“فريدا كاهلو”.. لوحة وثائقية تجسد آلام أيقونة الرسم المكسيكية

قيس قاسم

يرسم المُخرج البريطاني “علي راي” في وثائقيه الجديد “فريدا كاهلو.. الأيقونة والفنانة” (Frida Kahlo: The Icon, Artist) بورتريه سينمائيا مبهرا للرسامة المكسيكية الشهيرة “فريدا كاهلو”، مستوحيا تفاصيله من أعمالها التي تشابكت مع تجربة حياتها المليئة بالإبداع والأوجاع.

ورغم قصر عمره فريدة (1907-1954) فإن ما أنجزته خلاله وما رافقها من تقلبات تراجيدية عبرت عنها تشكيليا بصراحة غير مألوفة، أبقتها موضع اهتمام شعبي وأكاديمي، وأضحت مع اطلاع الناس على ما تحملته من آلام نفسية وعجز جسدي قلّص حركتها، وأقعدها فترات طويلة على سرير المرض؛ أيقونة ورمزا لصلابة الفنانة والمرأة وهي تواجه أقدارها بشجاعة.

على المستوى السينمائي، نقلت عدة أفلام جوانب من حياة الأيقونة المكسيكية إلى الشاشة، لعل أبرزها فيلم “فريدا” (Frida) الذي أخرجته “جولي تايمور” عام 2002، ولعبت فيه الممثلة “سلمى حايك” واحدا من أفضل أدوراها.

 

خطوط الحياة والفن.. بين خيال الروائي وتحليل الوثائقي

المقاربة بين الفيلمين الروائي والوثائقي واردة، بسبب انشغالهما الشديد بنقل مشاهد واسعة من حياتها، مع وجود فوارق جوهرية في أسلوب تناولها ومعالجتها، وأبرزها يكمن في تركيز الوثائقي الجديد على فنها ولوحاتها، ومنها يذهب ليُكمل رسم بورتريه شخصي عن حياتها، بينما ينشغل الفيلم الروائي الأمريكي أكثر بحياتها العاطفية، مهملا إلى حد كبير منجزها الفني المهم.

كرّس الروائي معظم زمنه بعلاقتها العاطفية مع الفنان المكسيكي العالمي “دييغو ريفيرا” (الممثل ألفريد مولينا) وزواجهما الذي مرّ بمراحل متقلبة أثّر كثيرا على الرسامة “كاهلو”، وسبّب لها أوجاعا نفسية ضاعفت من أوجاعها الجسدية.

نقل الفيلم الروائي تلك العلاقة على الشاشة، بينما أعطى الوثائقي البريطاني للوحاتها الدور الأكبر لنقل حياة مُبدعتها إلى الشاشة. ولتفسير وتحليل معانيها وخطوطها، طلب صانع الوثائقي من أكاديميين ومحللين ونقاد تشكيليين دراستها وإحالة كل تفاصيلها إلى جانب من حياتها الشخصية الذي ينقله مشفوعا بصور وتسجيلات فيلمية (بعضها أعيد تمثيله)، وبأرشيف غني وفرته له متاحف فنية، ومؤسسات معنية بحفظ ثراها ومنجزها.

الفنانة “كاهلو” ترسم وهي على سريرها بعد أن اصطدمت بحافلة وأجريت لها الكثير من العمليات المعقدة

 

وجه اخترقته المسامير.. آلام الجسد على لوحات الفن

تظهر “كاهلو” في المشهد المعاد تسجيله تمثيلا وهي تكتب رسالة شخصية تخبر المرسل إليه بحيرتها من أين ستبدأ بكتابة سيرتها، وكيف ستصف ما تشعر به من آلام جسدية بسبب حادث السير الذي تعرضت له في مطلع شبابها، وعطّل أجزاء من جسدها. وتتساءل بشك عن ما إذا كانت تستطيع تحمل المزيد من الألم أو السكوت؟

تقترب كاميرا الوثائقي بعد ذلك من لوحة تُجسّد وجه الفنانة وقد اخترقته المسامير، بينما كانت تتطلع بهدوء إلى نقطة بعيدة.

ترى باحثة فنية ومحللة لأعمال “كاهلو” أن الألم كان واحدا من الدوافع القوية لمثابرتها على الرسم، ومن خلالها اتضحت موهبتها وعبقريتها كفنانة تستطيع التعبير عن دواخلها بالريشة، وبأسلوب فطري مبتكر لم يجربه أحد من قبل.

لم تدرس الأيقونة المكسيكية الرسم أكاديميا، بل تعلمته بنفسها، كما أنها لم تكمل دراستها، والسبب يعود للحادث المأساوي الذي غير كل حياتها.

