“هلا مدريد فيسكا برسا”.. ظاهره كرة القدم وباطنه ألاعيب السياسة

أحمد القاسمي

سأل رئيس عربي رئيسا أوروبيا: كم دخل المواطن عندكم، فأجاب: 3000 يورو. فسأله: وما معدل نفقاته؟ فأجاب: 2500 يورو. فسأله: حسنا، وماذا يفعل بالمبلغ الباقي؟

أجاب الرئيس الأوروبي: تلك حريته الشخصية، نحن دولة تحترم الحقوق ولا تتدخل في حريات مواطنيها الشخصية. ثم أضاف: وكم دخل المواطن عندكم؟

رد الرئيس العربي: ليس أكثر من 500 يورو. فسأله: وما معدل نفقاته؟ فأجاب: 1000 يورو. فسأله: حسنا، وكيف يحقق توازنه المالي؟

فأجاب الرئيس العربي: شوف سيادتك هذه حريته الشخصية، فنحن لا نقل عنكم ديمقراطية ولا احتراما لحرية مواطنينا.

ربما نسمع مثل هذه النكتة فنضحك، ولكن هل هي نكتة لا أكثر حقا، هل هي مجرد حكاية عابرة؟

صحيح أننا سنضحك للموقف والمفارقة التي يحملها بما فيها من إجابة غير متوقعة تخرق أفق انتظار السامع، ولكن مثيلات هذه النكتة لا تخلو من موقف يدين عدم مبالاة الدولة إزاء مواطنيها، وتخليها عن واجبها وإفراغها للقيم من دلالاتها الأصيلة.

قد لا تخلو أيضا من عدوانية سببها المناكفة السياسية بين الأطراف المتنازعة على الحكم، فكثيرا ما اعتمد الفرقاء النكتة السياسية لتوجيه الرأي العام نحو الوجهات التي يريدون، وتقديم صورة سلبية عن خصومهم.

ليس الإضحاك في هذه النكتة البسيطة فنا سهلا ولا مجانيا، فما بالنا بالكوميديا المسرحية أو السينمائية؟ ولذلك كثيرا ما كانت ضالتنا التي نكدُّ في البحث عنها ولا نجدها دائما، أما عند نقادنا فغالبا ما تُصنّف باعتبارها ضلالا فنيا وخطابا يفتقر للرصانة التي تميّز الخطابات الراقية، فقد ظلوا يرددون موقف أرسطو الذي يجدها نوعا من النزول بالطبيعة البشرية إلى مستوى الدناءة، ويخص بها العامة دون النبلاء منذ أكثر من اثنين وعشرين قرنا. ذلك شأنها في المشهد الفني المغاربي، فرغم إقبال جمهور المتفرّجين عليها فإن النقد ظل يتعامل معها بكثير من التعالي واللامبالاة.

 

مُعلقة بين السماء والأرض.. مأزق السينما المغاربية

لا نبالغ حين نعلن أنّ السينما المغاربية ممارسة فنية جادة، فهي ممارسة إبداعية تعتمد التجريب السينمائي وتركب موجة سينما المؤلف، وتحقق التميّز في المهرجانات السينمائية الدولية، فتلفت إليها النظر وتحصد الجوائز.

والأمثلة كثيرة تعفينا من ذكرها، ولكنْ كثيرا ما وُصفت بكونها سينما أنانية متعالية في مقارباتها الجمالية والفكرية، يكاد مخرجوها يختزلونها في هواجسهم الذاتية وأحلامهم وانكساراتهم، وهذا ما وسّع الهُوة بينها وبين الجمهور.

