“يوميات شارع جبرائيل”.. غربة الفلسطيني بين احتلال الوطن وجائحة باريس

خالد عبد العزيز

أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى في نهاية الثمانينيات تلقى المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي دعوة لعرض فيلمه “الملجأ” خارج فلسطين للمرة الأولى، حينها تعرّض لمضايقات من قوات الاحتلال الإسرائيلي، فكادت تمنع وصوله معبر غزة، مما دفعه لإخفاء شريط الفيلم داخل إحدى عربات الكارو المحملة بالسمك.

في العام 2020 أثناء فترة انتشار فيروس كورونا أصبح رشيد رهن الإقامة الجبرية في باريس، وذلك لانقطاع خطوط الطيران الدولية وسريان قوانين الحظر الصحي، مما أفقده القدرة على العودة إلى وطنه فلسطين، لكن ما الذي يفعله مخرج سينمائي خلال هذه المدة؟

هذا ما يُجيب عليه الفيلم التسجيلي الفلسطيني “يوميات شارع جبرائيل” (2021)، وهو من سيناريو وإخراج رشيد مشهراوي، وقد عرض في مسابقة آفاق السينما العربية في إطار الدورة الثالثة والأربعين من مهرجان القاهرة السينمائي.

 

لا شك أن فترة الحجر الصحي لها تأثيرها بطريقة أو بأخرى على ما يدور داخل الإنسان، مما ينعكس على الرؤية الخاصة للعالم، وهذا ما يشق غماره رشيد بحساسية شديدة وبتناول عذب أنيق، ليس فقط للحياة تحت مظلة وباء كورونا، بل إنه يلقي نظرة خاصة لمفردات الحياة، وكأنه يرى العالم للمرة الأولى، ويُعيد اكتشافه من جديد، من أجل تشكيل معالمه والتعرف عليها، فالفيلم يبدو وكأنه نظرة تأملية هادئة للحياة بكل ما بها من خطوط وظلال، مبتعدا عن كل ما يُعكر صفو اللحظة الراهنة، وفي الوقت نفسه لا تُنسيه أهم شيء، وهي هويته الفلسطينية التي يحمل إرثها بداخله.

“هذا الصباح غريب أشبه بمنع التجول”.. يوميات فلسطيني محجور

يبدأ الفيلم بمشهد لصباح باريسي رائق، ويأتي من الخلفية صوت رشيد الذي يصاحبنا طوال الفيلم قائلا: في باريس هذا الصباح غريب أشبه بمنع التجول.

ثم تلتقط الكاميرا الشوارع الخاوية من البشر، وقوات الشرطة تحيط بالشوارع تنفيذا لقرارات حظر التجول، ليُدخلنا الفيلم مباشرة في حكايته، وحكاية بطله المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي العالق مؤقتا في فرنسا، فحياته بين رام الله وباريس، وعندما حلّ الزائر الثقيل كورونا، لم يبق له سوى المكوث حتى انقضاء فترة الحجر الصحي وفتح أجواء السفر مُجددا.

حياة رشيد بين رام الله وباريس جعلت رؤيته نحو وطنه أكثر اتساعا وقربا في الوقت نفسه، إذ يقول في أحد المشاهد بنبرة حزينة واضحة عن الوضع العالمي بعد وباء كورونا: الناس متساوون في كل العالم، كل البشر في القارب نفسه، أما الفلسطينيون فهم في قارب وحدهم منذ 70 عاما، لكن الفيروس هنا مختلف.

قوات الشرطة الفرنسية تنفذ قرارات حظر التجول بعد انتشار فيروس كورونا في العالم

 

فحالة المقارنة بين الوضع في باريس وغزة حاضرة وبجلاء واضح، سواء على المستوى السياسي أو الإنساني الذي يطغى بصورة واضحة.

يقول الكاتب والشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي في كتابه “رأيتُ رام الله”: الذاكرة ليست رقعة هندسية نرسمها بالمنقلة والفرجار والقرارات الرياضية والآلة الحاسبة، بقعة من مجد السعادة تجاورها بقعة الألم المحمول على الأكتاف.

فالنغمة الشجية الحزينة عن الوضع العام في الأراضي الفلسطينية تطغى بصورة محسوسة، وتحمل هما واضحا بما يكشف في الوقت ذاته عن ذاكرة مشتعلة بالحنين للوطن، فكلما نظرت للحاضر تنقلب فجأة للماضي، في مقارنة دائمة بين هنا وهناك، وكأن الروح موزعة بالتساوي بين أزقة باريس وشوارع غزة.

