“مولان” محاربة الفينيق.. أسطورة التضحية في الحكايات الصينية

ما الفرق بين الملحمة والواقع وكيف يلاحق الخيال ونسيج أساطيره حاضرنا كل يوم، ولماذا شخصيات البعض وأساطيرهم أدوم أو أكثر انتشارا من قصص غيرهم وحكاياته؟

قبل السينما والأدب كان الشعر وعاء متينا كافيا لاحتضان ملحمات يغيب فيها اسم المؤلف أحيانا، لكن تتمسك أسماء الأبطال والأحداث في جوفه، وتنصهر مع الزمن متنقلة بين الأجيال والقارات.

يعرف الصين -بلد المعمار الوحيد المبصر من الفضاء منذ نسيج دودة القز والطباعة والبارود والأفيون وفنون القتال- كيف يصدر صورة ثابتة لثقافته العريقة باستمرار، ومن هذا البلد تطل علينا “مولان” الفتاة التي تقمصت شخصية الجندي وأخفت أنوثتها للالتحاق بجيش الإمبراطور.

انتقلت ترنيمة “مولان” عبر الزمن تردد: “مولان” ترثي جالسة تنسج وتتنهد، كانت وحيدة بدون عشيق أو من يشغل بالها”.

 

هناك تطابق بين صورة النسيج والانتظار عند “مولان” وصورة “بينيلوبي” بملحمة “أوديسيوس” ونسيجها المستمر في انتظار زوجها “أوليسيس”. إن هروب “مولان” من رفضها للزواج المرتب المحتوم -إلى ثكنة الرجال- ليس تهربا من رجل لا تعرفه بل توجه نحو رجال مجهولين.

وليست المخرجة النيوزيلندية ” نيكي كارو” مختصة في هذا النوع الملحمي الاستعراضي المزركش بكل توابل الصين والمطرز بشتى أنواع الديباج والحرير الرفيع لهذا البلد.

“ليو يي فاي”.. نجمة لامعة في مواجهة جمهور غاضب

فيلم “مولان” من بطولة “ليو يي فاي” التي بدأ وجهها يشع في بعض الأفلام من نفس الطراز قبل أن يصوت عليها لحمل الأسطورة “مولان” على عاتقها، ويأتي بعدها المحنك “دوني يان” الذي بدأ التمثيل قبل ولادة البطلة، ويتقمص دورا أقل شأنا من قيمته الفنية ليكتفي بإعطاء النصائح، أما دور الشرير فقد منح لمختص في فنون القتال هو “جازون سكوت لي” الأمريكي من أصول صينية.

إن كل أدوار الأشرار تقريبا عند “ديزني” نمطية تصمم بميزات عربية، و”ليو يي فاي” تقمصت الدور بعناية فائقة، لكنها تواجه حملة شرسة لمقاطعة الفيلم وربما أعمالها المقبلة، فشوارع هونغ كونغ هذه الأيام لا تعترف إلا بشخصية “أنياس شو” الناشطة التي اعتقلتها الشرطة الصينية، ويتردد وجهها في صفحات التواصل الاجتماعي أكثر من ملصق “مولان”، لأن الممثلة “ليو يي فاي” ساندت الشرطة الصينية في قمعها للمتظاهرين.

“مولان” الفتاة التي تقمصت شخصية الجندي وأخفت أنوثتها للالتحاق بجيش الإمبراطور

صُنع فيلم “مولان” بدقة عالية وبأجود العدسات والمعدات الحديثة، لكن هناك فرق بين الإبداع والتنفيذ، وبين الرؤية وتعليب المفاهيم وحشوها في إطار عريض. إن فيلم “مولان” ليس فقط من إخراج امرأة بل جندت له ثلاث نساء في كتابة السيناريو وامرأة أخرى في إدارة الصورة والضوء.