فرغم ما تحققه من إشادة ظلت مُعلقة، فلا هي طالت السماء واكتسحت بتجربتها هذه الأسواق العالمية، ولا هي مشت على الأرض بين أهلها وناسها، فكانوا لها نعم النصير الذي يحميها، ورغم أنها تستقطب الجمهور المغاربي عند عرضها في القاعات المحلية أكثر من السينما الوافدة، تظل إيراداتها دون أرقام تكلفتها، فالصناعة السينمائية مكلفة جدا، والسوق المحلية داخل كل قطر محدودة -مقارنة بالسوق الهندية والمصرية والبرازيلية والأرجنتينية والإيرانية قبل الثورة- غير قادرة على استيعاب مثل هذه الصناعة.

يتجاوز تعداد سكان المغرب العربي مائة مليون نسمة، وعدد المدن التي يقطنها مليون ساكن أو أكثر يبلغ تسعة على الأقل، منها الدار البيضاء والرباط وفاس ومراكش والجزائر ووهران وتونس وطرابلس وبنغازي؛ ورغم كل ذلك فقد فشلت جميع محاولات تشكيل سوق مغاربية كفيلة بإرساء صناعة سينمائية متينة لغياب سياسة ثقافية مشتركة بين بلدان الضفة الجنوبية للمتوسط.

مخرج الفيلم عبد الإله الجوهري يقول بأن الفيلم يسلط الضوء على الظواهر المرتبطة بالمجتمع المغربي

 

دعم السينما.. سيف مسلط على رقبة الإبداع

ظلت السوق الخارجية مقفلة في وجه السينما المغاربية رغم بعض العروض لهذا الفيلم أو ذاك في العواصم الأوروبية، والنتيجة في مختلف الأحوال أنها ظلت سينما غير قادرة على العيش دون دعم الدولة أو الصناديق الخارجية، ولا مؤازرة بلا سبب، فكثيرا ما أصبح الدعم الرسمي سيفا مسلطا على الأقلام، يحدّ من حرية المبدع، والأطراف الخارجية الممولة تتدخل بشكل أو بآخر لتضمن خطابا يرضيها، ويخدم سياساتها الثقافية أولا، ثم ظهرت سينما مستقلة تحاول أن تشتري حريتها معتمدة العمل التطوعي كما في تجربة “الجامعة التونسية للسينمائيين الهواة”، ولكن طبيعي أن يظل أفقها ضيقا.

ظهرت تجارب أخرى هنا أو هناك، تحاول التعويل على السوق المحلية، وتغير مقارباتها الجمالية تغيرا جوهريا، فتبتعد عن الجدية المُفرطة وتتجه نحو الكوميديا، ظهرت في المغرب خاصة مع موجة التسعينات التي كانت تنادي بالتصالح مع الجمهور، فتقطع مع التجارب النُخبوية المتعالية عليه، وتزهد في البحث  عن الجوائز أو المشاركة في المهرجانات الدولية، ولكن لم ينظر إلى هذا التوجه بعين الرضا من قبل جميع المهتمين بالشأن السينمائي دائما، فظل النقاد يتعاملون معها ببرود، وظلت مستندة على غيرها، لأن إيراداتها لا تتجاوز أرقام نفقاتها.

تعود هذه الموجة من جديد فتُعرض في القاعات التونسية والمغربية أفلام مثل: “بورتو فارينا” لإبراهيم اللطيف و “فترية” لوليد الطايع و”جمال عفينة” لياسين ماركو ماروكو و”مسعود وسعيدة وسعدان” لإبراهيم الشكيري و”معجزة القديس المجهول” لعلاء الدين الجم، فتفرض الظاهرة نفسها وتدعونا إلى دراستها لنتبين خصائص خطابها جماليا ودلاليا.

وفي هذا السياق يتنزل “هلا مدريد فيسكا بارصا”، وهو فيلم ساخر ينقل من خلاله كاتب السيناريو “عثمان أشقرا” والمخرج “عبد الإله الجوهري” صراع كلاسيكو كرة القدم الإسباني بين “ريال مدريد” و”نادي برشلونة” إلى الشاشات الفضية، فيغرينا موضوعه بأن نجعله عيّنة نقارب من خلالها هذه النزعة الفنية الجديدة في السينما المغاربية.

