“عَمْرَة والعِرس الثاني”.. السعودية بعدسة مخرج الكوميديا السوداء

محمد علال

 

كيف تبدو المملكة العربية السعودية من الداخل؟ وما الذي تخفيه الحقيقة خلف الصورة النمطية التي يرسمها الإعلام الغربي لواحد من أكبر المجتمعات العربية والإسلامية يوصف بـ”المتحفظ”؟

عندما تصر الأنظمة على رسم خط واحد لصورة “العربي” فحواها مجتمع محافظ جدا وملتزم جدا يسوده تقدير المرأة للرجل، ولا تقديس إلا للعادات والتقاليد بعد الدين والقانون.. من هنا انطلقت فكرة فيلم “عَمْرَة والعِرس الثاني” للمخرج السعودي محمود صباغ الذي عاد بفيلم قوي جدا بعد عامين من تقديمه لفيلمه الأول “بركة يقابل بركة”، ونجح المخرج في تمرير فيلمه الحالي للعرض العالمي الأول للفيلم السعودي من بوابة الدورة الـ62 لمهرجان لندن السينمائي الدولي في 21 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، وذلك ضمن برنامج “ضحك” (LAUGH) الخاص بالأفلام التي تحمل لمسة ساخرة وكوميدية.

يقود محمود صباغ (35 عاما) الفيلم السعودي كمنتج ومخرج وسيناريست، ليسرد حكاية اجتماعية تغوص عميقا في بحر العادات والتقاليد والقوانين والأعراف للبلد الذي ولد وعاش فيه لسنوات طويلة من عمره، مما جعله يفكك ملامحه بسهولة كبيرة بعد أن اختار قصة سيدة متزوجة وربة بيت تدعى “عمرة” بملامحها السمراء وشعرها الأشعث المنكوش الذي اشتعل شيبا رغم أنها لم تتجاوز سن الأربعين.

 

عمرة أم البنات وحلم زوجها بالولد

ومن خلال المشهد الأول يُصرّ المخرج على الكوميديا السوداء في كل خطوة للتعريف بشخصيات الفيلم، وقد تشكلوا من عمرة التي جسَّدت دورها الممثلة السعودية الشيماء طيب، وثلاث بنات وجدّتهم “أم عمرة” العجوز المريضة التي تشكل الحلقة الأضعف في الأسرة، فيما يشكل جبروت حماتها “أم زوجها” الحلقة الأكثر إثارة وإزعاجا في حياة عمرة، بينما لا يظهر الزوج في الصورة إلا مرة واحدة رغم أنه سبب المشاكل كلها.

دائما قبل اتخاذ قرار الرحيل هناك فرصة أخيرة وعشر دقائق للتفكير، يمكن أن نفكر مثلا كيف نقلب حياة الآخر رأسا على عقب؛ إما انتقاما وإما بحثا عن سبيل لقطع الطريق أمام الوافد الجديد إلى قلب من نحب.

يجعل المخرج من مهمة عمرة مهمة نبيلة نتعاطف معها جدا وهي تكافح من أجل حماية مستقبل أبنائها ووالدتها، وهو ما يقتضي وضع حد لأحلام الزوج في المرور إلى زوجة ثانية، فالهمّ الأكبر بالنسبة لها هو الحفاظ على الأسرة بعد أن وصلت مشاعرها كامرأة إلى مرحلة تتشابه فيها كل النساء حيث الروتين وفتور مشاعر العشق بعد 25 عاما من الزواج.

عمرة التي لم تنجب الولد تصدم حياتها بجدار كبير، ولا مفر إلا بقرارين، إما الانفصال وإما القبول بزوجة ثانية قادرة على أن تجلب الفخر للزوج. هنا تبدأ المعاناة الكبرى لـعمرة التي أنجبت ثلاث بنات لكنها لم توفَّق في أن تجلب الولد الذي يحلم به كل رجل شرقي، ولن تكتمل رجولة الزوج -حسب مفهوم والدته- لو لم تنجب له ولدا.

عمرة التي قامت بدورها الممثلة السعودية الشيماء طيب، وبناتها الثلاث وجدّتهم “أم عمرة” العجوز المريضة

 

كوميديا سوداء عن الدين والعادات

يختار كاتب السيناريو الرهان على عقدة تبدو بسيطة ومتكررة شاهدناها في عدة أعمال سينمائية عربية، فحكاية الولد ظاهرة عامة ظلت تنخر جسد الأسر والعائلات، وقد سردتها السينما العالمية في أفلام عدة مثل فيلم “الخطة البديلة” (2010) بطولة جينيفر لوبيز الذي تحدث بطريقة ساخرة عن العقم، وفي السينما العربية نجد فيلم “جري الوحوش” (1987) للمخرج علي عبد الخالق، وهي تجارب سينمائية تحاور موضوع الإنجاب بطريقة كوميدية.

أما فيلم “عمرة والعرس الثاني” فإن الأمر يتطلب كمّا كبيرًا من الكوميديا السوداء للحديث عن الدين والعادات وحتى السياسة لتشريح المجتمع السعودي، وقول ما لا يريد النظام سماعه، ورسم صورة من الداخل، والقفز فوق الخطوط بكل ألوانها الحمراء والسوداء والخضراء بفيلم مذهل في المونتاج والسيناريو والحوار وأداء الممثلين.

