مسابقات الجمال.. أوهام وأكاذيب تجارة الجسد

قيس قاسم

التتويج المتكرر لملكات جمال العالم ومن فنزويلا بالتحديد بدا لافتا، ومنه انبثق مقترح الوثائقي الأمريكي الفنزويلي المشترك لبحث هذه الظاهرة

التتويج المتكرر لملكات جمال العالم ومن فنزويلا بالتحديد بدا لافتا، ومنه انبثق مقترح الوثائقي الأمريكي الفنزويلي المشترك لبحث ظاهرة لازمتها سجالات فكرية ومواقف متباينة حول طبيعة المسابقات نفسها، وكيف تنوعت مع الوقت زوايا النظر إليها بعد أن صارت في بعض البلدان جزءاً من موروثها الثقافي، وصار معها صعبا على قطاعات شعبية واسعة قبول فكرة كونها مشروعا تسليعيا تجاريا جعل من جسد المرأة واحدا من أهم خاماته، وعليه تأسست إمبراطوريات “صناعية” ربحية وفي حقول متعددة يثبتها المخرج الأمريكي “إدوارد إليس” في باكورة أعماله الوثائقية الطويلة “أن تكوني ملكة جمال” (To Be a Miss)، وذلك عبر تناوله قصص ثلاث شابات فنزويليات أردن أن يصبحن “ملكات” جمال، وحلمن بتحسين ظروف حياتهن بالكامل مثل غيرهن من المُتوجات اللواتي انفتحت أمامهن فرص عمل مهمة كمقدمات برامج في القنوات التلفزيونية، أو عارضات أزياء وغيرها من ملحقات التتويج.

في اختيارها موضوعا متعدد المستويات بأبعاد اجتماعية واقتصادية وحتى سياسية، تكون “نتفليكس” قد خطت خطوة إضافية في تغيير طابع إنتاجها السينمائي أو التلفزيوني، وتغيير الانطباع السابق عن “خفة” منتوجها إلى “جدية” يمكن بسهولة ملاحظتها في نتاجاتها المتأخرة ومن بينها “أن تكوني ملكة جمال”. وله كرست ميزانية جيدة يمكن لصانعه بها ملاحقة شخصياته بأريحية، وتسجيل مراحل تطور قصصهن الشخصية بعيداً عن الارتكان المفرط على “الجاهز” من الخامات الفيلمية أو المقابلات الشخصية، واعتماده أسلوبا سرديا يسمح بتسجيل المواقف الفكرية العميقة من خلال التفاصيل الصغيرة، وبدون إشعار متلقيه بثقل مرجعياته وحججه النظرية، تاركا له حرية تفسير “الظاهرة”. فيما ترك للكاميرا حرية التقاط ثنايا قصص الصبايا وتدوير زواياها الحادة، ليأتي بما يتوافق مع طبيعته كنص سينمائي يلامس موضوعا شديد الصلة بالجمال والجسد الأنثوي وبموروثات ثقافية واجتماعية تتجاوز الحصر في بلد واحد إلى ما هو أوسع وأعم. 

 

أوهام الجمال وأكاذيب مسابقاته

منذ البداية يبدو الانقسام واضحا في النظر إلى الظاهرة، لكن اهتمام الوثائقي انصبّ بالأساس على عرض الواقع كما هو، ووضع المسابقات في سياقها العام كنشاط مُغرٍ يأخذ أحيانا طابعا قوميا يغذي نزعات وطنية طالما ربطت قوتها بفوز حسناوات البلاد بالألقاب، وإشاعة فكرة “تحضّر” وديمقراطية فنزويلا عبرها.

وفي إطارها كان تحرك الشابات الثلاث متسقا مع المزاج الشعبي المتأثر كثيرا بالعوالم المبهرة والمغرية التي تزخر بها الأخبار الناقلة لحياة المُتوجات ورفاهية ما وصلن إليه، وما إصرار الأصغر بينهن (17 سنة) على الذهاب مرتين للتدريب يوميا ولمدة خمس ساعات، واتباع حمية غذائية من أجل تخفيض وزنها كما نصحها المشرفون على البطولة المحلية سوى تطمين لرغبة داخلية بالفوز باللقب المحلي ثم الوصول إلى العالمية، مثل صديقتها الأكبر سنا منها (25 سنة) التي جربت حظها أكثر من مرة لكنها لم تحقق حلمها بعد، وظلت تعيش في مستوى بسيط تتشارك مع أختيها غرفة صغيرة في حي فقير، وتتكفل بإعالة أهلها ومع ذلك لم تقطع الأمل بالفوز. أما الأخيرة ابنة الطبقة المتوسطة (في بداية العشرينات) فمترددة بتأثير أمها وحذرها من الرهان الكلي على “أحلام” لا تخلو من محظورات ومزالق. الفتيات يمثلن الشرائح الأكبر في المجتمع ويعكس سلوكهن ميلاً لاستغلال جمالهن في مهنة تدر ذهبا، في المقابل تظهر الأم الفنزويلية فرحة وفخرا بفوز بناتها بإقران اسمها بمنجزهن الجمالي، وكأن البلاد لا مجد لها سوى تلك “البضاعة”.

