“مذبحة ترامب الأمريكية”.. فوضى الرئيس الشعبوي المتطرف تهدد الديمقراطية

“حمام الدم الأمريكي ينتهي هنا.. لقد انتهى هنا بالفعل”. يقتبس المخرج الأمريكي البارع “مايكل كيرك”، هذه العبارة التي وردت على لسان الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب”، أمام حشد من مؤيديه عشية توليه الرئاسة، ليبني عليها مشروعه الوثائقي “مذبحة ترامب الأمريكية” (Trump’s American Carnage). ومن خلالها يقارب معاندة ترامب لكل السياسات والقرارات التي اتخذها قبله الرئيس الديمقراطي “باراك أوباما” كمحاولة منه لإصلاح جوانب من القصور الحاصل في المجتمع الأمريكي.

تلك السياسة أثارت حفيظة اليمين الأمريكي، ومن بينهم “ترامب” الذي تعهد بإيقافها بسياسات معاكسة لها، وتبدأ بزعزعة الثقة بالنظام السياسي الديمقراطي، وإشاعة روح الفرقة والكراهية بين مكونات المجتمع، إلى جانب تعزيز سياسة يمينية تضع مصالح الأغنياء فوق مصالح الجميع.

هذه السياسات والأفكار كما يخبرنا الوثائقي جرى تطبيقها عمليا، وبمنهجية مدروسة سار عليها “ترامب” خلال حملاته الانتخابية، وبعد هيمنته على قرارات الحزب الجمهوري وقمعه الأصوات المعارضة له داخله، وكتتويج لها جاء احتلال مقر مجلس الشيوخ والنواب “الكابيتول” من طرف مؤيديه الذين رفضوا الاعتراف بنتائج الانتخابات الأمريكية الأخيرة، ليعلنوا عن مذبحة سياسية شنيعة يقودها زعيمهم ضد كل ما يتعارض مع قيمه الشعبوية الرجعية.

“تعبنا من أكاذيب واشنطن”.. دعاية نسف هياكل الدولة

لمراجعة المسار التراكمي لسياسة “ترامب” ومنهجه، يعود الوثائقي التحليلي العميق إلى مرحلتين؛ الأولى التي ترافقت مع ترشيحه ثم فوزه بالرئاسة، والأخيرة التي خسر فيها الانتخابات، وقد لاحظ أن خطاباته في المرحلة الأولى شددت على نسف أسس الدولة وهياكلها القانونية، عبر شعارات مثل: “تعبنا من أكاذيب واشنطن”، وأخرى مشابهة منتقاة بدقة تتجاوب مع ميول وأفكار المتطرفين اليمينيين والعنصريين.

كان “ترامب” يقدم نفسه أمامهم كداعية للتغيير وبناء الدولة على أسس جديدة تكرس مبدأ “أمريكا العظمى”، وعليهم اعتمد كثيرا في نشر خطابه السياسي، ولتعزيز موقعه داخل الحزب الجمهوري، وفي الوقت نفسه راح يعمل على إضعاف القيادات التقليدية.

يركز الوثائقي كثيرا على دوره في لجم أصوات المعارضين له من داخل الحزب، ويكشف الأساليب التي اتبعها في إزاحة الأقوياء منهم عن طريقه، عبر تهديده لهم بحرمانهم من مواقعهم، ومن المنافع الشخصية المرتبطة بخطوط متشابكة مع مصالحه الاقتصادية الخاصة.

الوثائقي يركز كثيرا على دوره في لجم أصوات المعارضين له من داخل الحزب

حركات اليمين.. المتطرفون بعضهم أولياء بعض

أخافت أساليب “ترامب” القمعية معظم قادة الحزب الجمهوري، وهذا ما يفسر حسب المحللين في الوثائقي هيمنته على مقدرات الحزب وقراراته، من دون أن يواجه معارضة حزبية داخلية قوية، وقد عزز خطابه العنصري أيضا بالميول العنفية لدى المُنضوين لحركات يمينية متطرفة مثل “القوى البيضاء” و”كو كوكس كلان” وغيرها.

كانت حركات اليمين المتطرف تدعم “ترامب” في مسيرته، حتى أن حملاته الانتخابية شهدت مواجهات وتصادمات افتعلها هؤلاء المتطرفون ضد بقية القوى الديمقراطية المعارضة لنهجه، كل هذا مهد لإعلانه مرشحا رسميا للحزب في الانتخابات العامة، ففي تلك اللحظة لم يبق من بين الأقوياء داخل الحزب من يقف في وجهه.

