“معلمي الأخطبوط”.. صداقة الإنسان العميقة مع أذكى الكائنات البحرية

قيس قاسم

لا غرابة أن يترشح الوثائقي الجنوب أفريقي “معلمي الأخطبوط” (My Teacher Octopus) لنيل جوائز الأوسكار، بعد أن حصل على جوائز “بافتا” البريطانية، وغيرها من الجوائز السينمائية المرموقة، إلى جانب تبوئه مركزا متقدما بين الوثائقيات الأكثر مشاهدة على منصة “نتفليكس” المنتجة له، وذلك لكثرة ما فيه من اشتغالات سينمائية وجمالية باهرة، ولغرابة قصته أيضا وتفردها.

تدور قصة الفيلم حول علاقة صداقة عجيبة جمعت بين المخرج السينمائي والغواص “كريغ فوستر” وبين أخطبوط بحري داخل مياه المحيط، وقد اهتم بنقل القصة إلى الشاشة المخرجان “بيبا إيرليش” و”جيمس ريد”، وتطلبت منهما تصوير مئات الساعات تحت المياه الباردة، ليوثقا بدقة لافتة العالم الخفي للأخطبوط، منقولا بعيون الغواص وصوته، وبهذا يكون راويا لعلاقة الصداقة التي جمعته بالأخطبوط الأنثى وأثرت على حياته وغيرت الكثير منها.

 

طفولة بجوار المحيط.. بداية قصة عشق الطبيعة

يزيح الوثائقي الفواصل الوهمية بين الفيلم الروائي والوثائقي، بإفساحه المجال واسعا أمام الراوي، لينقل مشاعره وأحاسيسه بدقة عالية، ويُدخِل في ثنايا القصة جوانب من حياته الشخصية، وبذلك تتداخل علاقتهما (الأخطبوط والمخرج الغواص) لدرجة يصعب الفصل بينها.

يشرع الغواص في مفتتح الوثائقي بنقل فصول من سيرته الشخصية، مركزا على علاقته بالمكان الذي نشأ فيه، وبيتهم الواقع في أقصى الجنوب الغربي من البلد القريب من المحيط الهندي، ويعرف هذا الجزء منه بقوة تياراته البحرية وأمواجه العالية المتلاطمة التي كانت تصل إلى عتبته.

أحب “كريغ” الطبيعة منذ نعومة أظافره، وكان على الدوام فضوليا للتعرف على أسرارها، ولهذا فإنه عندما كبر اهتم بتصويرها وأنجز عنها عدة أفلام منها: “الرقصة العظيمة” (The Great Dance)، ولأجله سافر إلى صحراء كلاهاري الوسطى ليوثق تقاليد وعادات شعوبها، وقد انتبه إلى سعة معرفتهم بالطبيعة وتوافقهم معها.

الوثائقي الجنوب أفريقي “معلمي الأخطبوط” (My Teacher Octopus) حصل على جوائز “بافتا” البريطانية

جسم غريب محاط بقواقع بحرية.. أعماق الغابات البحرية

سنوات السفر الطويلة والعمل السينمائي المتعب، والانقطاع المستمر عن العائلة، أديا إلى زيادة توتر “كريغ” وفتور علاقته بابنه، وعلى إثر ذلك قرر أخذ عطلة طويلة عن العمل لاستعادة بعض توازنه، فعاد إلى موطنه وجرب الغوص في المياه الباردة التي يعرفها جيدا، وقد تأقلم سريعا مع المحيط وانتظمت زيارته لأعماقه من دون عبوات أوكسجين، فقد تعلم مبكرا الغوص من دونها معتمدا على تقنية حبس الأنفاس داخل المياه والصعود إلى سطحها كلما احتاج إلى التنفس الطبيعي.

بعد مدة من الاسترخاء والهدوء عاد “كريغ” لتصوير أعماق المياه، فصار يذهب إلى أماكن عميقة داخل غابات الأعشاب البحرية، فيراقب الأحياء البحرية المتحركة بانسجام وسطها، لكنه في إحدى المرات التفت إلى جسم غريب كروي الشكل محاط بأصداف قواقع بحرية، فحاول أن يقترب منه، لكن الجسم الذي في داخل الأصداف انكمش على نفسه خوفا وانسحب.

ثمة شيء غريب دفع “كريغ” للغوص في نفس المكان يوميا، حتى أنه ترك كاميرته بالقرب من الجحر الذي اختفت الصدفة فيه، لتسجل حركتها في غيابه، وقد لاحظ أنها قامت بتحريكها من مكانها، فقد دفعها فضولها لفعل ذلك، وبعد شهر من الغوص تقريبا صارت تخرج للترحيب به كلما اقترب من مخبأها.