رجال “بو الحواجب” الذين يقومون بعمل خيري في النهار ومخدرات وعنف وجريمة في الليل

 

بو لحواجب.. إدارة اللعبة بكل أبعادها

“هلا مدريد فيسكا برصا” هو الفيلم الروائي الثاني للمخرج عبد الإله الجوهري بعد فيلمه الأول “ولولة الروح”. عنوانه محاكاة لأهازيج الفريقين باللغة الإسبانية ومعناها “تحيا مدريد، تحيا برشلونة”، أما مداره فعلى شخصية متعددة الوجوه.

“بو الحواجب” أحد أعيان الضاحية الشعبية الفقيرة من مدينة مراكش، القائمين على الأعمال الخيرية كتوزيع المساعدات على المحتاجين وختان الأطفال وبناء المساجد والسهر على رعايتها، وهو ناشط سياسي يحظى بعلاقات واسعة مع شخصيات مرموقة يدين لها بالولاء وتحركه من وراء حجاب، تخطط للدفع به في مجلس النواب لتحصنه من كلّ متابعة قضائية.

وفي الآن نفسه هو كبير مافيات الجريمة المنظمة، يقسم الحي إلى قطاعات ليتسنى له السيطرة عليه، فيروّج المخدرات، ويُسفّر الشباب خلسة إلى أوروبا مقابل مبالغ مالية ضخمة، وليدير اللعبة جيّدا يستغل الصراع بين أنصار فريق ريال مدريد وغريمه برشلونة، فيفرض الولاء للفريق الأول ويجعله عنوانا للولاء له، مستعينا برجال شِداد غِلاظ يروضون الخارجين عن قانونه، أو يروّعونهم إن عَزّ الترويض.

يحدث أن يكون الترويع مفرطا، فيهلك المعتوه “مختار السكايري” الذي يرتدي قميص الفريقين معا ويجوب الأزقة رافعا شعار “تحيا مدريد، تحيا برشلونة يسقط بو الحواجب”، ويخطئ المشعوذ بولحية فيسقي زاهية التي ترفض الزواج منه شراب الموت، بدل أن يسقيها شراب الحب لتقبل به زوجا، ولأنه مدعوم من جهات عليا، تتواطأ معه أجهزة الأمن، فتتستر على جرائمه وتحفظ ملفاتها، ثم تهب ريح مفاجئة فتُرفع عنه تلك الحماية ويُلقى عليه القبض.

 

أقلام النقاد.. ضريبة التلميحات السياسية

لا مراء في أنّ الفيلم مختلف عن معهود السينما المغربية، مغامر بطريقة معالجته وبموضوعه، وهذا سبب كافٍ لتوجّه إليه أقلام النقاد تحليلا وتشريحا، سواء كان التقييم سلبا أو إيجابا، وخلافا للتوقّع كانت المواكبة فاترة تكتفي ببعض الإشارات السريعة المغالطة أحيانا.

يُقدّم الفيلم على أنه رياضي صرف، ويَذكر بعضهم أنّ “الشيء غير المألوف هو أنه لم يسبق لمغربي أن حاول نقل العداء التاريخي بين الريال والبرصا للشاشة الكبيرة، رغم الشغف الذي يحيط بهذا الصراع”.

بينما وجد آخر أنّ الفيلم حجة على أنّ الصراع التاريخي الرياضي بين فريقي ريال مدريد وبرشلونة في إسبانيا لم يعد حكرا على ملاعب كرة القدم، لأنه انتقل إلى السينما، وأنه يوظف هذا الصراع الكروي في تسليط الضوء على العديد من القضايا الاجتماعية المرتبطة بكرة القدم والدين والسلطة والمال والمخدرات.

كما قدمته قراءات أخرى باعتباره فيلما هزليا صرفا، فأهملت البحث في خطابه الجمالي واكتفت بالإشارة إلى أبعاده الدلالية ورموزه السياسية بكثير من التراخي، ولا نعتقد أن الفيلم عانى من سوء فهم، بقدر ما نعتقد أن هذه المغالطة حيلة من الإعلام الثقافي ليرفع الحرج عن نفسه بالنظر إلى تلميحاته السياسية التي تذهب بعيدا.