حي مونمارت الباريسي.. تغيّر في مسار شارع ينبض بالسيّاح

انقسم السرد إلى ثلاثة فصول متصلة، كل منها يحوي بداخله تفاصيله وسماته الخاصة التي تتكامل في متوالية أفقية مع بعضها البعض، مُشكلة نسيج الفيلم المتماسك والمشدود الإيقاع بصورة ملحوظة، رغم اختلاف الأزمنة، فقد استغرق تصوير الفيلم ما يقرب من 18 شهرا، وبالتالي بدا لكل فصل سردي زمنه الخاص به الذي يندمج مع باقي الأزمنة، ويُكمل كل منهم الآخر في مصفوفة واحدة متصلة.

يبدأ الفصل الأول من نقطة انطلاق وباء كورونا وبدء انتشاره، إذ تلتقط الكاميرا الشوارع الخاوية من البشر، ونتعرف خلال هذه الجزء على حياة رشيد في باريس، حيث يعيش في حي مونمارت الباريسي الشهير، وهي منطقة هادئة يزورها السائحون المُحبون للفن، في تواطؤ تلقائي مع تكوين رشيد الثقافي والفني.

في حي مونمارت الباريسي الشهير يقف رشيد المشهراوي في طابور طويل ليحاول شراء احتياجاته الأساسية

 

تكشف لنا الكاميرا عن التغيرات الجوهرية الطارئة في مسار الحياة العامة، ففي أحد المشاهد نرى صفا طويلا يصل إلى المتجر، والأفراد في حالة انتظار قد تطول أو تقصر مدة وقوفهم حسب تيسيرات القدر، في مقابل خلو الشوارع الأخرى تقريبا من المارة، اللهم إلا  من أفراد قوات الشرطة المتناثرين هنا وهناك، وفي تلك الأثناء يلتقي مخرجنا مع جيران الحي القدامى منهم الذي تربطهم به علاقة وثيقة الصلة، كالسيدة “بوليت” التي ناهز عمرها 95، أو الجديد الوافد مثل محمود المغربي العالق في فرنسا.

وفاة “بوليت”.. أصالة عربية على قبر الجارة العجوز

مع بدايات الفصل الثاني نرى مُقدمات عودة الحياة إلى طبيعتها في تناسب عكسي مع انحسار الوباء تدريجيا، حيث تقتنص الكاميرا لحظات الفرح بالعودة إلى الشوارع وتوافد السائحين مُجددا، فهذا الفصل يُمثل تضادا واضحا مع الحالة العامة في الفصل السابق، وحينها نُدرك قيمة الحياة بكافة تفاصيلها التي قد لا نراها من فرط رؤيتنا لها واعتيادنا على التأقلم والتعايش معها.

السيدة بوليت تذهب للتسوق من سوبر ماركت مصطفى المغربي

 

أما الفصل الثالث من الفيلم فيُدخلنا في حالة شجية قوامها الحزن الشفيف، وذلك حينما يصل خبر وفاة السيدة “بوليت” بعد وعكة صحية ألمّت بها مؤخرا، فرشيد الذي تربطه علاقة قديمة بجارته العجوز يحزن لفراقها، ويكشف عن أصالة عربية حينما يزور قبرها ويقرأ الفاتحة على روحها، وكأن هذا الفصل ما هو إلا تكليل لحالة الشجن التي غلفت الفيلم منذ بدايته، لكن تلك الحالة لا تصل بالفيلم لدرجة الميلودراما الرتيبة، بل تُغلفه بمسحة هادئة من التأمل الباعث على الابتسام والنظر للحياة بطرفة عين العابر لا المقيم.

ملامح العلاقات الإنسانية في الحي.. عفوية الفيلم

يُمسك رشيد بالكاميرا، وتلتقط عدسته نماذج عدة من البشر، فمنهم المقيم والوافد المؤقت، وعلى الرغم من تباين خلفياتهم الثقافية والعرقية فإن هناك خيطا ما يربط بينهم وبين رشيد، فهو حلقة الوصل المحور والمركز، ينتقل بتلقائية بين هذا وذاك، ثمة هوية مشتركة تربط بين الجميع سببها هجوم الفيروس الذي وحّد الجمع في سبيل مواجهة محتدمة معه.