تعني كلمة “مولان” زهرة المنغوليا رمز الوفاء، لكن عن أي وفاء تتحدث القصيدة الأصلية؟ أهو وفاء البنت لأبيها أم للإمبراطور، أم وفاء الشعب للحكم الإقطاعي السائد؟ تدلي الحفريات بأن آثار المنغوليا يعود أصلها إلى 95 مليون سنة بمناطق صينية ويابانية وحتى بأمريكا الوسطى، والمنغوليا نوعان: فصلية ودائمة.

“عندما يركض أرنبان”.. مبدأ تشابه الجنسين

ليس لترنيمة “مولان” مؤلف معروف فقد تكون من نسيج جماعي انتقل عبر الأجيال، لكن التاريخ لا يثبت إن كان هذا الانتقال وقع عبر الصين نفسها أم انتقل إليها من خارجها.

تنتهي القصيدة بالبيت التالي: “عندما يركض أرنبان جنبا لجنب هل يمكن تفرقة الذكر من الأنثى؟ لماذا استعمل هذا المشهد بإلحاح صورت المخرجة فيه بتركيز خاص أرنبين يرافقان حصان “مولان”، لماذا هذا السؤال ولماذا الأرنب وليس الفار أو التنين، هل تريد المخرجة التشكيك في ازدواجية الجنسين؟ لأن اللقطة من زاوية الحصان لا يمكن التفرقة فيها بين طبيعة الأرنبين الجنسية، هل يريد الفيلم دعم مبدأ تشابه الجنسين وبالتالي الدفع إلى محو المفارقات بين الذكر والأنثى؟

 

يعتقد المؤرخون أن “مولان” شخصية حقيقية عاشت بالهضاب الغربية للمغول وهي من أصول تركمانية، فقد عثر على جثث تحمل دلالات فيزيولوجية تؤكد هذا الاعتقاد، فهل استحوذ الفن الصيني على اسم “مولان” فتحولت إلى فولكلور وملكية روائية صينية؟

قانون التجنيد الإجباري.. هاجس العدو الذي يهدد العرش

أمام عدو يهدد العرش يفرض الإمبراطور على كل عائلة أن تقدم ابنا في سن القتال لينخرط بالجيش لدعم صفوفه الرسمية، فهل الفيلم مكتوب بشكل يسمح لكل امرأة بالتعاطف مع شخصية “مولان” وأن تتحول البطلة إلى مرآة ترى النساء فيها الوجه الذي تريد أن تراه لنفسها؟

غُيبت شخصية “موشو” المحبوب عند الجمهور الأمريكي في نسخة الرسوم المتحركة، وذلك لكون المشاهد الصيني يحذر من تعامله الكاريكاتوري الذي يفقد الموضوع جديته ويقلل من وزن القيم الصينية، فتظهر فكرة ” التشي” أو الطاقة الكامنة بالجسد التي تختلف -حسب المعتقد الصيني- من شخص إلى آخر حسب قوته الفطرية ومستواه القتالي وفطنته المميزة.

تعرف “مولان” أن قدراتها القتالية عالية لتمرنها منذ سن مبكرة، ولكونها من أب مقاتل ذي خبرة معترف بها، لكنها لم تتخلص من عقدة الانتحال التي ترافقها كالظل طوال الفيلم.

صوت الأب الراوي.. تأويل رجولي في رواية نسوية

يفتتح الفيلم سرده بلقطة للبطلة “مولان” تمسك بعصا من قصب الخيزران اللين الصلب وتؤدي حركات “تاي تشي” أمام أبيها المراقب والحامي، بينما كانت نسخة الرسوم المتحركة تبدأ السرد بهجوم المغول على الجدار المانع مستعملة الرعب للإمساك بالمشاهد، وإلا فإن الفيلم يختار البراءة في لقطاته الأولى لاستقطاب الجمهور.