تحولت والدة الزوج إلى عاصفة كبرى تعكر صفو حياة عمرة الهادئة ليس فقط بقرارات زوجها الفوقية التي تأتي تباعا بلسان والدته المحامية عن قرار ابنها والتي تُدين بشدة عمرة بتهمة العقم من أجل فرش الورود للزوجة الثانية -وهو قرار يمهد له الدين الطريق بأربعة زواجات- لكن منحى الحزن هذا في حياة عمرة لا يشكل إلا جزءا بسيطا من معاناتها لسنوات طويلة، فلم تكن حياتها بخير في أي وقت من الأوقات بل كانت منعرجات مرهقة مع إعالة بناتها الثلاث وأمها المريضة، واليوم أصبح على عاتقها حِمل جديد وعليها أن تتصالح مع الوضع أو البحث عن مفر.

لقد تطلّب إنجاز الفيلم روحا سعودية ومخرجا سعوديا وفريق عمل سعودي من الممثلين والتقنيين يعرفون التعامل مع أبسط تفاصيل الحكاية وترويض الحوار في رحلة تفريغ صناديق الأسئلة، وتسليط الضوء على كل ما هو بإمكانه صُنع كوميديا سوداء وتحليل الواقع.

ساهم الكاستينغ (تجارب الأداء) في تمرير الرسالة، فالسُّمرة على وجوه الممثلين السعوديين وملامحهم العربية كانت الأقرب لتشريح جسد المجتمع السعودي المنهك -فيما يبدو- بالتناقضات، حيث تعترض طريقه العادات والتقاليد في كل خطوة يخطوها نحو العقل والمنطق، وهو ما لا يخفيه المخرج محمود صباغ وأعلن ذلك صراحة خلال إجابته على أسئلة الجمهور عقب عرض الفيلم في قاعة سينما “كارزون مايفار” بلندن.

الفيلم ينبش في نظرة الرجل السعودي للمرأة، وهي النقطة التي كانت محور الفيلم

 

عمرة تبحث عن حل

يختصر الفيلم علاقة المواطن السعودي بالدين، يُعرّي التناقضات بشجاعة ويقدم صورة كاريكاتورية لرجال القانون والدين، وينبش في نظرة الرجل السعودي للمرأة، وهي النقطة التي كانت محور الفيلم الذي انطلق منها ليحكي وجع الزوجة الأولى التي تجد نفسها أمام اختيارات صعبة جدا بعد 25 سنة من الزواج، ولسان حال الصورة يقول إنه لا فرق بين السجن المؤبد والزواج تحت سقف كل تلك العادات البالية.

في هذه الدوامة تجد عمرة نفسها أمام أربعة سيناريوهات، فكما يقول نزار القباني “هــذا التمزق.. هذا العذاب الطويلا الطويلا، وكيف تكون الخيانة حلا؟ وكيف يكون النفاق جميلا؟” في قصيدة “ما بين حب وحب”، وذلك من أجل الوصول إلى نتيجة إيجابية بأقل الخسائر.

فالبداية بالنسبة لعمرة بالتضرع إلى الله وبالاستخارة كحل يبدو منطقيًّا جدا في مجتمع يعلو فيه صوت الدين، لكن المخرج يجد من هذا الحل فرصة لتعرية الجانب “المنافق” لدى بعض الشخصيات التي تستخدم الدين بحثا عن المال والسلطة، وفي هذا الطرح جرأة كبيرة من مخرج سعودي شاب، خاصة وأنه يعرج إلى فشل هذا الحل، لتزداد معاناة عمرة.

يقودنا المخرج إلى الحل الثاني الذي يأتي بعيد المنال معقدًا وحجم الخسائر فيه أكبر، فكيف يُعقل أن تواجه سيدة أربعينية أزمتها مع زوجها الذي يتخذ قراره بالزواج الثاني بسهولة، كيف يمكن للقانون أن ينصف من يصفهم بـ”حطب نار جهنم”؟ وهكذا أصبحت الخطوة الثانية سرابا يدق خطاه على الرمل. ويحاول الفيلم المضي أبدا في رحلة مساعدة عمرة المغلوب على أمرها.

وتبحث عن طريق في السِّحر.. “ربما أنت مصابة بسحر أسود بشع” هكذا تقول لها صديقتها الحميمة التي لا يبدو أن هناك شخصا آخر قرر أن يكون إلى جانبها في الحي بعد أن هجرها الجميع وأصبحت عورة تشوه نسيج المجتمع، منبوذة من طرف الجميع بسبب إصرارها على رفض الزوجة الثانية.