تخطيط بسيط على الورق لحادث السير الذي وقع في أحد شوارع العاصمة مكسيكو، وسبب كسور للرسامة كاهلو

 

قطار خارج السكة.. بداية الرحلة إلى الفن التشكيلي

من تصويره لتخطيط بسيط على الورق نقلت فيه رسامته حادث سير وقع في أحد شوارع العاصمة مكسيكو، ينتقل الوثائقي ليجسد بنفسه ذلك الحدث الذي تعرضت له “كاهلو” عام 1925 تمثيلا.

فقد كانت مع صديقها في طريقها من المدرسة إلى البيت، وفجأة تصطدم الحافلة التي تحملهم بقطار خرج عن خطه، فاخترق الزجاج والحديد جسدها وأصابها بكسور شديدة في العمود الفقري والحوض، وأُدخلت على إثر ذلك المستشفى، وأجري لها كثير من العمليات المعقدة، وتوقع الأطباء لها عجزا دائما عن الحركة.

خلال مكوثها في المنزل كان صديقها يعطيها كتبا عن تاريخ الفن التشكيلي الأوروبي، فتأثرت باللوحات الذي تضمنتها، وبدأت الرسم بوحي من بعضها.

هكذا بدأت، ومع الوقت أخذت تصقل موهبتها كرسامة بنفسها بعد أن تركت دراستها الثانوية التي كانت تحلم أن تدخل كلية الطب بعد إتمامها، شجعها والدها على الرسم، وأمّن لها ما تحتاجه لمواصلة هوايتها، مع أنه كان يعاني من صعوبات مالية جدية بسبب تكاليف علاجها الكبيرة.

الفنان الثوري الملتزم “دييغو ريفيرا” المعروف برسمه على الجداريات الكبيرة

 

“دييغو ريفيرا”.. لقاء برمز الفنان الثوري الملتزم

ظلت الرسامة الموهوبة تعاني من آلام وأوجاع، وقد انعكست بوضوح في معظم لوحاتها، أما في الفترة التي أعقبت الحادث فتتسم بطابع “بورتريهات” تركز على وجهها، وبالأخص على حاجبيها الكثيفين المعقودين، وعلى ألوان الملابس القوية التي كانت تحب ارتداءها تمسكا منها بهويتها المكسيكية.

مع تحسن حالتها بعض الشيء، ومحاولتها المشي على عكازات أول الأمر ثم من دونها لاحقا، راحت تنشط في العمل السياسي، فانضمت إلى الحركات الثورية، وإلى الحزب الشيوعي المكسيكي، وخلال إحدى الاجتماعات تعرفت على رسام الجداريات الكبيرة الفنان الشهير “دييغو ريفيرا”.

كان “دييغو” وقتها رمزا للفنان الثوري الملتزم، فلوحاته تعبر عن أماني الناس البسطاء والعمال في التحرر من قيود الرأسمالية، وبناء عالم تسوده المساواة.

صورة تجمع الفنانة “كاهلو” بزوجها الرسام الشهير “دييغو”، والذي وُصفت علاقتهما بالفيل والحمامة نظرا لضخامة جسده

 

“زواج فيل من حمامة”.. أيام سعيدة وأعمال متفائلة

كان الرسام الشهير “دييغو” يؤمن بموهبة “كاهلو” وبجمال أسلوبها وتميزه، فتطورت علاقتهما بسرعة، وفي عام 1929 أعلنا زواجهما، وقد عارضت الأم ذلك الزواج الذي وصفته بأنه “زواج فيل من حمامة”، وذلك لضخامة جسده ولسمعته كفنان متعدد العلاقات النسائية.

أما والدها فقد قبل به، أملا منه في مساعدته على دفع بعض تكاليف علاجها الذي ظل مستمرا حتى بعد تركها سرير المرض، بسبب ما كانت تعانيه من أمراض أخرى.

خلال المرحلة الأولى من الزواج سادت مرحلة من الهدوء، وعاشت الرسامة سعادة حقيقية انعكست في أعمالها التي أخذت طابعا متفائلا، لكن ذلك لم يدم طويلا، فبعد مدة قصيرة من الزواج عرضت عليه مدينة ديترويت الأمريكية بداية ثلاثينيات القرن العشرين مشروعا فنيا، يرسم بموجبه عدة جداريات تعكس النمو الصناعي الحاصل في المدينة وملامح تطورها، لتبدأ “كاهلو” صفحة أخرى في حياتها.

سقوط الجنين.. سبب آخر لكره الحياة الأمريكية

لم تحب كاهلو أمريكا، فقد وجدت مدنها صناعية لا روح فيها ولا جمال، ولم يعجبها نمط الحياة فيها، وما زاد من سوداوية نظرتها إليها حادثة هو سقوط جنينها ودخولها إحدى مستشفياتها، إلى جانب خيانة زوجها لها.

