مقصلة الرقابة في تونس.. ثقافة أسسها الاستعمار وأصلها الحزب الحاكم

 

بلال المازني

“كيف يتجرأ هذا المخرج على تصوير هذه التعاسة وهذا البؤس عوض أن يصور لنا سماء تونس الزرقاء”.. كانت هذه جملة من خطاب ألقاه الكاتب الكبير ووزير الثقافة في ذلك الوقت محمود المسعدي على موظفي الوزارة، حيث استشاط غضبا من الفيلم القصير “العتبات الممنوعة” للمخرج رضا الباهي، ومُنع الفيلم وقُطعت المنحة الدراسية عن المخرج وسُحب جواز سفره.

وهي حالة من عشرات الحالات التي جَلدت فيها السلطة المخرجين وأفلامهم بسبب ومن دون سبب، لا لشيء إلا لأن جماعة الحل والعقد في الوزارة لم تعجبهم لقطة أو جملة أو حتى كلمة.

لقطة من فيلم “الدكتاتور العظيم” لشارلي تشابلن الذي مُنع عرضه فيلمه “المغامر” في تونس

 

تونس.. رقابة في حضن المستعمر

في تونس تجلّت بدايات الرقابة مع المستعمر الفرنسي منذ عشرينيات القرن الماضي، وربما هي التي غرست ثقافة محاكمة السينما في تونس بعد الاستقلال، وزرعت فيها رقيب الخوف من الصورة.

كانت فرنسا تمارس المنع والقطع والحظر على العديد من الأفلام، وذلك لتجعل المتفرج التونسي غائبا عن الأفلام الثورية أو الأفلام التي تمسّ هيبة فرنسا وحليفاتها، أو حتى التي ترى فيها أنها تحرك مشاعر المُشاهد التونسي لتبنّي قضية معينة عربية أو عالمية.

لم تسلم أفلام العملاق شارلي شابلن من رقابة المستعمر في تونس، ففي أغسطس/آب 1925 مَنعت بلدية تونس عرض فيلم “المغامر” لشارلي شابلن الذي يتحدث عن هروب شارلوت من السجن، وذلك لأنها رأت فيه تشجيعا على الفوضى.

واستعملت فرنسا جملة من التقنيات والنصوص مثل مرسوم 3 أبريل/آذار 1929 ومرسوم 21 ديسمبر/كانون الأول 1929 للتحكم في استيراد الأفلام وعرضها، وكوّنت لجنة الرقابة الأولى على الأفلام التي تشمل المدعي العام أو نائبه ورئيس بلدية تونس ومدير الأمن العام ومفوّض الشرطة، كما أشركت مساعدين مدنيين تونسيين لإبداء الرأي في الأفلام، مما حدا بالشركة الأمريكية الضخمة باراماونت للتدخل وإبداء شكاوى للمفوض المسؤول، وذلك للحد من الرقابة والتعسف الذي تمارسه اللجنة.

ويقول الصحفي التونسي لطفي الحيدوري في مقال نشر في نوفمبر/تشرين الثاني 2018 على موقع “أفون بروميير” الفرنسي “مطلب تشديد الرقابة صدر أيضا من مثقفين تونسيين، ففي مقال صدر في جريدة الصواب سنة 1928 دعا الهادي العبيدي السلطة إلى أن تعمل عملا جديا، وتؤلف لجنة لمراقبة الأفلام قبل عرضها على الجمهور، وبذلك تخفّ ويلات الجرائم والفظائع التي غصّت بها مجالس المحاكم ولم تجد لها دواء ناجعا، وهي إن نفذت هذا تكون قد قامت بواجبها واستحقت من الشعب جميل الشكر والامتنان”.

ولم تبق الرقابة في ذلك الوقت حكرا على استيراد وعرض الأفلام، بل تطوّرت بإنشاء لجنة الرقابة على السيناريوهات، وتركت الرقابة على الأفلام الوثائقية والإخبارية حتى سنة 1935، وهي من الصلاحيات التقديرية لموظفي الأمن داخل قاعات العرض، وذلك للإعلام عن الأشرطة التي تستوجب الإحالة على لجنة الرقابة.

النص التشريعي التونسي الخاص بالسينما يكشف حجم تضييق الدولة وسلطاتها على السينما

 

الصورة في خدمة الحزب.. وإلا فلا

تواصلت أساليب المنع والقطع بعد الاستقلال، وأورث المستعمر الدولة الحديثة آليات الرقابة، والأكثر من ذلك عقليتها، وربما كلمة “عقلية الرقابة” تناسب وتعبر أكثر من غيرها من الكلمات، لأنها وببساطة هي طريقة تفكير وحالات نفسية لهذا المسؤول أو ذاك، وتصل أحيانا إلى درجة من التفاهة والبلاهة إلى حدّ الضحك.