لذلك السلوك أسباب يحاول الوثائقي الاقتراب منها ومعرفتها، فيعود بمساعدة خبراء جمال ومؤرخين إلى بداية الظاهرة، والتي يحيلها أغلبيتهم إلى نهاية الحرب العالمية الثانية حين حاول الرئيس “بيريز جيمِنيز” إشاعة الديمقراطية وتجاوز سلبيات الحرب بالانفتاح الاقتصادي الذي كان من مستلزماته “الشكلية” المشاركة في المسابقات العالمية لملكات الجمال وفتح أبوابها أمام كل بنات المجتمع دون حصرها بالطبقات المرفهة والغنية.

على مستوى آخر هدفت تلك السياسة إلى التغطية على النتائج الكارثية للتبعية الاقتصادية للغرب، والتمويه على التفاوت الاجتماعي الحاد. سيتبيّن أن أكثر الفائزات والمشتغلات في الموضة وفي الإعلام هن من الطبقات الغنية ومن “الشقراوات”، وظلت فرص الأُخريات من ذوات البشرة السمراء قليلة وتكاد تكون معدومة، ومع هذا لعب الإعلام والتلفزيون بشكل خاص دورا خطيرا في نشر أوهام “دمقرطة” الجمال الفنزويلي، والترويج لكذبة الفرص المتاحة لكل فتاة جميلة  بأن تكون ملكة كون يوما ما. 

في الجامعة والأوساط الواعية والمثقفة فإن الموقف من السلوك الاستهلاكي مختلف لا يشبه العام ولا يتطابق مع النظرة المتحمسة للأوساط الشعبية المتأثرة بالدعاية

إمبراطوريات صناعة ملكات الجمال

المثير في الوثائقي أنه لا يتوقف عند التحليلات العميقة بل يلمسها لمسا خفيفا، ثم يعود إلى الواقع حيث الصراع في أوجه بين الحالمات بالفوز والقبول شبه التام بشروط “صنّاع” الملكات التعجيزية، والتي تصب كلها في خدمة مؤسسات وشركات ربحية متصلة بها. سيتبيّن أن إمبراطوية صانع الملكات الفنزويلي الشهير “أوسميل سوسا” لا تكتفي بجني أرباح بيع البضاعة المحلية بل في حجم الصلات المرتبطة بها وأكثرها شيوعاً؛ عيادات التجميل وشركات بيع مستحضرات التجميل. فنزويلا تحتل قمة الدول المستهلكة للمستحضرات في العالم، وتدفع كل امرأة فيه حوالي خُمس دخلها لتحسين شكلها. معدلات استهلاك وسائل تحسين “الجمال” مصدر ثروة تقدر بالمليارات لأصحاب مصانع الجمال الخارجي، وأحد أهم وسائل نشر دعايتها هي مسابقات الجمال الداخلية والخارجية. 

في الجامعة والأوساط الواعية والمثقفة فإن الموقف من السلوك الاستهلاكي مختلف لا يشبه العام ولا يتطابق مع النظرة المتحمسة للأوساط الشعبية المتأثرة بالدعاية، لكن ما يخيف ممثليها هو نجاح تلك الصناعة في التحول إلى ثقافة يصبح وفقها بيع الجسد وعرضه بديلاً من العقل والمعرفة، فيعود لذا الوثائقي ويُذَكر بالحركات الثورية النسوية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي ومعارضتها المطلقة لمسابقات الجمال بوصفها وسيلة لتسفيه وعي المرأة وتحويل جسدها إلى بضاعة رخيصة. وللتدليل على قوة الميل الاجتماعي نحو عرض بضاعته يقدم الوثائقي جانبا يتعلق بمسابقات جمال الأطفال، وكيف تتسابق العوائل لإشراك أطفالها فيها وغرس ثقافة تبرر السطحية في أذهانهم الطرية، وتجعل من الجسد مشروعا مستقبليا دونه كل المشاريع المعتمدة على التعليم والعمل الجسدي النزيه.