الوثائقي يزيح الفواصل الوهمية بين الفيلم الروائي والوثائقي

ذكاء الأخطبوط.. تجربة مكتسبة خلال ملايين السنين

يصف “كريغ” لحظات لقائه بالأخطبوط بأنها لحظات غريبة، خاصة أنها تصدر من مخلوق بحري بسيط، يستخدمها كوسيلة للتعبير عن ثقته به، وقد قادته زياراته المتكررة ومرافقته لها إلى مناطق غابات أعشاب البحر الكثيفة التي تصعب السباحة وسطها، لكنها بالنسبة للأخطبوط كانت مكانا مثاليا للصيد.

ينقل المصور البارع “روجر هوروكس” المشاهد البحرية بأروع صورة وأكثرها نقاء، ويلفت وضوح التفاصيل الملتقطة بكاميرات شديدة الحساسية في أعماق البحار؛ الانتباه إلى التطور الهائل في حقل صناعة الكاميرات وإلى مهارة مستخدميها.

مراقبة “كريغ” المستمرة للأخطبوط ووجوده بالقرب منها زاد من قناعته بأن الأخطبوط هو من أذكى الأحياء البحرية على الإطلاق، وأكثرها فضولا وحبا للتعلم، فقد اكتسب خلال ملايين السنين خبرة فطرية للتكيّف مع محيطه بكل مخاطره، وتعلم أساليب تمويه عجيبة وطرق اختباء مذهلة في براعتها.

يسرد “الراوي” تجربة تدلل على ذلك، فبعد قرابة شهرين من صداقته لها، وبينما كانت هي قريبة منه جدا سقطت عدسات غوصه الزجاجية من رأسه، فشعرت فجأة بالخوف وهربت، ولم يثمر البحث عنها فائدة، فقد تركت مكانها المعتاد وذهبت إلى مكان مجهول.

وسيط تحسين العلاقة بين الأب وابنه.. عودة الأخطبوط

بعد هروب الأخطبوط بدأ “كريغ” رحلة مضنية من البحث عنها، وستقوده الرغبة في معرفة مكانها الجديد إلى دراسة عاداتها وأساليب عيشها نظريا، وقد كرس وقتا طويلا لتحديد أماكن صيدها، حتى وجدها جهد كبير، والغريب أنها عادت وتقدمت إليه دون خوف منه، وقد عبرت باقترابها منه عن فرحتها بعودته ثانية.

يستعرض “كريغ” ما قرأه بإيجاز وما تعلمه نظريا عن حياة الأخطبوط، فقد عززت لديه قناعة أنه يقف أمام كائن بحري ليس عاديا، وأن كل ما كان يعرفه عنه كان سطحيا، وأحس بمعنى الصدق والحميمية الحقيقية، وهذا ما دفعه للتفكير بتحسين علاقته بابنه، فاتصل به وشرح له ما شاهد تحت الماء من عجب.

راوي الفيلم “كريج فوستر”

في حضرة الصياد الليلي الماهر.. خطط الصيد

أدرك “كريغ” مع الأيام أن وجوده مع الأخطبوط يعلمه أشياء كثيرة، لهذا قرر معرفة مهاراته عن قرب وبالمعاينة المباشرة.

يعتبر الأخطبوط صيادا ليليا ماهرا، فهو قادر على استخدام حوالي ٢٠٠٠ مجسة في جسمه من دون أدنى تعارض وظيفي بينها، كما أن لديه قدرة على تغيير استراتيجيات صيده حسب الظرف الذي يجد نفسه فيه.

يسجل الوثائقي عمليات صيده الفريدة لأنواع صعبة من المحار والصدفيات، وطرق تجنبه المخاطر المحتملة وأشدها فتكا أسماك القرش التي تتمتع بحاسة شم قوية جدا تساعدها على معرفة مواقعه وكشف أكثر مخابئه سرية وتحصينا. هذا ما شاهده “كريغ” خلال أكثر من مئة يوم قضاها برفقة صديقته الموثوقة.

طيلة زمن العرض يقرن صناع الوثائقي كلام “كريغ” وانطباعاته الشخصية مع تصوير رائع للحياة البحرية، مصحوبا بموسيقى تصويرية للفنان “كيفن سموتس”، لتزيد من إحساس المُتفرِج بروعة المَشاهد التي نادرا ما تنقل أمامه بهذا الغنى والصفاء الرائعين.

