“نوتورنو”.. معزوفة ليلية على بقايا جراح داعش

عبد الكريم قادري

امرأة حزينة مُتشحة بالسواد تراجع رسائل ابنتها الصوتية على هاتفها الجوال، تسمعها تقول بصوت مهزوم بأنها سبية عند تنظيم داعش الإرهابي الذي يريد بيعها، لهذا طلبت من أمها أن ترسل لهم المال لتستردّ حريتها، لكن بدا على ملامح الأم بأن الوقت قد فات، لهذا باتت تستأنس برسائلها الصوتية كلما حاصرها الحنين.

هذا مشهد من مشاهد الألم الكثيرة التي نقلها فيلم “نوتورنو” (Notturno) في مواقع النزاع طوال ثلاث سنوات، فما السر الذي أغرى الإيطالي “جيانفرانكو روزي” ليتتبع هذه الجراح ويوثّقها؟

 

“داعش”.. آلة العنف التي مزقت سوريا والعراق

يشتبك الفيلم الإيطالي “نوتورنو” (2020) مع الجراح العميقة التي ألمّت بالسوريين والعراقيين، جراء الحروب والأحداث الدامية التي وقعت لهم طوال السنوات الماضية، على خلفية الصراعات المحلية والإقليمية، وسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (يُعرف اختصارا بـ”داعش”)، حيث قلب حياة الناس رأسا على عقب بعد أن فرضوا منطقهم السياسي والديني، وشرّعوا قوانين خاصة بهم أنهكوا بها الناس لسنوات، كما تعاملوا مع الأقليات العرقية والدينية بوحشية كبيرة تركت ندوبا غائرة في نفوس كثير منهم إلى اليوم.

وقد تتبع الفيلم الوثائقي “نوتورنو” (تعني بالإيطالية المعزوفة الليلية) جراح هؤلاء، وذلك بعد أن عاش معهم المخرج “جيانفرانكو روزي” مدة ثلاث سنوات كاملة، صوّر من خلالها كل شاردة وواردة، ووثّق لحياتهم بعد أن ابتعدوا عن “داعش”، لكنهم بقوا يعيشون على مآسيها وأحداثها الدامية طوال سنوات سيطرتهم القوية، يتآكلهم شعور الفقد والغضب والخوف والأمراض النفسية، لا سيما أن كثيرا منهم ما زالوا يعيشون على وقع دوي المدافع وأزيز الرصاص المنفجر من فوّهات مختلف المليشيات والجيوش، ومن بينها الجيوش الأمريكية التي لا تزال رابضة على أرضهم.

الصيّاد العراقي الذي يعمل على صيد الطيور المائية والسمك في أحد المستنقعات، حيث يبيت ليله فيها يتتبعها كي يقبض عليها ويسترزق

 

نبض الصورة.. شحنة عاطفية في ثنايا القصة

ينطلق المخرج “جيانفرانكو روزي” في هذا الفيلم من مبدأ سينمائي أساسي، وهو خلق لغة سينمائية حادّة، انطلاقا من المشاهد والأحداث المباشرة التي تقع تحت عدسة الكاميرا، حيث ابتعد عن المقابلات والمواجهات الندية بين السائل/ المخرج، والمجيب/الضيف.

جعل المخرج الصورة نابضة بالدلالات والإشارات الرمزية بعد أن صنع بها العديد من اللحظات الإنسانية النادرة، وقبض عليها من خلال تتبعه وصبره عليها لمدة طويلة، حيث صنع من مشاهده مفارقات حسيّة ومعنوية شحنت الجمهور بعاطفة قوية، خاصة وأن فيلم “نوتورنو” (100 دقيقة) لا يرتكز على القص المنطقي الذي تعتمده عادة الأفلام الوثائقية، بل دمج القصص وفق سياق معين تجتمع فيه كلها تحت قبة إفرازات الحرب وتأثيراتها على المجتمع، ليكتشف حياة هذا الإنسان الذي يعيش تحت وقع النيران والخوف والوضع الاجتماعي المزري.

هذه القصص الإنسانية يعكسها مجموعة من الأفراد تختلف أعمارهم ومناطق سكنهم وانتمائهم، مثل الطفل الذي يخرج صباحا قبل شروق الشمس، يتجه للحقول الموحلة حتى يصطاد بعض العصافير، ليعيل بها عائلته الفقيرة وإخوته الصغار.