لعل ذلك ما جعل مخرجه عبد الإله الجوهري يقدمه بكونه فيلما “يسلط الضوء على العديد من الظواهر المرتبطة بالمجتمع المغربي، ويتناول الصراع الذي يحدث عادة بين جماهير فريقي ريال مدريد وبرشلونة، وكيف يتم استغلال هذا الصراع بين جماهير الفريقين الإسبانيين من أجل أهداف أخرى غير رياضية” فيحاول أن يصوّب قراءته، ويشير بسبابة وهمية إلى مضامينه الأساسية.

أحد رجال الأعمال المحيطين بالملك يلتقي بو الحواجب قائلا “اللحى رأس مال مهم في عالم السياسة اليوم”

 

رجال المخزن.. فيلم يطل على الخطوط الحمراء

يطرح الفيلم قضايا السياسة المغربية أساسا، ولا يستدعي كرة القدم إلا ليصنع منها رموزها، فيجد في منح الملك الإسباني لقب “الملكي” (Real) لنادي مدريد سنة 1920 سببا ليرمز إلى جماعة “المخزن” بأنصاره، وليرمز إلى مؤسسة الحكم الملكي في المغرب بالريال، ويجعل من أنصار فريق برشلونة رمزا لبقية الطيف السياسي، وببرشلونة للشعب تبعا لذلك.

يشير مصطلح “المخزن” في الاستعمال السياسي المغربي إلى الأعيان ورجال الأعمال وكبار الأمنيين المحيطين بالملك، وكثيرا ما ارتبط استعماله بالإشارة إلى فساد هذه الطبقة، ولأنه يدرك أنه ذهب بعيدا في النقد السياسي ظل الفيلم يكرر على لسان مختار الساكري، رمز الشعب المضطهد أو على لسان الإمام، رمز السلطة الدينية الرسمية “تحيا الريال، تحيا برشلونة يسقط بو الحواجب”.

لا تخلو شخصية بو الحواجب من ترميز يستدعي التيارات الدينية التي اخترقت البرلمان انطلاقا من العمل الاجتماعي والخيري، وجعلته مطيتها للوصول إلى سُدة الحكم، ومختار المعتوه ليس معتوها تماما، فعديدة هي الأفلام التي تجعله رمز الحكمة والرؤية المُتبصرة كما في رائعة الناصر خمير “طوق الحمامة المفقود”، أو في رائعة محمد الأخضر حامينة “وقائع سنوات الجمر”. فيستهدف الفيلم بجلاء بعض الدوائر الوسطى من الحكم ويتهمها بالتواطؤ مع الإسلام السياسي خدمة لمصالحها الضيقة، فينحو هذا الطرح منحى ساخرا من وسائله المبالغة في التصوير والانتقاد الفظ المباشر.

لابسة السواد ومساعدة المشعوذ المعروفة بـ”بالنينجا”، والمعتوه “مختار السكايري” الذي يكون دائما في حالة سكر

 

مختار السكايري.. مبالغة في التصوير

كان الفيلم يضخّم السمات الخَلقية للشخصيات أو الخُلقية، فيشير عبر التسمية إلى الرجل الذي يبسط سلطانه على الحي ويعقد الحاجبين لتفكيره المستمر في المكائد ببو الحواجب، ويشير إلى المشعوذ الذي يستخدمه بو الحواجب والمستغل للدين بمظهره “ببولحية”.

يشير إلى لابسة السواد ومساعدة المشعوذ “بالنينجا”، ويسمي المعتوه الذي يكون دائما في حالة سكر “مختار السكايري”.