المصور البارع “روجر هوروكس” ينقل المشاهد البحرية بأروع صورة وأكثرها نقاء

مواجهة القروش.. أساليب الدفاع وتعويض الخسائر

يكتشف الغواص القدرة الاستثنائية عند الأخطبوط لمواجهة الصعاب، وكيف تكيَّف جسمه مع المخاطر المحدقة به خلال ملايين السنين، ويصف حالة الذهول التي أصابته أثناء مشاهدته قرشا جائعا وجد في الأخطبوط ما يسد به نهمه للطعام فكان يطاردها دون هوادة، ومع كل أساليب التمويه التي استخدمتها، نجح القرش في قضم ذراع من أذرعها الثمانية.

ظن “كريغ” أنها ستموت بعد مكوثها أسبوعا كاملا داخل المخبأ من دون حركة، لكن أثناء تفقد وضعها السيء الذي وصلت إليه، وشعوره بتأنيب الضمير الحاد لكونه لم يتدخل لمنع القرش من مهاجمتها؛ لاحظ هناك حركة بطيئة، وعندما اقترب منها أكثر لاحظ نمو جزء من ذراع جديدة بدلا من القديمة.

خلال شهر تقريبا عادت الأخطبوط كما كانت، وأخذت بالبحث عن الطعام، ولم يمضِ وقت طويل حتى عاد قرش آخر محاولا التهامها، ولكنها هذه المرة استخدمت طريقة عجيبة في الدفاع عن نفسها، إذ قفزت وهي تحتمي داخل قشور المحار مثل كرة حادة الحواف فوق ظهره، ولم يفهم القرش ما يجري فتركها بعد أن يئس من صيدها.

تضحيات الأم.. دروس الإصرار والتحدي وحب الحياة

كانت أساليب مقاومة الأخطبوط للطعون والهجمات وذكاؤها في التعامل مع المخاطر دافعا للغواص للتفكير في وضعه وضعفه الشديد بسبب العمل، فقد ألهمته الأخطبوط العزيمة والرغبة للتقرب أكثر من ابنه الذي صار يرافقه في كل رحلاته.

يتأمل الراوي فكرة الموت والتشبث بالحياة بهدوء، بعد أن رأى بأم عينه اقتراب الأخطبوط من الموت، لكنها مع ذلك تشبثت بالحياة، وعندما شُفيت لم تيأس أو تستسلم للوحوش البحرية الضارية، بل قاومت في سبيل المضي في حياتها التي لا تزيد كثيرا عن سنة واحدة.

يصل الوثائقي إلى نقطة دراماتيكية تتمثل بمشاهدة ذكر أخطبوط بالقرب منها، وبعد أيام دخلت مخبأها ولم تغادره، فأدرك “كريغ” أنها ترعى بيوضها لحين اقتراب موعد تفقيسها لتكمل دورة حياة طبيعية، لكن العجيب في الأمر أن الأخطبوط تُضحي بنفسها وتموت من أجل منح الحياة لأولادها.

لقد كان “كريغ” يشاهدها تضمر وتذبل، وعندما فقست البيوض هلكت تماما، فجاء قرش وأكل ما بقي من جسدها الهزيل.

الأخطبوط صيادا ليليا ماهرا، فهو قادر على استخدام حوالي ٢٠٠٠ مجسة في جسمه

ابن الأخطبوط في يد ابن الغواص.. توارث المعارف

إن التضحية التي تقدمها الأخطبوط من أجل ديمومة الحياة، تعلم الغواص قيما جديدة وتحفزه لإعادة النظر بالعالم المحيط به، فأصبحت كل حياة مهمة عنده مهما بدت بسيطة، وأخذت رؤيته لعالم البحار تتعمق أكثر وأكثر. لقد أصبح يدرك الآن بوضوح معنى التوازن البيئي المذهل للكائنات البحرية.

أثناء غوص “كريغ” وابنه معا بعد وفاة الأخطبوط بمدة وجد الابن أخطبوطا صغيرا، فأخذه بيده وبدأ يداعبه، وحينها أدرك الأب أنه ربما يكون هذا أحد أبنائها في طريقه ليكبر ويصبح ذكيا وشجاعا مثلها، كما يتمنى لابنه أن يكون كذلك، فيرث عنه حب الغوص والطبيعة والتصوير والتعرف على كثير من الكائنات الصغيرة المحيطة بنا، ولا بأس من إقامة علاقة صداقة معها.