودها، وقد كان نسيانها واحد من عوامل تحقيق شرط الوثائقي الجاد المخطِّط لمصاحبة زمنية طويلة مع أبطاله، ومكوث مستمر في المكان، أملا منه في توثيق صادق له وللناشطين داخله.

يرصد طول الملازمة بين الفتيات تآزرا نادرا نابعا في جوهره من المشتركات الكبيرة بينهن، حيث يكاد التنافس ينعدم بينهن، والسبب وراء ذلك هو الكابتن نفسه، فقدرته على إيجاد المشتركات نادرة فطرية بطابعها، إذ أنه لا يميز بين بناته إلا بمقدار ما يحقق لكل واحدة منهن ما يناسبها، وما يضمن له فوز فريقه في البطولات.

في كل بطولة ترصد الكاميرا التقدم الحاصل للرياضيات، ومنها ينطلق الوثائقي لرصد جوانب حياتية أخرى، ويعتمد على المونتاج في تحقيق ذلك الجانب الحيوي فيه (توليف مبدع لسارة عبد الله).

البطلة “زبيبة” التي بدأت تنال الميداليات المحلية في رفع الأثقال خلال تدريبها في الإسكندرية

روح المكان.. معدات تدريب بأبسط الوسائل

سنة بعد أخرى تتقدم زبيبة خطوات نحو تحقيق المزيد من البطولات ونيل الميداليات المحلية، وعبر شاشات التلفزيون يتابع الكابتن أخبار بطلاته السابقات وهن يحققن انتصارات في بطولات عالمية، فالمشهد محفز للبقية نحو التقدم، لكن الإمكانات تؤخر بلوغه.

يتجاوز الكابتن بصبر كل عقبة تقنية، ويبني معدات تدريب ثقيلة بأبسط الوسائل والتقنيات من ماله الخاص، فهو وكل أعضاء فريقه يتدربون عليها، ولا يهمه مقدار تطابقها مع المقاييس العالمية، لأنه يعرف بالتجربة كيف يروّضها لصالح تقوية أجساد ومعنويات بطلات ليس أمامهن خيارات كثيرة.

لا يحيط الكابتن تحركاته وجهده بتعظيم ذاتي، بل إنه على العكس يميل إلى المرح والغناء ويحول اللحظة الحرجة إلى سعادة حقيقية يعرف كيف يسربها إلى دواخل المحيطين به.

تلعب الموسيقى التصويرية -التي صنعتها ماريان منتروب وبريان ديربي وسمير نبيل- دورا مهما في نقل روح المكان وأجوائه، فعلى طول مساره ثمة أشخاص يدخلون على خطوط عمله، وسرعان ما يتأثرون بأسلوبه ويندمجون مع الجو الذي يجمع فيه الكابتن بين أقصى درجات الجدية والصرامة، وبين المرونة والمرح.

 

لغة الخطاب المُحيّرة.. خشونة التدريب ولين الأبوة

يواجه المتدربون داخل خيمة النادي المهترئة أحيانا سخرية من طلبة عابرين أو شباب متحرشين، وقد تعلمت الفتيات بالتجربة كيفية التعامل معها، بينما يأخذ الكابتن على عاتقه مجابهة المتجاوزين حدودهم بأقذع الشتائم.

مستوى لغة الكابتن مُحيّر، فهو يجمع فيه ببساطة بين الفجاجة وبين اللين الأبوي، فلا أحد يغضب منه حتى أمهات الرياضيات، إذ يتقبلن برضى قسوة ملاحظاته وصراخه أحيانا، لأنهن يعرفن أنه صادر من قلب مُحب لا يضمر شرا لبناتهن، وكل ذلك يتسرب ببطء خلال مسار زمني طويل.

صناعة البطل الفردي في الأماكن الفقيرة.. شروط اللعبة

لا يترك الوثائقي مجالا لإقحام خارجي يتجاوز ما هو مخطط له، بل يريد أن ينبع كل شيء من داخله، حيث يقبل بشحّ المعلومات المتعلقة بشخيصة الكابتن، لأنه بطبعه لا يميل للحديث عن نفسه وتاريخه، فما يقدمه يكفي لمعرفة ولَعه وشدة حبه لرياضة رفع الأثقال التي حقق فيها نجاحات كبيرة سجلت باسم بلده، وهذا ما يريده اليوم من تلميذاته.

يربط الكابتن في تحركه وحماسته بين مفهومي صناعة البطل الفردي، واستثمار منجزه واسمه لصالح العام، فهو يعرف جيدا معنى أن يتجاوز الفقير فقره عبر لعبة رياضية، وهذا ما يريده بالضبط لأبناء المناطق الفقيرة، ولا يشترط أي مستوى مادي أو وضع اجتماعي جيد لممارستها، فهو يؤمن أن لكل واحد الحق في أن يصبح رياضيا كبيرا، بشرط الشغف والجدية والانضباط، وذلك ما يؤكد عليه في سلوكه وتدريباته.

الخيمة التي كانت مكانا للتدريب أضحت اليوم أرضا مهجورة بعد وفاة صاحبها المُدرب رمضان

انطفاء الأضواء.. موت مفاجئ يُخيّم على المكان

يكشف موت المدرب المفاجئ عن حجم تأثيره على زبيبة وبقية الفريق، فقد أطفأ خيمة النادي ليلا وذهب لينام نومته الأبدية بهدوء، دون أن تظهر عليه أعراض مرض أو تعب.

يحيط  الوثائقي غيابه بعناية لأن الكثير من الأشياء بعده قد تغيرت، وأظهر موته أنه كان العمود الفقري لذلك النشاط الرياضي الجميل، حيث تركت “زبيبة” التدريبات، وتحوّل المكان إلى أرض مهجورة، ومات الزرع الذي كان يسقيه بنفسه، وتمزقت الخيمة التي كانت تشهد حراكا رياضيا حيويا وعلاقات زمالة وصداقة منسوجة بروح إنسانية حقيقية.

على خطاه سيسير من أراد لذكراه أن تبقى محفورة في قلوب رياضيين صغار شملهم برعايته وحبه الصادق، حيث يأخذ مساعده مكانه، ويلتزم بنفس مبادئه تدريبا وقيما، وابنته البطلة نهلة تعمل من دون كلل لمساعدة زبيبة على تجاوز حزنها وعجزها عن تقبل العودة للمنافسات من دون وجود الأب الذي رافقها لأكثر من ثلاث سنوات. حيث مات وهي في عامها الـ17، وفي سن النضج كان عليها حمل رايته ورفع اسمه من خلال الفوز بالبطولات المحلية الممهدة للوصول إلى العالمية.

 

عثرات الفقد ومسند الأمل.. تناقض المشهد

كانت المشاهد الأخيرة التي تلت موت الكابتن رمضان من بين أكثر المشاهد دراماتيكية، وذلك لاجتماع عنصرين متناقضين فيها هما الفقد والأمل، حيث فقدان المدرب والأمل برفع اسمه والحفاظ على موروثه الرياضي.

بروح طافحة بالأمل تستعيد زبيبة قوتها، وبمؤازرة زميلاتها وصبر مدربها الجديد تخرج من حزنها لتمضي في ذات الطريق الذي مضت فيه ابنة الكابتن قبلها نهلة رمضان عبد المعطي.

إن فيلم “عاش يا كابتن” هو فيلم عن الأمل والإصرار على تجاوز الواقع الصعب بعزيمة رافعي الأثقال.