كان يعتمد المبالغة في تصور الوضعيات، فيبسط بو الحواجب سيطرته على المقاهي ويفرض تشجيع الريال بالقوة أو الإغراء، ويُسلم الأهالي بهذه السيطرة فتُعد ثواب الفرجة الجماعية في “الكلاسيكو” من ثواب الفرجة الفردية، ويدعو الإمام -الذي يُدين لبو الحواجب بالولاء- في خطبة الجمعة بالنصرة للريال.

وهذه مبالغات لا يمكن أن يتقبلها الجمهور باعتبارها حقيقة، فلا بد له من أن يتعاون مع المخرج، وأن يعتبرها محفزات لتقديم الواقع بصورة مغايرة، ولجلب انتباهه إلى ظواهر قد لا ننتبه إليها عند النظر بالعين المجرّدة.

شفافية الترميز.. ما وراء الأكمة

يرد الترميز شفافا جدا ويكشف عن مضمون رموزه بكل يسر، فلا يتلطف بالحيلة أو المواربة أو الإيحاء، وهو ينقد الدوائر الدنيا والوسطى من السلطة، فبوضوح تام يقول المفوض الأمني لبو الحواجب إن اللحية رأس مال ذو بال في السياسة لابدّ أن يستثمر أو يعاتبه لإسرافه، فقتيلان في فترة وجيزة حصيلة ثقيلة.

يعترف بو الحواجب بتوظيف الرياضة لإلهاء الأهالي عن جرائمه، فيلتقط الفيلم عيوبا في المشهد السياسي المغربي وعيوب فاعليه ويضخمها تضخيما يشد الانتباه، ويسرب عبر الدعابة الفظة المؤذية أكثر القضايا جدية وسوداوية.

رسم كاريكاتيري للرسام الفلسطيني ناجي العلي، الذي يعتبر الكاريكاتير “تعرية الحياة بكل معنى الكلمة”

 

فن الكاريكاتير.. تعرية الحياة

لقد كشف هذا الفيلم عن سرعة بديهة صنّاعه، وانتبه إلى تشابهات بين الحياة الرياضية في إسبانيا والحياة السياسية في المغرب قد لا يراها المتفرّج عادة، واعتمد المبالغة في تقطيع الجسد وتعبيرات الوجه وتحريفات ملامحه، وأظهر العيوب وضخامتها حتى تكون أكثر بروزا للمتلقي، ووظفها لنقد الظواهر السياسية والاجتماعية بأسلوب مباشر يعبر عن تفاعل مبدعيه بما يدور حولهم، واعتمد رموزا شفافة تستند إلى الدعابة الفظة المؤذية والبساطة والوضوح في الطرح، كما اقترض الخصائص المميزة لفن الكاريكاتير من الخطاب الصحفي واستدعاها إلى الخطاب السينمائي، بوعي أو بدونه.

يُحيل معنى “كاريكاتير” في اللغة الإيطالية إلى المبالغة أو تحميل الأمر ما لا يطاق، ومن أهم وظائفه التنبيه إلى إشارات سلبية قبل أن تتفاقم بأسلوب مباشر لا إيحاء فيه ولا تلميح، والسعي إلى الاستفزاز والمشاغبة والمشاكسة عند النقد، مهمته حسب ناجي العلي “تعرية الحياة بكل معنى الكلمة”.

ينشر الحياة دائما على الحبال وفي الهواء الطلق وفي الشوارع العامة، إنه يقبض على الحياة أينما وجدها لينقلها إلى أسطح الدنيا، حيث لا مجال لترميم فَجواتها ولا مجال للتستر على عوراتها، فهذا الفن يجب أن يكون عدوانيا على موضوعاته على وجه الخصوص، قد يكون صديقا حميما لمن يتعاملون معه لكنه صديق مشاكس لا يؤمَن جانبه.

