“مفك”.. محاولة للاقتراب من الأسير الفلسطيني

ثمة مشكلة تعانيها السينما العربية عامة فيما يتعلق بتناولها لشخصيات تعاني من مشاكل أو اضطرابات نفسية، تصيب البطل أو شخصية رئيسية، وتفقدها توازنها وتسلبها إنسانيتها. الأكثر صعوبة؛ تصدي فيلم لرصد تبعات السجن والآثار النفسية والجسدية التي تركها على شخصية من الشخصيات أو على البطل الرئيسي. يزداد الأمر تعقيدًا وتركيبًا دون شك إذا كان السجن والسجان هو الاحتلال الإسرائيلي بكل ما لسجونه من سمعة شائنة، وخاصة عندما تطول مدة الأسر لما يقترب من 15 عامًا. تلك الآثار البالغة التركيب والتعقيد، حاول رصدها فيلم “مفك” للمخرج الفلسطيني الشاب بسام جرباوي.

في فيلم “مفك” يحاول بسام جرباوي، وهو أيضًا كاتب السيناريو والمشارك في مونتاج الفيلم، أن يقول الكثير عن مُشكلة نادرا ما يتم تناولها في السينما العربية التي ترصد الواقع الفلسطيني، وكل ما تعرّض أو يمكن أن يتعرض له أي فلسطيني. دائمًا دور الشهيد يحتل المرتبة الأولى في الدراما، يليه دور المُناضل بأنواعه، خاصة إذا كان في الأسر. لم يتوقف بسام الجرباوي كثيرًا عند الشهيد والشهادة والاستشهاد أو حتى النضال وفعل المقاومة، فقد تمحور فيلمه حول تبعات الأسر على الأسير.

من هنا، كانت نقطة الانطلاق بالنسبة للمخرج أنه لا يرغب في رصد أي نوع من أنواع البطولة أو الاستشهاد، فقط ما هو إنساني واجتماعي ونفسي، مع تجريد كل هذا من أي بطولات زائفة أو صادقة. يُريدنا الفيلم أو يحاول أن يُقربنا من الحالة النفسية والاجتماعية والجسدية التي عادة ما تنتاب من يقضي سنوات طويلة في الأسر بعيدا عن الحياة العادية الطبيعية، دون مُمارسة لحياة يومية مُعتادة طعاما وشرابًا وتريّضًا وتعاملا مع البشر. وبعيدا كذلك عن الضوء الطبيعي وعن الأصوات من حوله، حتى وإن كانت تلك الأصوات لأهله، ناهيك عن الاختلاط والانسجام مع المحيط من حوله.

البحث عن الإنسان لا البطل

تبدأ أحداث الفيلم مع عام 1992، عندما كان بطل الفيلم لا يزال طفلا في التاسعة من عمره تقريبا، يلعب الكرة مع أقرانه في المدرسة. ويتصادف حدوث مشاجرة عادية، كتلك التي تجري بين الفتية في تلك الأعمار، يستخدم فيها زياد آلة المفك لجرح ذراع زميله. ذلك المشهد يصنع الكثير من اللبس، فهل هو بمثابة مقدمة تشير إلى أن زياد يكمن بداخله بعض العنف، أم أن الفلسطينيين من فرط الاحتلال والقهر بات العنف سمة سلوكية لديهم، حتى لدى الأطفال؟

الشهيد رمزي الذي قتله جيش الاحتلال الإسرائيلي قنصا ذات ليلة

وإذا كان الأمر مجرد توظيف للمشهد لذاته بغرض الاستعانة به لاحقا كتمهيد للمشهد الختامي للفيلم، فربما كان له ما يبرره، وإن بدا الأمر غير مقنع ولا على قدر من التوفيق في النهاية، لأن وجود المفك في سيارة المستوطن الإسرائيلي غير مقنع كثيرا وإن كان مقبولا في سياق الخيال الدرامي الإجمالي للفيلم، وفي ضوء القصة برمتها، والحيرة التي انتابت زياد بطل الفيلم.

زياد المراهق ينتقم لرمزي الشهيد

يبين لنا الفيلم كيف أصبح زياد المراهق من أبطال لعبة كرة السلة، أي أنه ليس مشاغبا، بل بطلا متفوقا، والمفترض تحلّيه بالروح الرياضية. ونحن الآن في العام 2002، وزياد في التاسعة عشرة من عمره تقريبا. يعيش أحداث الانتفاضة الثانية ويشترك فيها مع أقرانه. ويستعرض لنا المخرج علاقة زياد المراهق مع رفاقه، حيث محاولات تدخين السجائر والتسكع واحتساء الكحول وغيرها. كذلك صداقته العميقة مع رمزي الذي يتم قنصه غدرا ذات ليلة، بينما كان رمزي ورفاقه يجلسون في إحدى السيارات يدخنون ويحتسون الشراب.

يُدفن الشهيد رمزي في مشهد ميلودرامي طويل جدا، الغرض منه فقط توضيح الأثر الغائر الذي تركه قنص رمزي في نفسية زياد وظل يلازمه حتى الكبر. انتقاما لرمزي، يحاول الأصدقاء قتل -أو على الأقل إصابة- أحد المستوطنين. ويتصادف أثناء مرورهم بالسيارة رؤية أحدهم على طريق مقطوع، فيطلق أحد الأصدقاء النار على المستوطن. يفر الجميع ويتم الإيقاع بزياد الذي يرفض الاعتراف على الأصدقاء ومن أطلق النار رغم كل العنف والترهيب النفسي والتعذيب الجسدي الذي تعرض له. وأثناء جلسة من تلك الجلسات، يتم إخباره أن القتيل ليس مستوطنا، بل مجرد مواطن فلسطيني. وهي حقيقة يرفض زياد تصديقها. وفي النهاية، يدفع مقابلها ومقابل حمايته لصديقه 15 عاما في السجن.