 

يبدأ صوت الراوي بسؤال وبحكم في آن واحد حيث يقول: “إن كانت ابنتك تملك “تشي” قويا فهل تقنعها بأنه ملك للذكور وأنه ليس مشرفا استعمالها له كفتاة؟” يستعمل الفيلم صوت الأب في سرد الأحداث كقناع يفرض من خلاله تأويل رجولي للقصة، فلماذا يكون الراوي ذكرا في رواية نسوية، لماذا يتحدث الرجل باسم ابنته في فيلم من إخراج امرأة؟

“لقد طرت كالدجاجة”.. مغامرة في أوج التمرد

تظهر الفتاة في أوج تمردها تطارد دجاجة في فناء بناء صيني قديم محصن تجمعت فيه البيوت في حلقة تشبه المسرح، وأثناء الركض تصطدم “مولان” بجناح تمثال الفينيق المقدس وتكسره أمام هلع الأب.

ترفرف أجنحة الدجاجة فوق السطوح وتغامر “مولان” خلفها مجازفة أمام عيون الأب والجيران المعلقين خوفا وإعجابا بكل خطوة مجازفة تتقدم بها، بينما تعود الدجاجة إلى مخدعها وتبقى “مولان” في السقف حتى تنزلق قدمها وتسقط، لكنها تمسك بقصب الخيزران وترتكز عليه لتصل إلى القاع بسلام بحركة بهلوانية كأنها في السيرك، فتحيي الجيران فخورة بتأديتها دون الانتباه إلى حيرة أبيها من نظرة الجيران لها.

 

يؤكد التشبيه بالدجاجة عندما تمشط “مولان” شعر أختها المعجبة بحريتها بالقول: “لقد طرت كالدجاجة”. في النسخة المرسومة يظهر الدجاج يقتات من القمح محيطا بالأب الذي يصلي داعيا لابنته كي لا تخفق في موعدها مع العجوز التي ترتب أمور الزواج، والمشط في نسخة الرسوم المتحركة ومشط الفيلم بنفس التصميم، فلماذا تنسخ هذه الأداة بشكل دقيق؟

قوة “التشي” الجسدية العالية.. كابوس تحول النعمة إلى نقمة

تلوم الأم زوجها بعد حادث الدجاجة لأنه يجد ألف ذريعة تبرر تصرفات “مولان” المغامرة التي صارت في سن البلوغ، فالأم تخاف على ابنتها من اتهام الناس لها بالسحر والشعوذة لقدراتها الجسدية العالية، ويستعمل مشهد اللوم لاكتشاف إعاقة رجل الأب حين تهم الزوجة بتثبيت الرباط المضمد لها، فندرك أنه يحمل ماضيا قتاليا كبيرا.

ينزوي الأب بابنته بحجة الحديث عن جناح “طائر الفينيق” المكسور ليحذرها من قوة “التشي” الذي بجوفها وأنها تحتاج لإخماده حتى تصير جاهزة للزواج، وأن واجب البنت هو إعلاء شرف عائلتها بالزواج.

 

كيف يمكن تبرير جملة الأب التي تنص على تشجيع من يملك “تشي” قويا في بداية السرد ومحاولته إقناع ابنته على التخلي عنه بعد دقائق معدودة من الفيلم؟ وإذا كان ربط كسر الرجل وكسر الجناح يجعل من الأب شخصا مكسور الجناح -خاصة وأنه ليس له ذكر-، فهل هذا ينبئ بالحظ المكسور للبطلة “مولان”؟

تاجر عربي وثلاثة جمال.. مشهد سينمائي يعيد نفسه

تنتهي سريعا حقبة “مولان” كطفلة ليظهر العنوان أحمر متوهجا كلافتة تحذيرية للدخول في قلب جهنم، وفورا تليه لقطة الصحراء بكثبانها العملاقة لنكتشف طريق الحرير العريق، ويدخل في الإطار تاجر عربي وثلاثة جمال مثلما يظهر أول عربي بفيلم التحريك “علاء الدين” بتاجر مماثل وجمال ثلاثة، وكأن هذه الإعادة مجرد صدفة من فيلم آخر.