وفي الوقت نفسه تتبع كاميرا “جيانفرانكو روزي” شخصا عراقيا آخر يعمل على صيد الطيور المائية والسمك في أحد المستنقعات، حيث يبيت ليله فيها يتتبعها كي يقبض عليها ويسترزق، وقد رافقه المخرج انطلاقا من قيادته للدراجة النارية على الطريق (جعلها كملصق للفيلم)، ووصولا إلى المستنقع، إضافة إلى مصحّة الطب النفسي، حيث يحاول الطبيب المعالج إشراك بعض العراقيين في إنتاج مسرحية حول الوطن الجريح، مع عرض صور على شاشة كبيرة استعرض من خلالها تاريخ العراق مع الحروب والصراعات والدمار، كما تتبع فريقا من الفتيات الكرديات المسلحات اللواتي يحمين الحدود من تقدم داعش وسيطرتها، إضافة إلى قصص ثانوية أخرى آزر بها منطلقات فيلمه الأساسية، وكانت بمثابة الفاصل الذي يخفف من حمل المشاهد القاتمة والقاسية والمؤلمة التي جاءت في الفيلم.

واحدة من النساء العراقيات المتقدمات في السن، والتي ذهبت لزيارة المكان الذي أعدم فيه فلذة كبدها على يد داعش

 

إعادة رسم الواقع.. قسوة تُحدث صدمة لدى الآخر

تشابكت هذه القصص جميعا مع بعضها، وقد تعمّد المخرج “جيانفرانكو روزي” على عدم تقديم الشروحات أو تفسير ما فيها عن طريق الحوارات، بل جعل الصورة تتكلم عن نفسها وتنقل تلك الآلام، مثل رسومات الأطفال الضاجة بالعنف التي تعكس مشاهد القتل والذبح والبتر، وكأنهم يعيدون رسم الوقائع التي كانوا شهودا عليها رغم صغر سنهم، إضافة إلى النسوة المتقدمات في السن اللواتي ذهبن لزيارة الأماكن التي أعدم فلذات أكبادهن فيها.

نقل المخرج هذه القسوة حتى تُحدث صدمة التلقي لدى “الآخر” الذي لا يعرف شيئا عن ما يحدث على الأرض، هذا “الآخر” الذي يساهم بشكل كبير في تأجيج هذه الصراعات وتغذيتها بالفتن والتسليح، وتقوية طرف على حساب طرف، لتسيل الكثير من الدماء، وتشتغل آلة القسوة والفقد والدمار واليتم والمرض والقهر، وهي مجموعة من الأحاسيس اشتغل عليها “جيانفرانكو روزي”، ونقلها تقريبا في كل مشهد من مشاهد الفيلم الكثيرة.

رسومات الأطفال الضاجة بالعنف، والتي تعكس مشاهد القتل والذبح والبتر، وكأنهم يعيدون رسم الوقائع التي كانوا شهودا عليها رغم صغر سنهم

 

مقابلة الثنائيات المتضادة.. عبثية السخرية السوداء

شكّلت الثنائيات الضدية مرتكزا أساسيا في صناعة هذا الفيلم، فقد مزجها المخرج “جيانفرانكو” بعبث فلسفي وسخرية سوداء لاذعة، حيث نجد مثلا الصيّاد العراقي وهو في المستنقع ليلا يحاول أن يصطاد شيئا، لكن تظهر في نهاية الصورة شعلة حمراء، ثم شعلة أخرى، وكلتاهما أفسدتا تركيز هذا الصيّاد، وقضتا على اللحظة التي انتظرها طول الليل، بعد أن أفزعت الطريدة المحتملة، هذه الشعلة ظهرت وكأنها شروق الشمس، لكنها في الأصل قذيفة حمراء صادرة من اشتباك ما.

ومن العبث أيضا أن ينقل المخرج مشهد زوجة شابة تدخن “النرجيلة” مع زوجها على سطح منزلهما، يتحدثان عن جمال المنظر، وفي الوقت نفسه تسمع صوت الرصاص ودويه، وهو إسقاط على تشابه أصواتها مع صوت “النرجيلة”، هذا البعث يوحي بأن هؤلاء تعّودوا على حياة القتل والدمار، وأصبح هذا الأمر جزءا من يومياتهم السوداء، لهذا تأقلموا معها حتى لا تقتلهم الحسرة إن ركزوا بعمق في الأوضاع.

وقد لعب المخرج ببراعة على الثنائية الضدية، فنجد مثلا الصيّاد والطريدة، والضوء والنور، والصمت والضجيج، والليل والنهار، إلى غير ذلك من الثنائيات الأخرى المادية والمعنوية، وقد ولّد بها جماليات، وخلق من خلالها التأثير البصري والحسّي، وهي المعطيات العامة التي تُشكّل في مجملها الجمال الكلي الذي تمت صناعته من التفاصيل الصغيرة.