بطل فيلم “مفك” الممثل الفلسطيني زياد بكري قبيل دخوله سجون الاحتلال بتهمة قتل مستوطن لكن في النهاية كان المقتول فلسطينيا

ومع خروجه في عام 2017، كبطل مغوار أبى الاعتراف على أقرانه، يُحتفى به بشدة. وبعدئذ يكتشف زياد (الممثل زياد بكري) أن الرجل لم يمت، وأنه بالفعل فلسطيني الجنسية وليس مستوطنا. عند هذا الحد، يمكن القول إنه كان لدى بسام جرباوي قصة إنسانية بالغة التأثير، كان من الممكن مد خيوطها على استقامتها لاستغلال تلك الخيوط على أفضل وجه. فثمة سجين شاب وبطل رياضي قضى في سجون الاحتلال أفضل سنوات عمره، تقريبا ضاع مستقبله الرياضي والعلمي، كل هذا في سبيل ماذا؟ فهو لم يصبح بطلا بقتله للمستوطن الذي لم يُقتل من الأصل، حتى إنه لم يكن مستوطنا، كما أنه لم يفلح وصحبه في الانتقام لصديقهم. كل تلك السنوات كانت بلا ثمن، كانت للا شيء. وكان من الممكن أن يُقتل الفلسطيني بالخطأ، وبذلك يكون هذا القتل من جانبه ورفاقه ذروة قوية في الفيلم، ويمكن رصد تبعاته على الجميع، وكذلك المقارنة عبره بين الانتقام والمقاومة، الجريمة والنضال.

الحاجة للصمت حيث يكثر الحوار

تقبل زياد الأمر بصدر رحب ولم يتوقف عند الأمر كثيرا، فقط طلب أن يسامحه الرجل الذي لم يمت ولم يكن هو بالأساس من أطلق عليه النار. بعد هذا المشهد، ينتقل الفيلم نقلة أخرى تمثل الهدف من وراء الفيلم والسيناريو برمته؛ رصد التبعات النفسية والاجتماعية والصحية على الأسير عقب خروجه بعد سنوات من أقسى أنواع السجون، حيث فقدانه لكل مظهر من مظاهر الآدمية والحياة الطبيعية العادية. تلك النوعية من الأفلام النفسية الاغترابية تتطلب سيناريو محكم البناء، قائم على القراءة العميقة والدراسة المطولة للتحليل النفسي ومدارسه. ولكن، مثل هذا السيناريو يكاد يكون منعدما، مما يشكل نقطة ضعف في السينما العربية عامة، وليس في فيلم “مفك” فحسب.

الممثل زياد بكري ينال الحرية بعد 15 عاما قضاها في سجون الاحتلال الإسرائيلي

وناهيك عن كثرة الحوارات التي أضعفت الفيلم أو الحالة التي كان يرغب بسام جرباوي في نقلها إلينا عبر بطله الذي يرصد حالته، فكان الفيلم بحاجة للكثير من الصمت الذي هو أبلغ من الكلام ومكمل للأداء إلى جانب الوصف بالكاميرا. والأمر ذاته ينطبق أيضا على الكثير من الخيوط الفرعية بالفيلم، سواء مشاكله في العمل والمُحيطين به، أو شقيقته ورغبتها الحارة في تزويجه من صديقتها كي تتزوج هي. وفوق ذلك علاقة زياد بالمخرجة السينمائية الفلسطينية الأميركية التي ترغب في صناعة ما هو مُغاير سينمائيا عنه وعن غيره من الفلسطينين بغرض تعريف الخارج بالداخل الفلسطيني.

مفردات غابت عن الفيلم

وبخلاف السيناريو، تتطلب تلك النوعية من الأفلام العثور على ممثل يُجيد تقمص الشخصية، والغوص تحت جلدها، وقبل ذلك إدارة احترافية من المخرج. فالأداء لم يفلح في إقناعنا طوال الفيلم بكل تلك الآلام أو العقبات أو المشاكل النفسية أو الجسدية التي يمر بها زياد؛ تارة نشعر معه بالافتعال، وتارة نصدقه، وأحيانًا يعوز زياد الإتقان، وتهرب منه الشخصية أو يبالغ في الأداء، وأحيانًا يُجيد بعض الشيء.

كل ما سبق من مُفردات غابت عن الفيلم مع الأسف، مما أدى لعدم خروج فيلم “مفك” وشخصية زياد على نحو مُقنع. إنه مجرد فيلم عادي به بعض اللقطات الجيدة والجمل الحوارية البسيطة والأداء المتذبذب صعودًا وهبوطًا، وأحيانًا بعض المواقف الطريفة، وفقط. أما أزمة زياد ومعاناته وآلامه ومكابداته واغترابه فلم يصلنا منها الكثير، ولم نتماهَ معه في أغلب فترات الفيلم، ولم نستطع مشاركته اغترابه ولا الاقتناع برغبته الحارة في العودة مجددًا إلى السجن.

فيلم “مفك” هو الفيلم الروائي الأول للمخرج بسام جرباوي، وذلك بعد فيلمه الروائي القصير “رؤوس دجاج” (2009) الفائز بعدة جوائز. وكان العرض العالمي الأول لفيلم “مفك” في برنامج “أيام فينيسيا” في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الخامس والسبعين (29 أغسطس/آب – 8 سبتمبر/ أيلول 2018)، ولا يزال الفيلم يعرض حتى الآن في المهرجانات الدولية.