تظهر “غونغ لي” في أول لقطة لها بعيدا في حرارة السراب وتقترب من التاجر ملثمة بطلاء يحجب عينيها طوال الفيلم كقناع يوحي بشخصيتها الشريرة. إنها امرأة بقدرات جنية “كزيان لونغ” قادرة على التبخر في جسد التاجر العربي كي تدخل من خلاله القلعة المحصنة المستهدفة، وتوحي التسمية إلى منطقة “كزيان جيان” لتحديد منطقة “الإيغور” المسلمة.

 

يناطح حراس القلعة حصانا أسود يشق غبار الرمال تختفي خلفه خيول تحمل على صهواتها مقاتلين بهندام أسود وسيوف تشبه سيوف العرب في شكلها المنحني العريض، فالعدو يأتي من الصحراء والقلعة هي المكان الآمن، لكن المندس داخلها هو العربي الذي بجسده ساحرة تنتظر الوقت المناسب لكسر المقاومة من الداخل، ففكرة حصان طروادة تطارد الرواية الصينية وتؤكد النسخ المذكور.

أفلام “ديزني”.. تدعيم الصورة السلبية عن المسلمين

يقف الإطار على وجه القائد “بوري خان” الذي يحمل ملامح مغولية تبدو عربية في خطوطها الكبيرة، وقد وضع بعينيه الكحل مثلما يتباهى به أمراء داعش.

أضيف للقائد المغولي في فيلم التحريك لون بشرة داكن وأحيط بلباس حيواني بدائي كي يبدو عدوا للحضارة، وليست هذه أول مرة تتعمد “ديزني” نمطية الصور السلبية للعرب، ففيلم “علاء الدين” مفخخ بكل أنواع التمييز العنصري، وهل يستغل الفيلم الأصول المنغولية المسلمة لتوظيفها بشكل نمطي وحقنها في ذهنية المشاهد؟ صور جزء من الفيلم بالمناطق الإيغورية مما أثار غضبا لنشطاء يساريين أوروبيين محاولين إقامة حملة لمقاطعة الفيلم تضامنا مع مسلمي الصين.

صورة لوجه القائد “بوري خان” لذي يحمل ملامح مغولية تبدو عربية في خطوطها الكبيرة

يظهر الإمبراطور محاطا بتنينين من ذهب في رونق البلاط مستمعا لوزيره يلخص له خسائر الهجوم الأخير التي مني بها، وتركز لقطة قريبة على الاستماع لتفاصيل القتل فنتعرف على الممثل “جات لي” الذي اختفى منذ فترة بعد معاناة من مرض مزمن ما زال يثقل وجهه.

لكن عندما يخلو الشرير بالساحرة في مشهد حميمي للنفث في العقد ترفض الساحرة معاملته لها كساحرة وتلح على استعمال كلمة مقاتلة بعد أن ضغطت على عنقه بيد فولاذية ندرك من خلالها أنها هي الأقوى.

انتحال شخصية مقاتل.. نهضة “مولان” لإنقاذ شرف العائلة

يبدو أب “مولان” الجندي السابق في جيش الإمبراطور قلقا لتقدمه في السن وعدم قدرته على حمل السيف لأنه لا يملك ابنا ذكرا يمثله، فكيف يتحول التجنيد الإجباري إلى شرف يؤنب الشخص فيه نفسه عندما يعجز عن الانضمام فيه؟

تتمعن “مولان” في حركة السيف يشحذ على الحجر بيد أبيها وتدرك أن في جمال الأداة والشيء المخصص لها تضاربا في القيم، بين جمال العبارات المنقوشة عليه وحدة شفرته الحد بين عالم الحياة والموت والحد بين أنوثتها وذكورية وهمية، وأمام هذا العجز المفقد للشرف تتخذ “مولان” قرار إنقاذ اسم عائلتها بانتحال شخصية ذكورية والالتحاق بصفوف الجيش الجديد، وهو قرار لإنقاذ أبيها من موت محتوم.