الجانية في طريقها لارتكاب جريمتها متعمدة إحراق خيمة حفل زوجها بامرأة ثانية باستخدام “البنزين”

 

انتقام بـ”البنزين”

يروي الفيلم في قالب واقعي ممزوج بالكوميديا السوداء تفاصيل حلّ آخر يقوده أنصار حرية المرأة والمنظمات الإنسانية للانتقام من كل الذين طلبوا اغتيال المرأة باسم المجتمع وصفّها في الركن المنسي، وسرعان ما نكتشف فشل كل تلك الحلول، وأزمة المرأة مع المجتمع الذكوري، لكن المخرج يصرّ على مرافقة أحلام عَمرة حتى آخر لحظة. ويركز على تفاصيل الحياة اليومية والروتين القاتل الذي يحاصر أحلام الأجيال القادمة، وهو ما جسده المخرج في علاقة الأطفال بأمهم  عَمرة، و التي تبدو علاقة متوترة جدا، بسبب اهتمامها الزائد بالجدة على حساب اهتمامها بهم.

ونظرا لكمية الكوميديا فإن الأمر يشعرنا بأن الفيلم غير حقيقي، إلى أن يقرر المخرج الخروج إلى الواقع والإشارة إلى واحدة من أشهر حوادث انتقام الزوجة الأولى من الزوجة الثانية، وهي الحادثة الشهيرة التي تعود إلى عام 2009 حينما استخدمت الجانية “البنزين” لارتكاب جريمتها متعمدة إحراق خيمة حفل زوجها بامرأة ثانية، وهو ما نتج عنه جريمة قتل لـ56 امرأة وطفلاً داخل الخيمة.

منتج ومخرج وسيناريست فيلم “عَمْرَة والعِرس الثاني” محمود صباغ

 

فيلم سعودي.. هل من أمل في عرضه؟

زادت الكوميديا السوداء من شغف الجمهور لمعرفة المزيد عن واقع المجتمع، وقد تفاجأ المخرج بموجة من الأسئلة طرحها ضيوف المهرجان من عدة دول، خاصة وأن الفيلم يأتي في زحمة الجدل عن مصير الصحفي السعودي جمال خاشقجي، مما أسال لعاب الجمهور لتتبع فيلم عن السعودية، فقد كان كل شيء مهيأ ليرفع من مستوى الاهتمام بالعمل الثاني لمحمود صباغ، وقد بدا جاهزا من جهته للرد بكل حرية على الأسئلة فيما يخص الفيلم، وغيرها من المواضيع التي تتعلق بواقع قاعات السينما في السعودية بعد رفع المملكة راية الانفتاح.

وقال المخرج ابن مدينة جدة “العمل ليس سهلا، لم يكن سهلا يوما، فعندما أنجزت فيلم بركة يقابل بركة لم تكن هناك أيّة قاعة سينما في السعودية، هناك إرادة كبيرة لدى الشباب لكن لا وجود لفرصة”، وأضاف “صوَّرنا الفيلم في السعودية، وكانت الإرادة والرغبة في إنجاز فيلم هو حافزنا الوحيد”.

الجرأة التي جاءت في الفيلم تفسر قلق محمود صباغ على مستقبل الفيلم، فبعد عامين من العمل بين التصوير والإنتاج والمونتاج يأتي وقت السؤال المحوري الذي يؤرّق أي صانع فيلم خاصة في بداية طريقه “هل سيعرض الفيلم، أين وكيف، أم سيتعرض لمقص الرقيب؟”. في هذه المحطة لا يخفي المخرج السعودي تخوفه من مقص الرقيب، ولكنه لا يبدي في مقابل ذلك امتعاضًا شديدًا، فالأمل في عرض الفيلم يبقى قائمًا، وهو على استعداد لحذف بعض المشاهد لتحقيق الحلم، وقال “أتمنى عرض الفيلم، ربما سيطلبون حذف بعض المشاهد، لكن هذا لا يساوي شيئًا أمام التحدي الكبير”.

لقطة من فيلم “بركة يقابل بركة” للمخرج محمود صباغ، والذي لم ير النور في أيّة قاعة عرض في جدة والرياض رغم الاحتفاء العالمي به

 

انفتاح سعودي.. ولكن

وكان للمخرج تجربة مريرة في هذا السياق مع المشرفين على المشهد السينمائي السعودي، فلم يرَ فيلمه الأول “بركة يقابل بركة” النور في أيّة قاعة عرض في جدة والرياض رغم الاحتفاء العالمي به، ورغم اختيار السعودية له ليكون ممثلا عنها في أوسكار 2016. هذه التناقضات جميعها جعلت من مخرج الفيلم متفائلًا في ظلّ التعديلات الجديدة وما يروج له من نهضة سينمائية، لكنها تبقى “ثورة” باهتة مشتتة تتخبط بين الأفلام التجارية كما قال.

فيلم بهذا الشكل احتاج فعلا لروح شابة تؤمن بالحرية، تعلمت الكثير من احتكاكها بالمجتمعات المختلفة، فمحمود صباغ من مواليد 1983 ويحمل حماس الشباب، حيث درس الإخراج في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد ساعده رهانه على المواضيع المحلية السعودية في أن تفتح له عدة مهرجانات عالمية أبوابها، فهذه ليست المرة الأولى التي يزور فيها محمود لندن، فقد سبق أن راهن عاصمة الضباب على فيمله “بركة يقابل بركة” بعد أن دخل مسابقة “منتدى” لمهرجان برلين السينمائي عام 2016.