“نائلة والانتفاضة”.. انتفاضة الحجارة بعينٍ غير فلسطينية

أسماء الغول

 

كانت نائلة في مدرستها الابتدائية مع شقيقاتها الأربع حين دوّى صوت انفجار ضخم، ثم سرعان ما انتشرت الأنباء في المدرسة بأن منزل إبراهيم عايش دمره الاحتلال الإسرائيلي، وكان إبراهيم والدها والمنزل منزلها، وذلك في عام 1969.

وصلت نائلة البيت لتجد في عيني والدها نظرة أسى كانت شديدة الوقع عليها، ولم يكن أحد يعرف أن تلك ستكون بداية مشوارها الطويل في النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي.

حادثة المدرسة تلك غير موثقة بفيديو أو صور، لكن المخرجة البرازيلية جوليا باشا جسدتها في فيلم “نائلة والانتفاضة”، وذلك برسومات متحركة بالأبيض والأسود (أنيميشين)، وفي سياق غاية في الذكاء لعب دورا رشيقاً في التخفيف من تراجيديا الأحداث.

 

فيلم يوثق بالرسوم المتحركة

يبدأ الفيلم في منزل نائلة عايش التي وصلت إلى العقد الخامس من عمرها، وذلك في مشهد حميم وعفوي يُظهر نائلة بصحبة ابنها البكر “مجد” في صالون المنزل وهما يتفرجان على ألبوم للصور العائلية، فيسألها مجد عمّا إذا كان لديها صور خلال فترة الاعتقال لدى الاحتلال الإسرائيلي.

ينتقل المشهد بعد ذلك إلى مقابلة مع نائلة التي تقول “العمر سنوات طويلة، وسنبقى نحكي بأيام الماضي”، ومن ثم تسرد حادثة المدرسة، وهنا يظهر أول مشهد للرسوم المتحركة في الفيلم، ويتكرر في كل مرة من تمثيل حدث مهم غير موثق بالفيديوهات. وتعتبر هذه الرسومات الإشارة الأولى إلى أنه فيلم يغرد خارج سرب الوثائقيات والأفلام التي تتناول القضية الفلسطينية والانتفاضة الأولى، فهذه المواضيع أُشبعت بحثاً، لكن المخرجة تتناولها بسياق جديد وحساس.

ويستمر الفيلم مدة 76 دقيقة، ويتضح فيه الجهد المبذول في التنقل بين الضفة الغربية وإسرائيل وغزة لإجراء المقابلات وتجميع المواد الأرشيفية النادرة التي لم تكن تخص الانتفاضة وحدها بل حياة نائلة ذاتها، إلى درجة جعلت نائلة تصرح للجزيرة الوثائقية عقب الفيلم “هناك صور لي لا أعرف كيف وجدتها أو حصلت عليها، فأنا نفسي لم أعد أملكها، كصورتي الفوتوغرافية في الثانوية العامة”.

وهذا كان نهج جوليا باشا في العمل السينمائي؛ الاستقصاء إلى جانب التوثيق، فنرى المعلومة التي يتم عرضها في الفيلم يتم تأكيدها من أكثر من جهة، وقد يظن البعض أن هذا لا يحتمله فيلم وثائقي يركز على قصة شخصية، لكن المخرجة تحكمت بكل شيء، حيث كان يسير بشكل متسلسل ومتمكن وموثق، مما جعل الفيلم بحرا من المواضيع، لكن دون أن يخرج عن ثلاثة خطوط رئيسية تسير بموازاة بعضها؛ نائلة وحكايتها الشخصية، ثم الانتفاضة واختيار الشعب للانتفاض السلمي وجهاً لوجه أمام الاحتلال الإسرائيلي، وأخيرا تدرج دور المرأة الفلسطينية في النضال الفلسطيني، وعبّرت عن كل ذلك بمقابلات ومواد أرشيفية ورسوم متحركة.

مشهد عفوي يُظهر نائلة بصحبة ابنها البكر “مجد” في صالون المنزل وهما يتفرجان على ألبوم للصور العائلية

 

الانتفاضة الأولى بعين برازيلية

لم يهتم الفيلم بقصة على حساب أخرى، بل نجحت المخرجة وفريق عملها من خلال المونتاج ببناء الحكاية كما يجب، وذلك في انسجام من النادر أن يتسم به فيلم سياسي طويل، فلا توجد مقابلة طالت أكثر من اللازم، أو صورة ليس لها علاقة بالموضوع، أو معلومة لا تدعم البناء الهرمي للفيلم الذي يبدأ من الذروة ولا ينتهي إليها سواء فنيا أو على مستوى الأحداث.

وكانت عين المخرجة التي يمكن وصفها بالغريبة عن فلسطين تقدّم القضية بشكل طازج، وكأننا نرى الانتفاضة الأولى للتو واللحظة، ونتعلم كيف بدأت علامة النصر بإصبعي السبابة والوسطى، وكيف انطلق أول حجر. إنها بديهيات غالباً لن ينتبه إليها المخرج المحلي، لكن العين الغريبة دائماً ما ترى المألوف جديداً وتركز عليه حتى لو حدث قبل ثلاثين عاماً، أي حين بدأت الانتفاضة الأولى.