 

تترك “مولان” المشط رمز الأنوثة وتأخذ مكانه استدعاء التجنيد وتختفي بعد أن أخذت السيف والعتاد والدرع والحصان الذين كان يفتخر بهم الأب، لقد جردت الأب من ماضيه لبناء مستقبل جديد.

كنا قد شاهدنا هذا المشط الفضي في لقطة سريعة عندما حضرت “مولان” نفسها في هندام العروسة للقاء العجوز المكلفة بتزويجها، ويرتبط المشط بفكرة الزواج، والتخلي عنه يعتبر ابتعادا عن هذا المشروع، لكنه يوحي بتساوي أسنان المشط وفكرة العدل بين النساء والرجال.

نقش السيف.. سعي وراء طائر الفينيق إلى المجهول

تنتظر “مولان” حلول الليل للتسرب أمام لمعان السيف الذي نقشت عليه العبارات الثلاث: “مخلصة وشجاعة ومقاومة”، فينعكس وجهها في بريقه، لكن لماذا تكرار هذه الكلمات الثلاث وكأن الفيلم يريد نقشها في أذهان المشاهدين كنوع من التطعيم الإجباري؟

يظهر قصب الخيزران كثيفا وعاليا مذكرا بلقطات الفيلم الأولى كرجوع إلى الأصل، فتشق “مولان” وفرسها بينه طريقا نحو هوية ومستقبل مجهولين، وارتباط القصب بالطفولة يعني أنها ما زالت صبية تجهل ما ستقدم عليه.

“مولان” تحمل السيف الذي نُقشت عليه عبارات “مخلصة وشجاعة ومقاومة”

عندما نعتقد أن “مولان” في مسعاها نحو جيش الإمبراطور قد تاهت يخرج من العدم طائر الفينيق ليوجهها نحو الطريق المرغوب، لندرك فورا أن الخرافة والخيال يركبان نفس الجواد، وأن مصداقية الفيلم هشة.

“قدم اللوتس”.. وداعا لرجل الأنثى الصغيرة الوديعة

تتوق “مولان” في طريقها للتجنيد لتتفقد رجليها، فيظن المشاهد أن انتزاع النعل يخفف من إرهاق الطريق غير أن المشهد ينوه إلى موضوع خطير كانت تعيشه كثير من النساء الصينيات حتى زمن متأخر، فقد كان عليهن الحفاظ على أقدامهن قصيرة، لذا فإن ما يحيط بقدم “مولان” ليس جوارب للنعل بل أحزمة تمنع نمو القدمين.

يرجع السبب الأول لهذه الموضة إلى إمبراطور عرش “طونغ” الذي طلب من جارية أن تضمد قدميها لأداء رقصة زهرة “اللوتس” فارتبطت هذه الرغبة وهذا الاسم برغبة الزواج، ويجد علماء النفس بأوروبا تقاربا كبيرا بين “قدم اللوتس” واستعمال أحذية الكعب العالي عند نساء الغرب، وقد دامت هذه العادة من القرن الخامس حتى بداية القرن العشرين وما زالت في بعض المناطق متداولة لحد الآن رغم المنع القانوني الصادر من أول جمهورية صينية عام 1912.

هكذا إذن تضحي “مولان” -بتفقدها هذا الجزء من جسدها- بأنوثتها وبزواجها لكون القدم رمز الأنوثة في عصرها.

“سنجعل منكم رجالا حقيقيين”.. قلق اللحظة المفصلية

بعد التحاق “مولان “بالثكنة واندماجها في الصفوف الذكورية وبعد التهديدات اليومية بالقتل وفقدان الشرف من القائد الأكبر لكل من يخون أو يتهاون في أداء المهام نصل إلى الجملة المفصلية عندما يقول: “سنجعل منكم رجالا حقيقيين”. اللقطة كبيرة بكبر الجملة على وجه “مولان” المرتبكة لشكها في التمكن من إتمام الدور. عندما تخشى “مولان” أن يكشف أمرها فهل تستحيي من أنوثتها، أم من تقمصها لشخصية الذكر؟