روى لي المخرج رضا الباهي أنه في أحد أفلامه طُلب منه نزع صورة معلقة على الحائط تَظهر فيها امرأة تحمل كلبا، فاعتبر مسؤول الرقابة أن العلاقة بين المرأة والكلب في الصورة مشبوهة. ويبدو هنا أن الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة هو الذي بدأ في استيعاب أهمية الصورة وضرورة السيطرة عليها، وبثّ ذلك في وزرائه وموظفيه، حيث كانت القاعدة تقول إن الصورة يجب أن تكون في خدمة “الأب” وسياسة الحزب أو لا تكون.

ومن هنا جاءت التشريعات الأولى التي تقنن ذلك، وكانت سنة 1960 هي البداية الحقيقية للسيطرة على الصورة وإنشاء هيكل للرقابة والوصاية عليها، فقد صدر المرسوم القاضي بتنظيم الصناعة السينمائية، ونصّ على أنّه “يتوقف عرض الأشرطة السينمائية على الحصول على تأشيرة يستلمها كاتب الدولة للأخبار والإرشاد بعد الاطلاع على رأي لجنة الرقابة، وعلى كل موزع أن يعرض الأشرطة على نظر اللجنة المشار إليها”.

والمتمعن في هذا النص التشريعي يكتشف أنه نص لا يخدم السينما والإبداع بتاتا، بل هو تضييق وحجز وتدجين للصورة لحساب الدولة.

والغريب في الأمر أنه لم يكن هناك في تلك السنوات إنتاج تونسي بتاتا، ونعلم أن أول فيلم تونسي خرج إلى النور هو فيلم “الفجر” لعمار الخليفي، وكان ذلك بعد إصدار هذا القانون بست سنوات، وكأن الدولة هنا ولما لها من توجس وخوف من السينما والفن عموما أرادت أن تصنع فنا على مقاسها قبل ظهور هذا الفن أصلا، ومن هنا بدأت رحلة سوداء للمخرجين مع الرقابة التي اتخذت أشكالا عدة وكانت صارمة منذ البداية.

المخرج رضا الباهي يروي كيف طلبت منه السلطاتنزع صورة معلقة على الحائط تَظهر فيها امرأة تحمل كلبا في أحد أفلامه، معتبرين أن الصورة مشبوهة

 

أفلام تحت المقصلة

كان فيلم “عتبات ممنوعة” أحد ضحايا الرقابة السياسية التي قلبت السلطة على المخرج رضا الباهي. ورضا الباهي مولود في مدينة القيروان؛ تلك المدينة التي كانت ولا تزال منارة للإسلام في تونس بتراث وتاريخ عريق، وقد رأى المخرج أن هذه المدينة تم تدنيسها بالانفتاح السياحي الذي حدث، والذي جعل من تاريخ وحضارة القيروان مجرد صور على بطاقات بريدية لجامع عقبة بن نافع، أو بعض صور للقلال والتحف الملقاة هنا وهناك.

وبتلك الحرقة أخرج فيلم “العتبات الممنوعة” التي تحكي قصة شاب فقير يبيع البطاقات البريدية للسياح، وينتهي به الأمر باغتصاب سائحة. ومن هناك تنتفض الدولة على المخرج الشاب لا لشيء إلا خوفا من ترويج تلك الصورة للسياح الأجانب، وضرب مقوّم اقتصادي مهم وهو السياحة في تونس، وتم منع الفيلم نهائيا وحرمان المخرج من جواز سفره ومنحة دراسته.

لاحقت لعنة الرقابة رضا الباهي فمُنع من تصوير الفيلم الذي يليه “شمس الضباع” في تونس، ورُمي السيناريو في سلة المهملات، وهو ما جعل المخرج يلجأ إلى تصوير الفيلم في المغرب بمساعدة أخت الملك “للا عايشة”، ورغم ذلك قامت الخارجية التونسية بضغوط عديدة لإيقاف تصوير الفيلم في المغرب.

وحتى بعد عرض الفيلم قررت الرقابة التونسية حذف عدة مشاهد بعلل واهية كالعادة وهي ضرب السياحة في تونس. وبالرجوع إلى تلك المشاهد المحذوفة نكتشف مدى هوس السلطة بتبييض صورتها وبطمس قضايا الشعب والأمة. وبالرغم من بساطة هذه اللقطات التي كانت من ضمنها لقطة سائحة تضع النقود في يد متسول ومجموعة من أهل القرية الفقراء يشاهدون حفل افتتاح نزل جديد من وراء السياج، فإن الدولة أصرّت على حذفها، ولم تكتف الرقابة بحذف اللقطات بل فرضت على لجنة تحكيم أيام قرطاج السينمائية اعتبار الفيلم خارج المسابقة الرسمية.