يتابع الوثائقي بالتفصيل مواقف أغلب قيادات الحزب، وكيف أخذوا بالوقوف إلى جانبه، بما فيهم “مايك بنس” الذي عينه نائبا له بعد فوزه بكرسي الرئاسة، لكن الوثائقي لا يتجاهل كليا وجود أقلية معارضة ظلت محافظة على موقفها، مثلها “جون ماكين” العنيد، إذ يقدم الفيلم مثالا على عناده من خلال وقوفه ضد إلغاء مشروع “أوباما كير” الهادف لضمان تقديم الخدمات الصحية للفقراء ولذوي الدخل المحدود.

حركات اليمين المتطرف كانت تدعم “ترامب” في مسيرته

مظاهرات المعارضين.. يقظة الديمقراطية الأمريكية بعد سبات

يتابع فيلم “مذبحة ترامب الأمريكية” الخطوات التي أقدم الرئيس الشعبوي الجديد على تطبيقها، تماشيا مع أفكاره ونهجه السياسي، ومن بينها منع مواطني بعض الدول المسلمة من دخول الولايات المتحدة الأمريكية، مما أثار ضغائن شريحة كبيرة من المجتمع ضده، لكونها خطوة غير عادلة تعزز التشرذم والفرقة.

يوثق صانع الوثائقي ردود الفعل الشعبية التي عبروا عنها، من خلال المظاهرات السلمية التي وصلت إلى مطارات البلد، وطالبت بإلغاء القرار الجائر، يعتبر كثير من المحللين تلك المواقف الاحتجاجية بداية استيقاظ الديمقراطية الأمريكية مجددا.

منظمات النازية الجديدة.. انقسامات حادة في المجتمع الأمريكي

على المستوى المحلي يتابع الفيلم خطوات الرئيس الهادفة لنسف كل ما من شأنه محو مفهوم المواطنة وهدم أسس الدولة، وأخطر توجهاته تتمثل في السيطرة على القضاء وقراراته، من خلال تعيين مقربيه في أعلى الهيئات القضائية.

وعلى صعيد بروز التيار اليميني وحرية تحركه يرصد الوثائقي خروج قادة منظمات متطرفة تنتمي للنازية الجديدة إلى العلن، لتصرح دون مواربة بتأييدها وإعجابها بالرئيس وسياسته، ويقدم العنف الذي جرى في منطقة تشارلوتسفيل في ولاية فيرجينيا مثالا عليها.

وكنتاج لتحرك التيارات اليمينية المتشددة دون خوف أو خشية من محاسبة قانونية، كانت مواقف “ترامب” المنحازة في حادث إقدام أحد العنصريين على دهس متظاهرين سلميين بسيارته، مثارا لردود فعل عنيفة في الشارع الأمريكي عبرت عن انقسامات مجتمعية حادة تحدث بفعل تأييد رئيس الدولة لطرف معتدي على طرف آخر.

هذا الغضب من تصريحات “ترامب” وصل حدا لم يمنع النائب “جون ماكين” من الخروج علنا لانتقاده، بينما برر “بنس” موقف رئيسه وتحفظ عليه داخليا.

على المستوى المحلي يتابع الفيلم خطوات ترامب الهادفة لنسف كل ما من شأنه محو مفهوم المواطنة وهدم أسس الدولة

“مايك بنس”.. نائب الرئيس المتخاذل عن مواجهته

ظل “مايك بنس” طيلة وجوده نائبا للرئيس يسجل مواقفه خلف الأبواب المغلقة، ولم يتمتع بالشجاعة الكافية للتصريح علانية بها خوفا من معاقبة “ترامب” له، مثله مثل أغلب قيادي الحزب. هذا السلوك شجع “ترامب” على المضي بسياسته دون اعتبار لأحد، بل أوصله إلى قناعة بأنه أصبح الحزب كله عمليا، وما عاد يحتاج أحدا منهم بعد أن أصبح قادرا على التحكم بقراراته ويرسم سياسته.

ونتيجة لذلك فقد شجع مركزه الحزبي القوي ووجوده في البيت الأبيض مؤيديه من المتطرفين على رفع رؤوسهم عاليا، والخروج بأسلحتهم في الشارع لأخذ ما يريدونه بأيديهم.