تعكس لوحات تلك التجربة المرارة التي أحسّت بها، والشعور بالألم والغربة، لكن حسب النقاد والمحللين الفنيين فإنهم يرون في رسوماتها لتلك التجربة تكريسا لها كرسامة تجمع بأسلوبها الخاص بين التعبيرية الفطرية والسريالية، وأن لوحتها المعروضة في متحف “دولوريز ألميدو”، وعنوانها “الطفل والولادة” هي من أكثر أعمالها تعبيرا وجمالا عن مشاعر الفقد والخسارة.

كما تعكس الدماء التي تملأ مساحاتها حالات الخوف والغضب والقهر الذي كانت تعتريها لحظة سقوط طفلها الذي حلمت بولادته، رغم أن زوجها كان غير راغب به منذ البداية، مما وسّع الخلاف بينهما، وأجبرها على العودة إلى بلدها خائبة وحزينة.

 

متحف اللوفر.. موطن الترحيب النقدي وزمالة الكبار

على المستوى الفني، وبالرغم من الإحباط الشخصي فإن أعمال “كاهلو” استُقبلت في أمريكا بترحيب نقدي، وبيع كثير منها بمبالغ جيدة، وذلك أثناء إقامتها معرضها الشخصي الأول في مدينة نيويورك  عام 1938.

25 لوحة أعدها المعنيون بالفن التشكيلي المعاصر مُنجزا فنيا تثويريا، أما ملامحها وهيئتها العبثية الظاهرة في أكثر أعمالها فسيتخذها البوهيميون في كل أنحاء العالم رمزا لهم.

لم يمض وقت طويل على الرجوع من أمريكا، حتى قررت السفر إلى باريس للاطلاع على الحياة الثقافية فيها. وهناك استُقبلت لوحاتها بترحاب نقدي كبير، واشترى متحف اللوفر منها إحدى لوحاتها. وخلال مكوثها فيها تعرفت على أهم فنانينها، من بينهم “بيكاسو” و”كاندينسكي” وكثير من ممثلي الحركة السوريالية.

لقد أحبت باريس كثيرا.

“لوحات واقعية رُسمت بعين سحرية”.. خيبات الحياة

كانت علاقة “كاهلو” بالزعيم والمفكر الروسي “ليون تروتسكي” لا تأخذ في الوثائقي نفس المساحة الكبيرة التي أخذتها في الروائي الأمريكي، لكن دارسي شخصيتها يشيرون في الوثائقي إلى دورها في تسريع خطوات الطلاق من زوجها بعد طول هجر وانفصال.

تصف الرسامة أثناء مكوثها في منزل عائلتها المُلقب بـ”المنزل الأزرق” زواجها وحادث الحافلة بأنهما أسوأ ما تعرضت له من خيبات في حياتها، وكان الزوج “ريفيرا” هو الأسوأ بينها.

لوحتها “موت في الحياة” تعبير مكثف عنها كما يظهر من تحليل النقاد المشاركين في الوثائقي، فقد عادت “كاهلو” إلى الإسراف في تناول المُسكرات، مما أسهم في تدهور صحتها، كما عادت إليها آلام الظهر والتهاب المفاصل.

وقد عكست لوحاتها في المعرض السريالي العالمي في المكسيك حالتها تلك، وظهرت السماء في أكثرها مكفهرة، كان هذا معرضها الشخصي الأول في بلدها، ووصف أحد النقاد اللوحات المعروضة فيه بأنها “لوحات واقعية رُسمت بعين سحرية”.

ستُكثر خلال نهاية الثلاثينيات وبداية الأربعينات من رسم البورتريه الشخصي لضمان مبيعات جيدة، تؤمّن بمردودها المادي مصاريف عيشها وحيدة.

“كاهلو” و”دييغو” عادا إلى بعضهما بعد طول انفصال وتزوجا ثانية

 

عودة الفيل.. لحظات من السعادة قبل العاصفة

من غرائب العلاقة بين “كاهلو” و”دييغو” أنهما عادا إلى بعضهما بعد طول انفصال وتزوجا ثانية، حيث تظهر السعادة في كثير من الأعمال المُجسدة لتلك الفترة، لكن الأمراض لم تتركها، فقد أُجريت لها عدة عمليات معقدة لم تُحسّن من حالتها الصحية، فبقيت ممددة شهورا على السرير.

في تلك الأثناء يقرر الزوج وبعض الأصدقاء المقربين منها إقامة معرض جديد لأعمالها، فقد أراد “دييغو” منها البقاء في سريرها، وأن لا تحضر بنفسها على المعرض لسوء حالتها الصحية، بيد أن الفنانة القوية الشخصية لم تقبل بالعرض، وقررت الحضور، لكن ليس مشيا على الأقدام، بل وهي راقدة على فراش المرض، فقد طلبت من الحمالين نقلها مع السرير إلى هناك.

لم تصدق أعين الحاضرين وجودها وهي في حالة صحية سيئة، لكن استقبلها الأصدقاء بمرح، وأضاف وجودها بهجة غامرة سبقت قليلا إعلان موتها في الثالث عشر من يوليو/ تموز 1954.