الخضوع لعمليات تصغير الأنف وتكبير الصدر واستخدام حقن "بوتكس" في ذلك الحقل سلوك عادي

عمليات التجميل.. صناعة الوعي المزيف

يَلفت تركيز الوثائقي على تثبيت صور ومشاهد سريعة لآلات حفر آبار النفط كفواصل بين المشاهد والفصول، ويحيل ذهن المتلقي إلى جانب خاص في المعادلة الفنزويلية كونها بلدا غنيا بالثروات الطبيعية، لكن عامة الناس لا يتمتعون بنعيمها. فيغدو الجمال الجسدي والفطري بديلا تعويضيا عن نقصها، حتى ذلك البديل يبدو أثناء تقصي الوثائقي تفاصيل المشهد الجمالي مدعاة للإحباط. فما يُشاع عن الجمال اللاتيني الجنوبي الخالص والفطري يظهر من تجارب الصبايا وبعض المُتوجات زيفه. فالمتسابقات كلهن تقريبا كان يُطلب منهن إجراء تحسينات على وجوهن وأجسادهن.

الخضوع لعمليات تصغير الأنف وتكبير الصدر واستخدام حقن “بوتكس” في ذلك الحقل سلوك عادي، فالواحدة منهن لا فرصة حقيقة لها بالفوز إلا إذا قامت بما يطلب منها، وفي “فيلا” صانع الملكات تُحسم الموافقة على النتيجة من عدمها، فهناك يجري فحص دقيق لنوع البضاعة المنتجة ويتم تقييمها وفق مصالح مالكها. يتوقف الفيلم المتعدد المستويات في بحثه عند النتائج الكارثية لصناعة الوعي المزيف عبر توقفه عند تجارب بعض الشابات اللواتي أنتهت حياتهن في غرف العمليات أو تم تشويه وجوههن بالكامل. لا يسعى الوثائقي المتماسك البناء إلى خلق حالة من النفور والاشمئزار المفتعل من تحويل الجسد البشري إلى بضاعة رخيصة فهذا ليس من مهماته، لكنه وبعرضه التفاصيل يخلق نوعاً من الرفض للواقع الصناعي، فكلهن لم يكتب لهن النجاح فمضت كل واحدة في طريقها فيما ظلت التجارة قائمة. 

"أن تكوني ملكة جمال" له أثمان أقلها مسخ العقول وإزاحة الوعي جانبا ليحلّ محلهما الجسد في تجلياته الشكلية

فنزويلا.. جمال رأسمالي مشوّه

عرضه لكل تفاصيل المشهد الفنزويلي وسرده حكايات صبايا حالمات تم تحقيقه بأسلوب سينمائي رائع اعتمد على نقل التجارب بحيوية وصدق، وتم ربطها بتفسيرات وتحليلات غير مباشرة تعرض الفعل وتحيطه بالأسئلة المقلقة. لا يملي صانعه موقفه الخاص لكنه في النهاية قال أشياء كثيرة وأظهر حقيقة تلك الظاهرة بوصفها نتاجاً رأسمالياً لا ينفصل عن السياق السياسي الاجتماعي في البلاد، وما توقفه عند مشهد استقبال الرئيس “الثوري” الراحل “هوغو تشافيز” لواحدة من المُتوجات سوى تعبير عن صعوبة تجاوز ما هو راسخ في البناء الاجتماعي، وطغيان ميل نفسي للنجاح الرخيص المعتمد على هبات طبيعية مضاف إليها تحسينات هي أقرب إلى تشويهات لمعاني الجمال ومفهومه الإنساني والفلسفي.

“أن تكوني ملكة جمال” له أثمان أقلها مسخ العقول وإزاحة الوعي جانبا ليحلّ محلهما الجسد في تجلياته الشكلية الشهوانية المعبر عنها بترويجه كبضاعة ووسيلة مساعدة في الإعلانات التجارية. من المفارقات اللافتة فيه سؤاله عن النساء اللواتي لا يمكن “تصديرهن” كدمى إلى الخارج، أي النساء العاديات اللواتي يتعرضن لانتهاك ذكوري يتجسد بأرقام يثبتها في نهاية زمن عرضه، وتؤكد أن نسب العنف الأسري في فنزويلا هي الأكثر بين دول أمريكا الجنوبية وعدد ضحاياه يفوق بما لا يمكن مقارنته مع عدد المُتوجات بتيجان.