نائلة فقدت جنينها الأول في السجن بسبب وحشية الاحتلال في التعامل

 

نائلة.. حين تفقد جنينها في السجن

إن تأثر الجمهور الفرنسي الذي حضر العرض في 12 مارس/آذار خلال مهرجان “سينما فلسطين” في تولوز بنسخته الخامسة كان واضحاً، فقد كانت الشهقات تملأ هدوء الصالة حينما كان الجيش يسحل شاباً على أحد أرصفة مدن الضفة الغربية خلال الانتفاضة الأولى، وقد تشوّه وجهه وغرق بالدماء.

وأحياناً تسمع قهقهات الضحك العالية، خاصة حين قالت نائلة في الفيلم بأنها أول مرة قامت بتصوير جنينها للاطمئنان عليه خلال فترة الثمانينيات؛ وضعت التقرير معها بحقيبة يدها التي كانت مليئة بالبيانات الثورية، إذ كانت توزعها سراً خلال الانتفاضة الأولى، واكتشفت حين عادت للمنزل أنها قد وزعت تقرير حملها أيضا.

 كما أن الجمهور الذي ملأ القاعة وجلس بين الكراسي لم يغادر فور انتهاء الفيلم كما يحدث عادة، بل انتظر النقاش الذي أعقب الفيلم، فقد كان متطلعاً لسماع نائلة عايش وزوجها رجل السياسة جمال زقوت اللذين كانا ضيفي المهرجان، وقد صفق طويلاً حين قالت نائلة خلال النقاش “إن الفيلم حكاية الانتفاضة وليس حكايتي وحدي، كما أنه حكاية آلاف النساء غيري، إنه ليس فقط عن المعاناة بل سنين من الفخر أيضاً”.

وعلى الرغم من أن موقف تقرير الحمل الذي وزعته نائلة بالخطأ يبدو فكاهياً، لكن تجربة الحمل مع نائلة لم تكن كذلك في بدايتها، فقد عرض الفيلم في رسوم متحركة نائلة وهي تجلس في السجن خلال اعتقالها الأول والجنين في بطنها يتحرك، لكنها فقدته بسبب معاملة الاحتلال الوحشية لها، مما اضطر إدارة السجن لنقلها إلى المستشفى لإجراء عملية تنظيف الرحم، ثم جاء الإفراج عنها بعد ضغوط الصحافة الإسرائيلية والحملة الإعلامية المضادة للحكومة الإسرائيلية. واستضاف الفيلم صحفيَين عملوا لتوثيق ما حدث وقتها.

الحكاية الشخصية في الفيلم كانت تنتهي إلى مآلات أفضل نسبيا، إلا حكاية الانتفاضة فلم تستطع المخرجة أن تأتي بأجمل منها لأن التاريخ لم يفعل

 

نائلة وعائلتها إلى المهجر

وهذا نهج المخرجة في الفيلم، فهي تأتي بالحكاية الحزينة لكن سرعان ما تحاول محوها بذكر الحكاية ذاتها بسردية أجمل ونهاية أكثر سعادة، كما هو حمل نائلة الثاني الذي انتهى بولادة ابنها البكر مجد، ثم اعتقالها من جديد عام 1989 من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وهنا تُحرم حتى من احتضان ابنها خلال الزيارة، لكن خلال حملة صحفية أخرى مناصرة لها ينضم إليها مجد في الزنزانة.

ويصبح الرضيع “وردة السجن” وابن جميع الأسيرات اللواتي التقى الفيلم ببعضهن، ووصفت إحداهن كيف كان مجرد تغيير “حفاضته” يمثل سعادة كبيرة لها، وتدخل هنا الرسوم المتحركة لتجسيد الطفل في السجن بصحبة الأسيرات في “أنيميشن” إبداعي ومؤثر.

وسرعان ما تطلّ أزمة ترحيل زوج نائلة جمال زقوت إلى مصر بعد اعتقاله من قبل الاحتلال بسبب دوره في الانتفاضة، لكنها لاحقاً وبعد محاولات حثيثة خلال عام ونيّف تستطيع اللحاق به، وأن يكوّنوا عائلة كاملة لأول مرة، لكنها -كما تقول نائلة في الفيلم- “كانت سعادتنا منقوصة، ليست هذه السعادة التي نريدها”.

وهكذا كانت الحكاية الشخصية في الفيلم تنتهي إلى مآلات أفضل نسبيا، إلا حكاية الانتفاضة فلم تستطع المخرجة أن تأتي بأجمل منها لأن التاريخ لم يفعل، بل انتهت نهاية مأساوية بالضبط كما انتهت مشاركة المرأة الفلسطينية بذات النهاية الحزينة.