ما الذي يجمع محمود المغربي باليوناني “ثيو” وصديقته “فيوليتا” الإسبانية و”نيك” الجورجي ببعضهم؟

إن وحدة المكان تربط بينهم بطريقة أو بأخرى، حيث يكشف لنا رشيد عن هذه الصور والنماذج، يقترب منهم ومن عالمهم بما يخلق تشابكا إنسانيا، وبالتالي يخلق تعاطفا بينهم وبين المتفرج.

في أحد المشاهد نرى “السيدة بوليت” يُحدثها رشيد بودّ، فهي الجارة والصديقة القديمة، وكأن وجودها رمز للمقاومة والتشبث بالحياة، فقد اعتمدت الكاميرا عليها بصورة أساسية في التعبير عن هذا المغزى، ونراها في مشاهد عدة وهي تسير برفق وبطئ شديد –تنفيذا لتعليمات الطبيب- نحو متجر مصطفى المغربي الذي يقع في أسفل البناية المقابلة، وفي كل عودة لمنزلها تتفقد صندوق البريد الذي يربطها بالحياة، مثل خطواتها الضئيلة في الشارع، وكأنها توقع بصمة حضورها في سجل الحياة.

المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي يحكي في فيلمه وحّد فيروس كورونا الجمع في سبيل مواجهته

 

تتماس هذه الأنماط البشرية مع بعضها في نسق متشابه، سواء بحكم النشأة أو تحت وطأة التغريبة التي يعيشون في ظلها، فـ”نيك” الجورجي تبدو علاقته بـرشيد تحمل إرثا وهما متشابها، فتاريخهما السابق مُظلل بدكتاتورية قبضت أرواحهم لفترة طويلة، فـ”نيك” عانت بلاده من الحكم الشمولي الروسي، و”رشيد” يحمل هويته الفلسطينية أينما ذهب.

من هذا الجانب تظهر بجلاء عفوية الفيلم وتلقائيته الشديدة واقترابه الحميمي من المتفرج، وقد استطاع التلاقي بين هذه الشخصيات بإنسانيتها المجردة أن يخلق إطارا عذبا وأجواء لطيفة تُغلّف الفيلم بطبقة من الشجن والشاعرية.

“بالنسبة إلينا هذا حظر خمس نجوم”.. ماضي الاحتلال وحاضر باريس

طيلة الفيلم يضعنا رشيد مشهراوي في حالة مقارنة دائمة بين الوضع في باريس حيث إقامته المؤقتة الحالية، ووطنه فلسطين الذي لا يغيب عنه، وتمتد هذه المقارنة إلى لغة التواصل والتعامل الطارئة جراء الوضع العالمي الجديد، فكل رمز من رموز المرحلة يُحال بطريقة أو بأخرى نحو الماضي من ناحية، أو نحو الوطن من ناحية أخرى، بما يكشف عن معاناة يعيشها الفلسطينيون، لكن هذه المرة بأسلوب تلقائي يبتعد عن الشعارات المباشرة، إذ نجد أنفسنا فجأة في نسيج هذا التاريخ، ويرجع هذا إلى الصدق في التناول الفني والمعالجة المبتكرة التلقائية.

الشوارع خاوية من البشر، ولا يظهر بها إلا سيارات الشرطة أو خيول البلدية للتأكد من التزام الجميع بحظر التجول، تقتنص الكاميرا هذه المشاهد على طول مسار السرد، وهنا يأتي صوت رشيد من الخلفية مُقارنا بين هذه الأجواء ومثيلتها في فلسطين، ويرجع بذاكرته نحو فيلمه الروائي الأول الذي يدور حول حظر التجول قائلا “بالنسبة إلينا هذا حظر خمس نجوم”، فهذه المرة لا يصور رشيد قوات الاحتلال الإسرائيلي أو الشرطة وهي تعيث فسادا في شوارع فلسطين، بل يصور تلك الأحياء والشوارع الفارغة.

رشيد المشهراوي رفقة صديقه محمود المغربي الذي يملأ له استمارة السفر للخروج من فرنسا والعودة إلى فلسطين

 

يجلس رشيد مع صديقه محمود المغربي الذي يملأ له استمارة السفر، وحينما يسأله محمود عن سبب السفر لكي يضعه في الاستمارة يُجيب رشيد بلهجته الفلسطينية الأثيرة “بدي أتنفس .. بدي أمشي”.