يقدم الوثائقي مشاهد لميليشيات يمينية مسلحة أخذت على عاتقها منع دخول المهاجرين من أمريكا اللاتينية إلى داخل البلد، وقيامهم بحراسة الجدار العازل، وكأنهم مكلفون من قبل شرطة الحدود رسميا بذلك الواجب.

فضيحة أوكرانيا.. ثالث رئيس أمريكي يقف أمام القضاء

يمضي الرئيس في مذبحته السياسية حتى خارج الولايات المتحدة الأمريكية، ويتوقف الوثائقي لتأكيد ذلك عند طلبه أثناء خوضه المعركة الانتخابية الأخيرة، من الرئيس الأوكراني إجراء تحقيقات مع المرشح المنافس له “جو بايدن” وابنه، لغرض إثارة فضيحة سياسية ضده تسهم في إسقاطه مبكرا.

وقد قادت الفضيحة التي تلت التسريبات السرية للمحادثات الهاتفية مع الرئيس الأوكراني، إلى تقديم “ترامب” للمحاكمة، وبذلك يكون ثالث رئيس أمريكي يقف أمام القضاء.

مواقف الحزب المدافعة عنه برّأته من التهمة الموجهة إليه، مما دفع أحد المحللين للقول أمام عدسات الوثائقي إن تلك البراءة المبنية على الأكاذيب ستشجعه للمضي في طريقه، والتخطيط للفوز بالانتخابات بكل الطرق غير المشروعة، بما في ذلك اتهام منافسه زورا بسرقتها، وهذا ما حصل فعلا.

مناصرو ترامب يرفعون لافتات مناصرة له أمام البيت الأبيض

“جورج فلويد”.. دعم الجاني الأبيض ضد الضحية الأسود

بوقوفهم إلى جانبه أثناء المحاكمة، عمق قادة الحزب الجمهوري المخاطر التي تهدد طبيعة النظام السياسي الأمريكي، وستزيد مواقفهم المتخاذلة من قناعته بأنه الشخص القادر على فعل كل شيء، من دون أن يتحمل عواقب أفعاله.

هذا الإحساس بالتفوق سيزيد من انحيازه للعنصريين، وهو ما تجلى بوضوح أثناء المصادمات التي حدثت بين العنصريين من مؤيديه، وبين السود وبقية المحتجين ضد مقتل الشاب الأسود “جورج فلويد” على يد شرطي أمريكي أبيض.

وقتها خرج الرئيس من البيت الأبيض مع أبرز قادته مشيا على الأقدام، وتوجه نحو الساحة التي شهدت الصدامات الدامية، ليعلن موقفه المنحاز للعنصريين، داعيا قوات الجيش لاستخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين السلميين.

“أخطر من كورونا على أمريكا”.. تسفيه المخاوف الصحية

في زمن جائحة كورونا امتدت مذبحة “ترامب” إلى حقل الصحة، فبدلا من الأخذ بنصائح الجهات الصحية لمنع انتشار الوباء وموت آلاف المواطنين، من خلال الدعوة إلى الإغلاق العام في الولايات، فقد أخذ “ترامب” بالترويج لأفكار تسفه المخاوف، وتدعو القطاعات الاقتصادية إلى ممارسة نشاطها.

ظل “ترامب” يهاجم الديمقراطيين، ويصفهم بأنهم “أخطر من كورونا على أمريكا”، حتى في أشد فترات الوباء فتكا وازدحاما في المستشفيات بالمرضى والمصابين، وقد بلغ به الأمر أن دعا مؤيديه للخروج على مسؤولي الولايات الذين أمروا بإغلاق ولاياتهم للحد من انتشار الوباء.

يثبت الوثائقي بالتسجيلات الموثقة دخول واقتحام مؤيدي “ترامب” للبرلمانات المحلية وهم مدججون بالسلاح، وبعضهم يهتف عاليا “عاش هتلر، عاش هتلر”. وبدلا من تهدئة مؤيديه وكبح أصواتهم المطالبة بإعدام واعتقال مسؤولي الولايات، فقد قال لهم -وقد وصلت كلماته عبر الهواء-: “اعتقلوهم كلهم”.

الوثائقي يرصد ويحلل مذبحة “ترامب” ضد النظام السياسي في البلد

“أحيانا لا بد من مواجهة العنف بالعنف”

كانت عبارة “ترامب” التحريضية على مسؤولي الولايات تمثل الشرارة التي أشعلت نيران العنف وشجعت مؤيديه لدخول الكابيتول.

