“زرزيس”.. وثائقي على تخوم الروائي يستعرض بؤس مدينة تونسية
“زرزيس” هو التسمية المحلية لمدينة جرجيس الواقعة في الجنوب التونسي، ودقد اتخذها المخرج محمد الزرن اسما لفيلمه الوثائقي الذي فاز به في جائزة اللؤلؤة الذهبية لأفضل مخرج وثائقي في الشرق الأوسط، غير أنه حينما ترجم العنوان إلى اللغتين الفرنسية والعربية اختار له عبارة “العيش هنا” ليخرج الفيلم من دلالات المكان إلى دلالات العيش في المكان.
كان محمد الزرن حديث عهد بالوثائقي بعد إنجازه فيلمين روائيين أولهما “السيدة” (1996)، ويروي حكاية طفل يعيش في حي شعبي مليء بالفقر والجريمة. وكان قد اختار فعلا طفلا من ذلك الحي ليمثل الدور، ومن تصاريف القدر أن يموت بطل الفيلم بالطريقة المشابهة للقصة التي مات بها في الفيلم. أما فيلمه الثاني فهو “الأمير”، ويتنزل في نفس السياق الاجتماعي الواقعي.
شخصيات الفيلم.. تباعد الفكر والتكوين وتشابه الواقع
يعرض فيلم “زرزيس” ست شخصيات مختلفة تعيش في نفس المدينة بنفس الشروط الاجتماعية والمادية تقريبا، ولكن رؤاها للعالم والناس مختلفة، فهي شخصيات متباعدة في الفكر والتكوين، لكنها تشترك في صنع أسلوب حياة خاص بالمدينة كل في موقعه، وهذه الشخصيات لم تحضر في الفيلم بشكل متوازن من حيث كم الصورة والحيز الزمني المخصص لكل منها
- سيمون هو ذلك التاجر العجوز اليهودي (نعلم بعد انتهاء الفيلم أن سيمون توفي بعد التصوير بأشهر) الذي يصر على أنه ابن “زرزيس”، ويتمسك بمعتقده اليهودي في مجتمع مسلم قبله وقبل أجداده من قبل. وظائف سيمون في متعددة في الحيز الاجتماعي الذي يتحرك فيه، فهو تاجر وخاطب للنساء والرجال وكذلك طبيب يداوي البشر والحيوان بالأعشاب، مما أهّل دكانه إلى أن يكون ملتقى جميع المحيطين به، بحثا عن السلعة أو الدواء أو النصيحة أو المستمع الجيد، لا يعنيه الشأن السياسي، ولكن يعنيه الشأن التجاري والاجتماعي.
- الهادي هو رسام طرد من فرنسا وحرم من ابنته التي بقيت في باريس، ولكنه يصر على أنه رسم باريس في الذهن وعلى الورق، وأنه بمجرد انهدام تلك الصورة الذهنية في داخله فسينساها إلى الأبد. حلمه أن يعود إلى مدينة الأنوار ليمارس حرية إبداعية لا توفرها جرجيس بظروفها وأناسها المأخوذين بلقمة العيش. وقد تميز بتهويماته وتفكيره الخلاب والصادم أحيانا وأسئلته المجنونة والهازئة التي عبر عنها الفيلم بجلاء أثناء حواراته مع سيمون. وبعد انتهاء الفيلم نعلم أن الطاهر عاد إلى فرنسا، وأنه أجرى عملية على ساقه، وأنه يتماثل إلى الشفاء.
- الطاهر معلم متقاعد (هو الأخ الأكبر للمخرج) ماركسي معتق يفسر كل ما يحيط به محليا وعربيا وعالميا بالنظرية الماركسية ومفهوم الصراع. يحب العلم كثيرا، ويجتهد في تربية الجيل تربية عقلانية بعيدة عن الخرافة، وقد كان رافضا لهجرة ابنه إلى فرنسا، وقد سببت له مواقفه من الدين والمجتمع خلافات فكرية مع زوجته ربة البيت الحاملة للثقافة التقليدية.
يقاطع الطاهر السلع الأمريكية ويتساءل كيف لمسلم أن يصلي ويستهلك سلعا أمريكية يذهب ريعها لقتل المسلمين. ويشترك مع الهادي في السخرية من المجتمع والعقلية السائدة وفي المطالبة بحرية الفكر.
- الدليل السياحي شاب في مقتبل العمر، حصانه مبروك هو رفيق دربه في الدنيا، يشتغل به مع السياح فيأخذهم في نزهات على البحر. وأحيانا يتحدث معه ويستشيره، والفرس لا يجيب. يحلم بأن يقطع البحر نحو أوروبا مهما كانت التكاليف، حتى لو تزوج من عجوز ألمانية في سن أمه، وقد أظهرها الفيلم في غاية التحرر والرومانسية وأظهره هو في صورة العربي والأفريقي القوي البنية والمتمسك بأصله والمجابه لصعوبات الحياة.