 

تذكر هذه العصبة شخصيات “بياض الثلج والأقزام السبع”، فهل شركة “ديزني” تتفنن كل مرة في إعادة تسويق نفس الفيلم بتغيير العنوان وأسماء الشخصيات لكن بالحفاظ على نفس المكونات الدرامية ونفس التركيب ونفس الرموز؟

هناك تحدٍّ إخراجي حاولت تأديته “نيكي كارو” للأفلام الصينية السابقة حول مواضيع مشابهة، فهل هذا دليل على تأثير الأسلوب الصيني على سينما هوليود، أم أن السينما الغربية تريد التخلص من هيمنة الأسلوب الصيني لهذا النوع من الأفلام بنسخها ملامحه الإخراجية؟

“إن حبة أرز واحدة تحرك الميزان”.. خطبة القائد الأكبر

يلتف حول الشرير “بوري خان” أمراء اثنتي عشر قبيلة يتحدون للتخلص من الإمبراطور تحت خيمة عربية التصميم. يؤكد القائد الأكبر أن الإرادة سلاح المقاتل في خطاب تشجيعي: “120 غ يمكنها تحريك 120 كلغ”، فيذكرنا هذا المثال بحشرة الخنفساء التي يمكنها الانتقال بحمولة تفوق وزنها بأكثر من ألف مرة.

في نسخة الرسوم المتحركة يقول الإمبراطور: “إن حبة أرز واحدة تحرك الميزان ورجل واحد قادر على نيل الانتصار”، غير أن أهم ميزة عند الخنفساء هي قوة المثابرة، لأنها تحاول مرارا تنفيذ مهمتها دون يأس حتى تصل إلى مبتغاها، فهل “مولان” هي خنفساء الملحمة الصينية؟

الفنان “جيسون سكوت” الذي أدى دور القائد المغولي “بوري خان” في الفيلم

ظهور الممثل “دوني يان” في دور القائد الأكبر للجيش يعطي للفيلم طابعه القتالي الحقيقي لكونه معلما في فنون “الكونغ فو” وممثلا بدأ مسيرته التمثيلية في بداية الثمانينيات، وهو معروف عند المختصين في هذا الفن القتالي بسلسلة “أبي مان”، وقد تدرب على “التاي شي”، ويحمل على كتفيه أكثر من 70 فيلما.

جلد حماية الثديين المقوى.. درع اختباء الأنوثة

تحمي “مولان” ثدييها بجلد مقوى يمنع من بروز أي شكل أنثوي قد يفشي سرها لتصبح الجندي “بينغ”، وهو لقب يعني المخنث، وقطعة الجلد هذه كان الأب يحفظ فيها وساما حربيا يمثل “طائر الفينيق”.

تلجأ “مولان- بينغ”- إلى بحيرة لتغسل عرق أسابيع من التمرين، غير أن رفيقا من الصفوف “هونغ هوي” التحق بها عند الماء في مشهد حميمي كادت أن تفقد فيه سرها، لكن لماذا يتسرب الرفيق نحو رفيقه في خلسة الليل للحديث عن القمر والصراصير؟ عندما تعطيه “مولان” بالظهر تجنبا لمواجهته يؤكد لها أنه جاهز لمساندة الآخرين و أنه يجب عدم إدارة الظهر للجميع.

بوستر فيلم “مولان” المتطابق تماما مع بوستر الرسوم المتحركة الخاصة بـ”مولان” كذلك

إنها فكرة “البطل يحمي الجميع والجميع يحمون البطل” التي استعملها الكاتب الفرنسي “ألكسندر دوما” في رواية “الفرسان الثلاثة”.