بوستر فيلم “سجنان” للمخرج عبد اللطيف بن عمار الممنوع من العرض في تونس منذ سنة 1974 إلى غاية ما بعد الثورة التونسية

 

“سجنان” و”صفائح من ذهب”

لم يُحلّق رضا الباهي وحيدا في سرب من مرت أفلامهم تحت مقصلة الرقابة، فقد عاش المخرج عبد اللطيف بن عمار التجربة أيضا في فيلمه “سِجنان” الممنوع من العرض منذ سنة 1974 إلى غاية ما بعد الثورة التونسية، وهو فيلم فاجأ الدولة التي موّلت إنتاجه بأنه ضد الدولة أصلا، حيث أعاد بن عمار سرد تاريخ الحركة النضالية في تونس بغير ما كتبه قلم مؤرخي السلطة الذين اعتبروا أن بورقيبة هو حامل لواء الاستقلال.

فلم يجعل بن عمار الاستقلال في فيلمه “سجنان” حكرا على اسم بورقيبة، بل قالها صريحة مدوية إن الفلاحين والعمال والطبقات المسحوقة هي التي ناضلت وتلقت طلقات النار.

ولم تسلم أفلام نوري بوزيد أيضا من مقص الرقابة، ووصل الأمر إلى حد إشراف بن علي شخصيا على تعيين لجنة من وزارة الداخلية للنظر في فيلمه “صفائح من ذهب”، وقررت هذه اللجنة حذف كل مقاطع التعذيب في الفيلم، وكان ذلك بعد مفاوضات طويلة في مكاتب وزارة الداخلية بين الشرطة والمخرج.

والأكثر من ذلك وفي حادثة رواها لي نوري بوزيد أنه في أحد المهرجانات العالمية وقبل عرض فيلم “صفائح ذهب”؛ تفاجأ أن الدولة أرسلت نسخة بمونتاج جديد قلبت فيه الفيلم بكامله حتى طمست معالمه، لكن لجنة المهرجان أعطت قاعة مونتاج خصيصا للمخرج حتى يعيد ترتيب فيلمه قبل عرضه.

 

“الملجأ”.. فيلم لم يرق لسيدة القصر

لقد أصبحت الرقابة في السنوات الأخيرة لحكم بن علي تُمارَس عبر أشكال أخرى من الضغط، حيث تدخلت زوجة بن علي لمنع أحد الأفلام. وكان ذلك مع فخر الدين سراولية، وهو أحد المخرجين الشباب قام بإخراج وثائقي “الملجأ”، ويتحدث الفيلم عن ملجأ بعيد عن الأنظار يُؤوي الرجال المعنّفين من قبل زوجاتهم، وهي ظاهرة مغمورة في مجتمعاتنا العربية لا نكاد نسمع عنها، رغم أن هذه الملجأ مليء بالتونسيين والرجال من جنسيات عربية أخرى.

لم يرق هذا الموضوع لسيدة القصر ورأت فيه تشويها لصورة المرأة، واستخدمت أذرعها البوليسية سنة 2009، وهوجم المخرج في مكتبه من قبل شخصين، وأخذا القرص الذي يحتوي اللقطات المصورة، ولا يملك المخرج إلى اليوم سوى الفيلم فقط دون لقطاته التي اختفت.

المخرج التونسي نوري بوزيد الذي لم تسلم أفلامه من مقص الرقابة

 

الخوف وخطر الرقابة الذاتية

نشأت الرقابة في شكل آليات ووسائل وقوانين تشريعية، ثم تحولت في فترتي بورقيبة وبن علي إلى عقلية -كما سبق الذكر- يحاول فيها الكل حماية صورة الرئيس وصورة السلطة، ويشارك الجميع في ذلك بدءا من أبسط موظف وصولا إلى وزير الداخلية أو الثقافة أو حتى الوزير الأول.. كل ذلك خوفا من بطش الرئيس وطمعا في فتات من بلاطه.

إن المشكلة الخطيرة هو أن الرقابة تطورت من مجرد آليات وقوانين إلى فكرة عميقة في لا وعي الفنان ذاته، حتى أصبح يمارس القطع والحذف والرقابة الذاتية قبل أن تمارسها عليه السلطة.

وفي الواقع حمل الفنان مقصّ الرقيب بيديه بوعي أو دون وعي، حتى أصبح رقيبا على ذاته يمارس ما يصطلح على تسميته بالرقابة الذاتية.

فالرقابة الذاتية صنيعة الخوف من السلطة، وتكبر شيئا فشيئا لتصبح إحدى يدي الفنان التي تمسك يده الثانية، وقانونا يوجه أعماله الفنية، وهي شكل من أشكال القمع الذاتي للفكر الذي يكون لسببين؛ إما إرضاء أو انتصارا للسلطة، أو ولاء لإيدولوجيا يؤمن بها الفنان، وهي في كلتا الحالتين ستار يحجب الواقع.

بعد الثورة لم تعد هناك رقابة في مفهومها الراديكالي القديم، لكن ما زالت التشريعات والقوانين موجودة ومعترف بها دون أيّ تنقيح، وبالتالي ستبقى سلاحا في يد السلطة يمكنها العودة إليها متى تشاء.