وهذه هي الصورة النضالية التي يفضلها المتخيل الجمعي الأوروبي وخاصة الأنثوي لممارسة نوع من فانتازيا الحياة المخلوطة ببؤس اختياري، فيتبادل الطرفان دور الإنقاذ، هو يريدها أن تنقذه من بؤسه المادي، وهي تبحث في شبابه عن قصة حب جمدها صقيع العقل الألماني وصرامته.
- بائع التحف والأشياء التذكارية على البحر يسوق يومه أمامه ليترك بؤسه وراءه، وينتهي به الأمر ليلا في حانة المدينة يشرب ويضحك من الدنيا ملء شدقيه، ثم يستفيق صباحا مع البحر ليعيد كرّة البحث عن رزق، شبه عار مستلقيا على الرمال.
إنه يتكلم عدة لغات رغم مستواه التعليمي البسيط، ومادام السائح يشتري فستظل لغته الأجنبية تسيل رقراقة في أذن الزائر، وعندما يأبى الشراء تنطلق لهجته المحلية حادة معبرة عن موقف دفين هو خليط بين الحب والحقد على الأجنبي. (في نهاية الفيلم يكتب المخرج عنه بأنه أقلع عن الخمر وأصبح من ساكني المسجد ولا تفوته صلاة مكتوبة).
- الشخصية الأنثوية المركزية الوحيدة هي شخصية الحناءة (وظيفتها إعداد العروس وتنظيم العرس)، ويزدهر سوقها في الصيف، فهي تزوج الشباب وتفرح لهم، وتبيع بسمتها وفرحتها لتغطي حزنها وشوقها لأبنائها المهاجرين، وهي صورة أخرى من صور النضال اليومي من أجل البقاء والحصول على موقع في خريطة اجتماعية لا تحتمل كثيرا من الرهانات، وأقصى ما ينشده ساكنو المدينة أن يعودوا إلى بيوتهم ويجتمعوا بالأسرة على إبريق الشاي. إنه حلم بسيط لكنه يتطلب الكثير من العناء.
وفي الفيلم شخصيات ثانوية نسبيا كزوج أخت الطاهر، المواطن السويسري الذي ترك سويسرا ليستقر في جرجيس مع زوجته العربية بعدما أسلم واختار البقاء في “دار الإسلام” رغم بساطة الدار وسكانها.
وهذه الشخصية هي المقابل الرمزي لشخصية الدليل السياحي الذي يريد الهجرة كلاهما يبحث عن أرض يحسب أنها الملجأ. وكذلك شخصية زوجة الطاهر التي لعبت نقاشاتها مع زوجها الماركسي دورا كبيرا في إظهار المواقف السياسية والدينية الدائرة في المجتمع التونسي كالحرية والحجاب وغيرها.
محمد الزرن.. خيوط الروائي تنسج الوثائقي
من خلال هذا الفيلم أبدى محمد الزرن شغفا بالقاع الاجتماعي الذي قد لا تصل إليه الصورة ولا الإعلام الرسمي العربي، فانتقل عن العاصمة وأحيائها الشعبية الواقعة على التخوم والمتناثرة، بفعل طوارئ التاريخ واختيارات المدينة التي تخطط دائما لتلفظ أجساما وتهضم أخرى وتدهس أحلاما وبشرا. انتقل إلى الجنوب بهدوئه الصاخب ورمزياته الأصيلة، أو يحسب حاملوها في وجدانهم أنها أصيلة، فتختزل علاقات ناسه علاقات البشر أينما كانوا.

هذا الانتقال في المكان للبحث عن الحقيقة الاجتماعية صاحبه انتقال في مجال الرؤية الإخراجية، فأبحر إيابا وربما ذهابا من ضفة الروائي إلى ضفة الوثائقي عبر جسر التجريب، ولأن الطبع غلاب – كما يقال- فإن قدوم مخرج أفلام روائية إلى الوثائقي أو العودة إليه يجر خلفه خيوط الروائي، لينسج بها الوثائقي، أو يضيف إلى الروائي ملح الوثائقي، كما فعل في فيلمه “السيدة”.
لذلك فإن من يشاهد فيلم زرزيس ولا يعلم أين صنفه صاحبه، قد يخيل إليه أنه روائي، ولا بد للمشاهد أن يتأكد جيدا أن ما يشاهده وثائقي وليس روائيا، ويتجلى هذا التداخل في عدة مستويات نكتفي بثلاثة منها سنذكرها تباعا.
قصيدة تصويرية.. حين يكون المخرج مهوسا بمدينته
لا يبدو المخرج من خلال اشتغاله على الصورة مسجلا لواقع، ولا تبدو صورته توثيقية بالمعنى الإخباري والحقيقي للكلمة، وإنما تبدو الذات المبدعة في الفيلم ذاتا منفعلة كما يفعل الشعراء في قصائدهم، وهذا ما يسميه زكيا فيرتوف مُنظّرا لفن الفيلم الوثائقي بـ”شعرية الواقع”.
“زرزيس” قصيدة تصويرية لعلاقة مخرج مهوس بمدينته، يراها من حيث لا يراها الآخرون. ولكن صورة الحب تلك كانت في شكل نص مفتوح على التأويل لطرح مفهوم الهويات في العالم والعولمة ومركزية الغرب الثقافية وحرية الإبداع وأزمة المثقف، ويبدو ذلك في حوار الشخصيات وكذلك في الصورة المفتوحة على مدينة جرجيس، حيث كانت النظرة للشارع والمدينة والبحر والشخصيات في أغلبها من أعلى.