موت الجندي “بينغ”.. انفجار السر العظيم

تأتي أول معركة حاسمة بين قوى المغول وجنود الإمبراطور، فتنفرد الساحرة في كمين نسجت خيوطه عنكبوتيا بالمقاتلة “مولان” وتكشف هويتها المتنكرة ثم تقتلها، فيموت الجندي المخنث “بينغ” لكن “مولان” لم تمت لأن الجلد المقوى الحامي لثديها حال دون وصول أنياب القوس القاتل إلى القلب، فينبعث الجزء الآخر من شخصية “مولان” مثل طائر الفينيق الذي وصفه الأب في بداية السرد بانبعاثه من الرماد بعد دخوله الجحيم، وفي هذا تنويه ديني مسيحي يعوض المعتقد البوذي.

عندما يصاب الجندي والعشيق السري “هونغ هوي” تحمله “مولان” على جوادها وتنقذه، يشبه هذا المشهد كثيرا قصة الأمير الذي يقبل “سندريلا” ليخرجها من سبات عميق بفارق واحد، وهو أن “مولان” لا يمكن أن تقبله بل تضع فقط يدها على قلبه وتتأكد أنه نابض.

 

تطرد “مولان” من فيلق جيشها بعد أن اكتشف أمرها فتنتقل اللقطة من بياض الثلج الساطع حيث دارت رحى المعركة إلى سماء حمراء الغيوم تذكر بحمرة الصحراء التي ظهرت فيها الساحرة المرة الأولى.

تربط المخرجة عمدا هذا اللون بحضور الساحرة” غونغ لي” التي تحاول استقطاب “مولان” وتجنيدها في قوى الشر بعد أن تخلى عنها أهلها الذين أنقذتهم من خسارة محتومة.

إن القائد الأكبر في الرسوم المتحركة كان نفسه العشيق عكس الفيلم الذي جعل منه أبا ثانيا، لأنه بعد حركة “أنا أيضا” النسوية صار من المستحيل أن يكون المدير أو القائد عشيقا لتجنب استغلال المنصب للتأثير على “مولان”.

قانون الطفل الواحد.. كابوس إنجاب الأنثى

نحن في زمن يكتب فيه السيناريو بقفازات وكمامات حتى لا يغضب الرعاة ولا تجوع الذئاب، لذا قسمت شخصية “لي شانغ” المرسومة إلى شخصيتين: القائد الأكبر “تونغ” وشخصية “هونغ هوي” رفيق القتال الذي له الحق في الحب.

العائلة بالفيلم مكونة حسب التقويم الصيني الحالي من أم وأب وبنتين في عهد لم يكن فيه أي قانون يمنع الإنجاب.

 

إن فكرة تحديد النسل بالصين واعتماده على صبي واحد لكل زوج دفع إلى قتل الملايين من البنات إجهاضا، وقد أصبح قانون الطفل الأوحد عام 1979 ساري المفعول، لكن في عام 2016 سمح القانون الصيني بإنجاب طفلين، ورغم ذلك يبقى التخوف من إنجاب الأنثى كابوسا في أذهان الكثيرين، فكيف يمكن التحدث عن حقوق المسلمين الصينيين المسجونين إلى المواطن الصيني إذا كانت أرقام الإجهاض تقارب 63 ألف “مولان” يوميا؟

تجنب تصوير الجثث والدماء.. رؤية إخراجية متناقضة

ليست في الفيلم بكامله قطرة دم واحدة تظهر على الجثث أو على السيوف، فكيف يمكن تصدير ملحمة بحروب وجيوش وعساكر مدججة دون أن يكون لكل هذا العتاد أي مصداقية واقعية؟

تتجنب المخرجة تصوير الجثث وتكتفي بتأطير كومة من المغافر تراكمت فوق بعضها للإيحاء بموت الجنود، لكنها قامت في الفيلم باستعمال خيول أوروبية عربية، لا خيول المنطقة المزعومة، فالحصان المغولي قصير يكاد الفارس أن يلامس الأرض فوق صهوته، إنه حصان غير جميل سينمائيا.

 

كما لم تتفاد استعمال اللغة الإنجليزية كلغة أصلية لممثلين صينيين وقصة صينية، وكأن الفيلم يفرض رسالة إدماج الجالية الصينية لغويا بأمريكا.