كما يجد الجمهور نفسه محاصرا بصورة الحرب في كل مشهد تقريبا، حيث أصوات الرصاص والقذائف، وصور البزّات العسكرية والعربات المدرعة، وكلها مظاهر توحي بمناخ عام جرت فيه أحداث هذا الفيلم التي ذهبت باتجاه آلام النفس البشرية، وما تعانيه جراء هذه الإفرازات التي صنع العنف والعنف المضاد في بيئة لا تعترف إلا بالقتل والدمار لترسيخ فكرة وتوجه، وفي أحيان أخرى للقضاء على الجهة الأخرى، أو التوجه المختلف.

نظرات طفل أنهكت عائلته ظروف الحرب فأصبح معيلها الوحيدة

 

سحر الظل والنور.. خدع الصيد الجمالي في السينما

شكّل التصوير المحترف ميزة أساسية في فيلم “نوتورنو”، خاصة أن “جيانفرانكو روزي” هو من قام بالتصوير، إضافة إلى كونه مخرج الفيلم، لهذا استطاع أن يصل لموضوعه عن طريق التصوير، دون حاجة إلى وسيط تقني آخر، كان يعرف جيدا عن ماذا يبحث بالضبط، وأي مشهد ينوي استخدامه، لهذا شكّلت صور الفيلم منعرجا أساسيا وجماليا في الفيلم، اعتمد فيه على خاصية الظل والنور، تلاعب بهما إلى حد بعيد، إلى درجة أن يصور في الليل ولا يجعلك تشعر بعدم وضوح موضوع الصورة، بل تفهمها وتطرب لجمالها.

كان “جيانفرانكو روزي” يتحيّن الأوقات المناسبة للتصوير، مثل أوقات الغروب والشروق والليل، مع توظيف بعض التقنيات وألاعيب التصوير وفنياته المختلفة، مثل أن يمسك رجل بمصباح يدوي في الليل، فهو أمر يشكّل إضاءة طبيعة للمخرج، إضافة إلى ضبط الإطارات في بؤر بصرية معينة، مثل أن يكون داخل بيت مهجور ويصوّر الخارج عن طريق النوافذ المكسرة، أو يصور هدوء وصمت المُجنّدات الكرديات وهن ينزعن بزّاتهن العسكرية، بينما تتوسطهن كتلة النار التي تعكسها المدفئة، إضافة إلى تصوير الشوارع ليلا وخراب المدن، والطرق الفارغة وإسفلتها المبلل بالأمطار، وعصف الرياح على الشجرة، بينما يجلس تحتها الطفل الصياد، وكأنه يقول إن هذا الطفل مثل تلك الشجرة التي لا تهزها الرياح.

لقد استثمر المخرج كل جزئية في الفيلم لتوليد لغة سينمائية قوية، ولم يترك جزءا للصدفة أو دون تفسير، فهو يعرف جيدا كيف يستخرج المعاني الدالة من عدسة كاميراته، وقد وصلت هذه الجماليات البصرية لدرجة أنه يمكن قطع العشرات من الصور الفوتوغرافية من تلك المشاهد، وتشكيل لوحات فنية من خلالها، وهذا ما يعكس قوة ملاحظة المخرج ومرجعيته السينمائية القوية في التقاط تلك اللحظات الفارقة التي صنعت منعرجات الفيلم وتفاصيله الجمالية.

 

“جيانفرانكو روزي”.. جائزة “الدب الذهبي” للمخرج الإنسان

شارك فيلم “نوتورنو” في عدد من المهرجانات السينمائية المهمة، وأبرزها مهرجان البندقية السينمائي في دورته الـ77، كما مثّل إيطاليا في مسابقة الأوسكار، ووصل إلى القائمة القصيرة.

ويُعد “جيانفرانكو روزي” من المخرجين القلائل الملتزمين بالمواضيع الإنسانية، يدافع عنها بشراسة في أفلامه، مثل فيلم “إطلاق نار في البحر” (Fuocoammare) عام 2016، ويتناول فيه حياة المهاجرين غير الشرعيين في جزيرة لمبيدوزا الإيطالية.

وقد حصد الفيلم جائزة “الدُب الذهبي” في مهرجان برلين، وقالت عنه الممثلة الأمريكية وقتها “ميريل ستريب” التي كانت رئيسة لجنة تحكيم مهرجان برلين إنه “يفرض علينا مشاهدته، ويرغمنا على الالتزام والعمل”، ومن المنصف ذكر أن الفيلم دُعم من مؤسسة الدوحة للأفلام مثله مثل فيلم “نوتورنو”، كما يعد المخرج “جيانفرانكو روزي” من خبراء برنامج “قمرة” القطري.