فقد اعتقل الاحتلال قيادات العمل الجماهيري الرجال، واستطاعت النساء قيادة الانتفاضة لمدة عام ونصف وعلى رأسهن القيادية ربيحة دياب، وكن مُدافعات شرسات ليس عن أبنائهن وآبائهن وأزواجهن فقط، بل عن الحق في الانتفاض والثورة وعن الأرض أيضاً. تقول دياب في الفيلم “كنا نقول إننا سنرجع لنناقش الإخوة، ولكن الحقيقة لم يكن هناك إخوة”، وذلك في إشارة إلى أن جميعهم كانوا في المعتقل.

المرأة الفلسطينية في الانتفاضة الأولى كان عنفوانها يظهر في المظاهرات

 

نعي الانتفاضة.. وولادة أسلو

وهذا العنفوان للمرأة ومشاركتها في الانتفاضة الأولى التي صورتها رسوم الأنيميشن بانتشار الورود والفراشات على خريطة الوطن؛ يمشي بالتوازي مع عنفوان الانتفاضة وتحركها، والتي أجبرت أمريكا على التدخل لوقفها وحض الطرفين على التفاوض، وذلك في إشارات عميقة وذكية للمخرجة التي قضت حياتها في أمريكا منذ كان عمرها 18 عاماً، إلى بدايات الموقف الأمريكي لاحتواء الثورة الفلسطينية وعمله لصالح إسرائيل.

وهنا يبدأ الزحف البطيء في الفيلم ليس لنعي الانتفاضة فقط في إعلان اتفاق أوسلو، بل أيضاً عودة المرأة للبيت والسلطة الأبوية، وعدم تواجدها الحقيقي في هذه المفاوضات والاجتماعات الدولية، ووصل الأمر أنه حين تم تشكيل السلطة الوطنية الفلسطينية تم سن قرار وجوب أخذ المرأة إذن زوجها لعمل جواز سفر لأبنائها.

تقول نعيمة الشيخ علي القيادية في حركة فتح عن تلك الفترة في الفيلم “تم تغييب النساء عن الاستعداد لتشكيل السلطة الوطنية ومؤسستها، كما كان الحال وقت المفاوضات والاتفاقات الدولية”.

وهكذا انتهت حكاية نضال بدأها شعب في الشارع، وأبدع طرق نضاله ومظاهراته، واجترح من معاناته كلمات البيانات وأزياء ثورته ولثامها، والأهم تحركه العفوي المختلط بين الرجال والنساء بمواجهة الجنود بالزي الكاكي المدجج بالأسلحة، وذلك في لقطات نادرة عرضها الفيلم تؤكد أن الانتفاضة الأولى لم يحتكرها حزب أو حركة.

وبعد أن كان هذا الحراك وقيادات الشارع والعمل الجماهيري والنساء والرجال والتجمعات العمالية العفوية هي بديل الدولة وتقود الحلم الفلسطيني؛ تم تحويل النضال الفلسطيني إلى سلطة ومؤسسات وأوراق ورواتب، وتوظيف المناضلين والمناضلات، ونجحت أمريكا في تحويل مسار الثورة بموافقة من كانوا يوماً ثواراً، وبدأت مرحلة جديدة أمسكت فيها النساء المؤسسات ومشاريع تمكين النساء بعد أن كن رعباً حقيقياً في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وقادت مؤسسات السلطة الفلسطينية وموظفيها الحلم إلى هاوية المفاوضات، وتقول النسوية زهيرة كمال “ما كان يحدث في الواقع غير ما جاءت به أوسلو”، ولم يشر الفيلم إلى أن زهيرة ذاتها كانت وزيرة شؤون المرأة خلال الفترة 2003 و2006، وذلك في واحدة من وزارات السلطة التي جاءت بها اتفاقية أوسلو.

 

أمومة ملهِمة

ويقترب الفيلم من نهايته حين يعرض مشهد رسوم متحركة لامرأة تفتح أبواباً كثيرة إلا أن أحدا ما يُغلقها، كما يتم حشرها في فراغ صغير يضيق عليها حتى يكاد يفتك بها، هكذا يصور ما فعلته هذه الفترة بالمرأة التي خرجت في مظاهرات ضد السلطة الوطنية الفلسطينية لكنها سرعان ما خفتت.

وأخيراً يعود الفيلم إلى نائلة خلال إلقائها كلمة كقيادية نسوية في واحد من المؤتمرات، وتحدثها عن التحرر الوطني والنضال الجمعي المشترك، ثم إلى ابنها البكر مجد في صالون منزل العائلة في فلسطين الذي يرى أن الانتفاضة الأولى لم تكن تحركاً سياسياً فحسب، بل حملت معها تغييراً اجتماعياً كبيراً.

 ثم تملأ الشاشة رسماً متحركاً لامرأة تحمل طفلاً رضيعاً، وذلك في إشارة إلى الأمومة التي ألهمت نائلة والفلسطينيات كثيراً في نضالهن ضد الاحتلال الإسرائيلي، لكنها ذاتها الأمومة التي تعود بالمرأة إلى البيت حين يتعلق الأمر بقرارات رجال السياسة والقانون في حكومات ما بعد النضال.