من بيين كل أبطال “ديزني” الشرير “خان” هو الأكثر بشاعة وشراسة في كل الأدوار الشريرة لكل أفلامهم، وكلمة “خان” المستعملة في تسمية قوات “الغوغان” أصلها تركماني مغولي وليس صينيا.

مصرع الساحرة.. غلبة التكاتف النسائي على العداوة

ترغم “مولان” في نهاية الفيلم الخصم على إرسال قذيفة تسبب انهيارا ثلجيا يتحول إلى “تسونامي” ليردم جيش العدو ويدفن أيضا جيشها، لكن هل سيصمد الفيلم أمام تسونامي المقاطعة الذي أطلقته الممثلة “ليو يي فاي” عبر تويتر، وهل ستتوتر العلاقة بينها وبين الشركة الأم هذه المرة، هل تضحي “مولان” بجيشها حتى تبقى هي البطلة الوحيدة التي تتخلص من الخصم كي تنقذ شرف عائلتها؟

كانت شخصية “مولان” بين كل أفلام “ديزني” هي الوحيدة التي تقتل عمدا، وفي المشهد القتالي الأخير تريد “مولان” إنقاذ الإمبراطور فتواجه جنودا وجوههم ملثمة ليبدون في زي عربي. تلاحق “مولان” فوق السطوح الساحرة التي تحولت إلى طير كاسر، ونعرف من خلال تحليقها مكان احتجاز الإمبراطور.

 

يتعمد السيناريو لإخبارنا بنهاية الفيلم بتطابق هذا المشهد ومشهد الدجاجة، فيرسل الشرير سهما قاتلا نحو “مولان”، لكن الساحرة تعترض مساره بجسدها الطائر لتموت بدلا من “مولان”، فكيف يمكن تبرير هذه التضحية بعدما قتلتها بيدها في منتصف الفيلم، هل تعاطف النساء بينهن ضد الرجال أقوى وأولى من أي عداوة؟

“التضحية من أجل العائلة”.. مصداقية التاريخ في سينما الستار الأخضر

هناك رسالة مبطنة للفيلم وهي الكلمة الأخيرة المنقوشة على السيف الذي أهداه الإمبراطور إلى “مولان” بعد عودتها إلى مخدعها الأول، وهي:” التضحية من أجل العائلة”، وقد كانت هدية الإمبراطور مسمومة لأنه يريدها ضمن الحرس المقرب له وبشكل سري لا يبوح به الفيلم، يريدها كجارية.

هل رفض “مولان” التكريم والمنصب والزواج يجعل منها راهبة، وهل ميزانية فيلم بلغت 290 مليون دولار ستحرك مليارا و393 مليون مشاهد صيني؟

في قصص ومصادر متعددة رفضت  “مولان” كل الامتيازات التي وضعت تحت أقدامها وانتحرت، لكن “ديزني” تصدر كعكة لا مراسيم موت والامتياز الذي تتمتع به أفلامها ليس في نوعية الإخراج أكثر من قدرتها على تعميم كل فيلم في كل مكان.

 

تستحوذ سينما خداع الستار الأخضر والمؤثرات الصوتية المفقدة للسمع على شاشات العالم بفضل التوزيع، فمتى نتخلص من الجدران الوهمية المشيدة منذ قرون بين الدول العربية، وماهي حظوظ سينما المؤلف العربية في الوصول إلى المشاهد العربي أمام منتوج يحتكر كل السوق؟

هل انحرفت شخصية “مولان” عن مسار أبيات شعرها الأولى لتصير في الفيلم الأخير رمز تخنث الرجل أو راية لذكورية النساء، هل ربط شخصية نسائية صينية بزهرة قديمة يزيد من مصداقيتها التاريخية، وهل سيناريوهات القصص النسوية فصلية أم ستدخل السينما في عهد نسوي دائم مثل زهرة المنغوليا؟