وفي نفس الوقت يحتل قرب الكاميرا من تفاصيل الشخصيات حيزا كبيرا في المساحة التصويرية في الفيلم، فهي تقترب كثيرا من تفاصيل الحياة وأدوات صنعها عند الشخصيات، كريشة الفنان وفرس الدليل وبضاعة التاجر وأدوات زوجة الطاهر المنزلية. كل ذلك يحيل على الحميمية في العلاقات بين الشخصيات وأشيائها وعالمها، وهي حميمية فائضة من الذات المبدعة على موضوعها.
ويكسر هذا الفيلم مفهوم الجدية المفرطة وجهامة الجو العام والرسمي في طرح المسائل “الرسمية” كالفقر والمجتمع، فقد طرح فيلم الزرن مواضيع رسمية بأساليب غير رسمية، وربما يعود ذلك إلى طبيعة الشخصيات التي تصنع البسمة في قاع البؤس والألم، وأما الكوميديا في الفيلم فهي مقصودة، لأداء معنى السخرية من الحياة، والسخرية من القضايا المطروحة، كقضايا الحجاب والحرية والفن.
كوميديا الواقع.. حوار بين الفنان والإنسان البسيط
نسمع حوار الهادي مع سيمون حول الفن وعلاقته بالنظريات النفسية، فيستعرض الهادي معلومات علمية دقيقة بأسلوب بسيط يبلغ حد الضحك، ويرغب من سيمون أن يفهم قصده، لكن ملامح وجهه المضحكة تدل على أن هناك تعطلا في التواصل بين المثقف والفنان الذي يمثله الهادي والشعب الكريم الممثل في سيمون. وكذلك في زوجة الطاهر التي تقابل أسئلته بإجابات سطحية وقريبة من فهمها البسيط للواقع، فتضفي روحا هزلية وتهكمية من قضاياه الكبرى التي عاش بها.

تلك هي مفارقات المجتمع التونسي والعربي والعالمي؛ مثقف وفنان ساكن في نظرياته، والبقية تهتم بالشاي واللوز كزوجة الطاهر، وبالسلعة والبحث عن حلول اجتماعية ونفسية بسيطة كدواء بعشب رخيص، أو البحث عن خطيب لفتاة ابنة بيت محافظ.
تؤسس تلك المفارقة الكوميديا التي تبنى في الأصل على التناقض أو التعارض، أو عدم الاتفاق بين المنطق العام أو النظري والمنطق الذاتي أو التجربة.
شخصيات الهامش.. أبطال مهزومون في مجتمعات مهزومة
إن محنة المثقف لا تسجلها العين المجردة اليومية التي يفترض أن تمثلها كاميرا التسجيل، وكذا مفهوم التعايش الثقافي والهوية، إنها قضايا يعبر عنها السلوك الاجتماعي اليومي دون أن ينتبه لها ويدون نظرية حولها، فحياة سيمون اليومية والهادي والطاهر والآخرين ترسم في أبعادها القضايا الكبرى للبشر من عولمة وصراعات ثقافية واجتماعية وغيرها.
وتكمن إبداعية الفيلم في تحويل ذلك الإيقاع اليومي للحياة في رقعة محلية -ما كنا لنعرفها لولا الفيلم- إلى حيز كوني، وهذا هو دور الإبداع عموما، إذ يحول المحلي إلى كوني والفردي إلى جماعي والجزئي إلى كلي. وهذا ما يختص به الفيلم الروائي بالدرجة الأولى.

أما شخصيات الفيلم وإن كان لها وجود تاريخي وواقعي في الزمان والمكان، فإن الصورة والكاميرا والمونتاج، أي أصابع المخرج وما تحوكه من مؤامرات على العدسة والشارع، حولت أولئك البشر إلى شخصيات روائية، وأبطال الرواية كما يقول “لوكاتش” هي أبطال “مهزومة في مجتمعات مهزومة” يهزمها الكاتب ليدمجها في تصوره للعالم.
بنى المخرج محمد الزرن مدينة جرجيس على أنها “زرزيس”، أي أخرجها من التسجيل الرسمي والإحصائي كما هي في سجلات الدولة إلى زرزيس كبناء في الذهن، كما هي في سجلات الذاكرة التي تعمل يوميا لإعادة بناء الهامش على أنه مركز، والاحتفال بالمحلي، واختيار العناصر التي تجعله مرآة عاكسة للعالم بأسره.
وقد تناول الفيلم بؤس مجتمعات العالم الثالث بعيدا عن الشعارات والتأثير الانفعالي على المتلقي بمشاهد الفقر والخصاصة، وعوض مفهوم تسجيل الواقع بروايته، واستعاض عن عقلية إحصاء الناس بعقلية الحوار مع الناس.