 

سخرية سوداء.. نخبوية الطرح

بعيدا عن الأحكام المعيارية التي تمدح الفيلم أو تنتقده لابد من ملاحظة ما ميّزه من مغامرة ومن بحث يستدعيان تأملا أعمق، ولكن هل كان الفيلم قادرا على استهداف الجمهور الواسع و”مصالحته مع السينما”؟

لقد تقاطع الفيلم مع المعالجات الجمالية النخبوية، وطَرق موضوعا طريفا وجعله طُعما ليستدرج الجمهور المغربي الواسع، وتسلح بجرأة في نقد الحياة السياسية، ولكن أسلوبه في السخرية كان نخبويا قد لا ينسجم كثيرا مع الموضوع المطروق أو الجمهور المستهدف.

الكوميديا عامة ونموذجها الأقصى أفلام عادل إمام في مصر أو دريد لحام في سوريا من العالم العربي أو فلميْ “الديكتاتور” لـ”شارلي شابلن” و”الحياة جميلة” لـ”روبرتو بانيني”، وهي تجعل النص طبقات من المعنى يحجب بعضها بعضا كالصخور الرُسوبية تماما.

والنكتة الساخرة التي افتتحنا بها مقالتنا على بساطتها تضحكنا في طبقتها الأولى، وتعبّر عن انتقاد الساسة بطريقة مبتكرة بعيدة عن الأسلوب المباشر الفج، أو تُنفس عن رغباتنا المقموعة التي لا يسمح السياق بالتعبير عنها بجلاء في طبقتها الثانية، وقد تكشف عن مُناكفة بين الخصوم السياسيين في طبقتها الثالثة، أما اقتراض “هلا مدريد.. فيسكا برصا” لخصائص فن الكاريكاتير فيأخذه نحو قيم جمالية مغايرة، فلا يجعله مضحكا بقدر ما يُسرب فيه سخرية سوداء تدين عبثية الحياة بألم فنان مهموم بقضايا شعبه، بطريقة يُراد لها أن تكون فظة ومكشوفة، فيقع على المواضيع الجادة مباشرة، ويشيع في النفس مرارة لما في مفارقات السياسة من خروج عن المنطق والأعراف.

تمثل أفلام “إيليا سليمان” النموذج الأقصى لهذه السخرية السوداء في السينما العربية، وكما نعلم فمقارباته نُخبوية لها جمهورها الخاص، هو في الأعم الجمهور المثقف، المتفاعل مع هموم الفنان، وهو في جميع الأحوال غير الجمهور الواسع الباحث عن التسلية السريعة.

شباب مغاربة يتفرجون على الفيلم في إحدى الساحات، فالجمهور سيّد نفسه ولا أحد يمارس عليه دكتاتوريته النقدية

 

أفلام الكوميديا.. شمس النقد

لقد غدت الأفلام الكوميدية نمطا سينمائيا قائم الذات، وليس للنقد أن يرفض الاعتراف بها، ثم من يمتلك الحق في حصر السينما في الدور النضالي والمثقف العضوي والقاطرة التي تقود المجتمع؟

الجمهور سيد نفسه وليس من حق أحد أن يمارس عليه دكتاتوريته النقدية، ففي هذه الحالة سيجد في القنوات وفي مواقع الإنترنت ضالته، وقد تستقطبه إلى رُؤى فكرية وحضارية أخرى غير التي يريدها هؤلاء النقاد، ولكن بالمقابل ليس من حق هذه السينما أن تحظى بمجاملة استثنائية، فلا بدّ لها لتضمن مكانها تحت شمس النقد أن تتجنب المعالجات السريعة، وأن تجعل خطابها أكثر تماسكا حتى تنوّع المشهد السينمائي، وتجعله يستجيب لمختلف الأذواق، ويطرح القضايا الاجتماعية التي تتعالى عليها سينما النخبوية.

لربما تستطيع السينما المغاربية يوما ما أن تؤسس لبروز صناعة سينمائية قادرة على الحياة والاستمرار دون الحاجة إلى الدعم، وتكون قادرة على استيعاب العدد الكبير من المختصين في مهن السينما، الذين تدفع بهم معاهد السينما في كل نهاية موسم دراسي. من يدري؟