يستكمل الوثائقي المدهش في رصده وتحليله لمذبحة “ترامب” ضد النظام السياسي في البلد، من خلال كشفه لموقف الرئيس المؤيد والمشجع لجماعة “براود بويز” المتطرفة بالمضي في تطرفها، فقد قال لهم عشية إعلان نتائج الانتخابات، حسب التسريبات التي حصل عليها الوثائقي “أحيانا لا بد من مواجهة العنف بالعنف”.

وقد التقط هؤلاء العبارة، وراحوا يشحذون الهمم للانطلاق في الشوارع، وإشاعة الخوف بين صفوف المعارضين لسياسة “ترامب”، والمعلنين قبولهم بنتائج الانتخابات.

“إذا لم يسرقوا الانتخابات فسنفوز حتما”.. تأجيج الغضب

يُعيد الوثائقي الجُمل التي كررها لحظة إعلان وسائل الإعلام فوز منافسه “بايدن”: “إذا لم يسرقوا الانتخابات فسنفوز حتما”، و”إذا خسر الناخب الأمريكي فهذه خسارة لبلدنا”، و”لقد فزنا في الانتخابات، فزنا حقا”.

بإصراره على إعلان فوزه رغم عمليات عد الأصوات الانتخابية وتدقيقها، أراد “ترامب” متعمدا تأجيج مشاعر الغضب بين أنصاره، لكن اللافت -كما ينبه الوثائقي- أن أكثر قادة الحزب الجمهوري لم يستنكفوا من تأييد نظرية المؤامرة التي افتعلها “ترامب”، وبذلك عززوا الاتجاه الراغب في تقليص الديمقراطية ومنح الكذابين بعض المصداقية، ليحصلوا على ما ليس لهم فيه حق.

تصريحات “ترامب” المستمرة عن سرقة الانتخابات، ومساعيه لإجبار مسؤولي بعض الولايات على إعادة فرز الأصوات، وإضافة أخرى لصالحه؛ قوبلت من قبل البعض بالرفض، وقد أثار ذلك أيضا غضب المتشددين ضدهم.

الوثائقي يثبت بالتسجيلات الموثقة دخول واقتحام مؤيدي “ترامب” للبرلمانات المحلية وهم مدججون بالسلاح

اقتحام الكابيتول.. تقويض التبادل السلمي للسلطة

يتوقف الوثائقي عند موقف سكرتير ولاية جورجيا الشجاع “براد رافينسبيرغر” الذي رفض الانصياع لطلبات الرئيس بإضافة قرابة ١١ ألف صوت إضافي لصالحه تكفي لقلب النتائج، وبالمقابل يتوقف عند موقف نائبه “بنس” الذي تعرض لضغوطات هائلة من قبله، فقد طالبه بإعلان موقف داخل الكونغرس من شأنه تأجيل إقرار النتائج النهائية.

موقف نائبه المعلن من نتائج الانتخابات وإقرار صحتها أفشل خطط “ترامب” لذبح العملية الديمقراطية بالكامل، من خلال إلغاء مبدأ التبادل السلمي للسلطة، فسارع إلى تكرار نفس الكلام مرة أخرى حول سرقة الانتخابات وعدم شرعيتها.

التقطت جموع العنصريين والمتطرفين المتجمهرين في الشوارع إشارة “ترامب” وبدأوا اقتحامهم لمبنى الكابيتول، وكان يرافقه تأييد أغلب قادة الحزب الجمهوري الذين ظلوا خاضعين لإرادته خوفا من بطشه.

ظاهرة “ترامب”.. دق ناقوس الخطر على الديمقراطية

في خاتمته يركز الوثائقي على الاستنتاجات التي خرج بها المحللون المساهمون فيه، فقد دقوا ناقوس الخطر للتنبيه على الأخطار المحدقة بالمجتمع الأمريكي وبنظامه السياسي، حتى بعد تسلم “بايدن” الحكم.

ووفق ما خرجوا به فما زال خطر “ترامب” قائما، فالخوف من القيم التي رسخها ستبقى في الجسم السياسي الأمريكي طويلا، وحمام الدم السياسي لم يضر بالعملية الديمقراطية فحسب، بل أدمى جسد الحزب الجمهوري، وعملية إيقاف النزيف تتطلب إجراء مراجعة شاملة لدور قيادته في تعزيز نفوذ “ترامب” الذي ما زال يشكل تهديدا حقيقيا للولايات المتحدة الأمريكية والعالم.