وهنا يُحيلنا بطلنا لفيلمه الوثائقي “توتر” القائم موضوعه على التصاريح والتفتيش الدائم الذي يتعرض له الفلسطينيون أثناء الحصار تحت وطأة الاحتلال، فإذا كانت أزمة التصاريح جديدة على العالم، فالفلسطيني بالنسبة إليه التصريح شيء أساسي، لذا لا يتذمر مخرجنا حينما يدون استمارة البيانات، فالثقافة والخلفية التاريخية تنتصر هنا، وتشي بمساواة واستحقاق بين الشعب الفلسطيني بنضاله المستمر وباقي العالم.

الكمامة والكوفية.. مقارنات الاحتماء من العدو الظاهر والباطن

يركب صاحب “فلسطين ستريو” المترو بعد فك قيود حظر التجول، فنراه وهو يرتدي القناع الطبي “الكمامة” ويقول: صارت هناك عوامل مشتركة كثيرة بينك وبين الناس من حولك، ليس فقط بسبب التوتر والقلق، بل بسبب الكمامة، لأن الناس يتشابهون، فنصف وجوههم مُغطاة.

هنا يعود رشيد للوضع في فلسطين، وتحديدا أثناء الاضطرابات والانتفاضات المتوالية، حيث الكوفية الفلسطينية الشهيرة تُغطي الوجه حماية من القنابل المسيلة للدموع من جانب، ومن التعرف على وجوه المناضلين من جانب آخر، أما الآن فالاختباء ليس من دخان مسموم أو من يد تقبض على حريتك، بل من عدو يتربص بنا ولا نراه بالعين المجردة.

تستمر حالة المقارنة بصفة دائمة، وذلك في توالٍ يتدافع تلقائيا كلما التقط رشيد ملحوظة عابرة عن تغير دفة الحياة، يُحيلها نحو حياته السابقة في فلسطين، فهل تتشابه معها، أم أن ما يطرأ يحدث للمرة الأولى؟

نهاية الوباء والاحتلال.. قطار رشيد العالق بين انتظارين

يقول الكاتب والمنظر السينمائي “جون جريرسون” عن الأفلام التسجيلية “إنها المعالجة الخلاقة للواقع”، وترى الدكتورة منى الحديدي أن الفيلم التسجيلي السيمفوني يشبه الموسيقى، وهذا يتطلب من صانعه ذوقا فنيا رفيعا وحسا مرهفا، وبالنظر إلى فيلمنا نجد أن مخرجه حاول تقديم رؤية جديدة عن الحياة لا تخلو من شاعرية، وهو يُعيد اكتشافها من منظور جديد يقترب منها ساعيا للفهم والإدراك، ومن قبل ومن بعد إثبات المحبة والولاء للديمومة، فمع الاستمرارية تتوالد رغبة البقاء التي تدفع عجلة الزمن للأمام.

مشهد من فيلم انتظار لرشيد مشهراوي وأحد الأبطال يؤدي دور الانتظار مثل رشيد الذي ينتظر عودته إلى بلده

 

يرثي رشيد -الذي أخرج أول فيلم سينمائي في فلسطين- دور العرض السينمائي والمسارح المغلقة قائلا كيف تكون الحياة بدون سينما؟

وفي مشهد آخر نرى كاميرات السينما تجوب أحد الشوارع أثناء تصوير فيلم ما قائلا السينما عادت، فقد عادت الحياة، فالسينما حياة، وعندها يُمكن القول إن الحياة بدأت بالفعل في العودة إلى انسيابها الطبيعي، لكنه يعاود بنبرته الحزينة قائلا “الدول المستقرة وغير المحتلة عندها طيران وطني، الوطن يلزم أحيانا”.

ثم يأتي مشهد من فيلمه “انتظار” نرى فيه أحد الأبطال أثناء تأدية تدريبات العرض المسرحي وهو يُمثل الانتظار والكاميرا تقترب من ملامحه الموشية بالأسى، مثل رشيد الذي ينتظر عودته إلى بلده، فكلاهما ينتظر، لكن انتظار رشيد من نوع آخر، فإذا كان بطل الفيلم ينتظر شيئا ما، فرشيد لا ينتظر العودة لبلده وحسب، لكن أمل التحرر والانعتاق من بوتقة منصهرة بالاحتلال والكبت هي حلمه الذي ينتظر تحققه، وحتى يظفر به، سيبقى قيد انتظار وصول قطرات الغيث.