“سيرافين”.. خادمة موهوبة ترسم طريقها في عالم الفن التشكيلي
فيلم مباغت عرض في المركز الثقافي الفرنسي بدمشق سنة 2009، من إخراج “مارتن بروفوست” وبطولة “يولاند مورو”، وكان قد عرض أول مرة في أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2008 واستمر يعرض في الصالات الباريسية والمدن الفرنسية، حيث كان يلاقي نجاحا شعبيا منقطع النظير،وقد ترشح لنيل تسع جوائز في حفل السيزار.
يتحدث فيلم “سيرافين” (Séraphine) عن تلك الفترة المميزة والخاصة في تاريخ الفن التشكيلي في بدايات القرن العشرين، الفترة التي شهدت تحولات ومخاضات أفرزت اتجاهات فنية كانت لها أصوات مدوية فيما بعد، ولكن ليس عن طريق سرد قصة “بيكاسو” أو “موديغلياني” أو “سلفادور دالي”، بل من خلال إلقاء الضوء على فنانة تشكيلية من النوع الخاص جدا.
“سيرافين دي سانليس”.. خادمة تخرج عن الأطر التصنيفية
ربما يكون ظلما أن توصف “سيرافين” بأنها فنانة تشكيلية بالمعنى المتعارف عليه للكلمة، لأنها كانت خارج هذه الأطر التصنيفية قالبا ومضمونا، ووصفها بهذا إنما يحد من تصوير جموحها غير المرتبط بمنطق، وهنا تكمن قوة الفيلم ذاته بمعالجته لهذه الشخصية من هذه الزاوية بالتحديد.
في بداية الفيلم نحن أمام خادمة تبدو هادئة في مواجهة الآخرين، سيدتها متسلطة من طبقة بورجوازية تهتم كثيرا بحيثيات محيطها، مع قدوم مستأجر جديد إلى المنزل، جامع اللوحات الألماني “فيلهلم أوده”.
ومع التقدم في أحداث الفيلم أكثر ومن خلال التفاصيل، نبدأ باكتشاف ذلك العالم الخاص للخادمة “سيرافين” (المعروفة بـ”سيرافين دي سانليس” 1864-1942)، إنها ترسم في بيتها المستأجَر، تحت نير متسلطة أخرى هي صاحبته، وهي تصنع الألوان بنفسها من كل ما تقع عليه يداها من فضلات وأشياء تلتقطها.
“فيلهلم”.. مكتشف الموهبة الذي طردته الحرب
تبدأ الخادمة بالتعامل مع الناقد الذي يلاحظ مدى غرابتها وبؤسها، إلى أن تدعوه صاحبة المنزل إلى الجلوس مع أصدقائها لتقييم بعض الأعمال الفنية، فلا يلفت نظره إلا لوحة “سيرافين” التي أخذتها السيدة منها بالقوة، مستنكرة نشاط خادمتها الفني.

إنها ترسم أشياء تكررها في اللوحة بألوان مثيرة وغريبة تذكرنا بفن القرون الوسطى، وحينها تبدأ “سيرافين” مع جامع اللوحات برحلة الشهرة الجديدة.

وبعد هروب “فيلهلم” (الذي كان يحتضن عملها) بسبب مجريات الحرب العالمية الأولى، تستمر “سيرافين” بالرسم وحيدة، حتى يلتقيا مجددا بعد الحرب وقد تجاوزت مرحلة كبيرة في تطور عملها الفني، فيقيم لها معارض جديدة، وتبدأ رحلة الثراء التي يدمرها الركود الاقتصادي في نهاية العشرينيات، فتدخل “سيرافين” أثناءها في حالة من “الجنون” وعدم الاستقرار لتكون نهايتها في المصحة العقلية.
مغناطيس الأشجار والعشب والشمس.. عزلة بين مفردات الطبيعة
من الصعب أن تطلق صفة الجنون على هذه الشخصية كما أظهرها الفيلم، فهي بشكل أدق أقرب إلى البساطة والتوحد، تعيش معزولة في عالمها، وقد أطرت بظروفها المعاشية والاجتماعية القاسية وكل التقتير الذي يحيط بها.
وهناك لقطة تظهر فيها عارية القدمين خارج المنزل، تبدو “سيرافين” مسحوقة إلى أبعد درجة، وهي معزولة عن المعرفة والتعلم، فكيف أمكنها أن تبدع، وما هي مصادرها المعرفية والنفسية التي جعلتها فنانة تشكيلية؟

لا ريب أن الفيلم قد أعطى الإجابة بشكل غير مباشر، وهي إجابة تخرج بنا وتعلو لتساعدنا على إلقاء ضوء إضافي على مجمل النشاط الفني وآلياته عامة.
مصادر “سيرافين” تبدت من خلال جلوسها المتواصل وحيدة على كرسي تحت شجرة ما تطل على سهل، أو بين العشب تحت الشمس، وفي تعاملها اليومي مع مفردات الطبيعة الحية والمتحركة، وساعدها أنها تفقد ذلك الضابط الواعي في تكوينها أكثر من الآخرين.

كانت تتعرى لتغمرها مياه نهر في مكان ساحر، بعيدا عن أي عنصر بشري، حتى أنها عندما زارت أصدقاءها، لم تعانق أحدا منهم، بل سارت نحو شجرة اجتذبتها كمغناطيس واحتضنتها، وقبل ذلك كانت “سيرافين” قد أحبت فيما مضى شابا تركها وغادر.
معضلة التواصل.. ذروة الجنون ومنبع الإبداع
لم يكن بين “سيرافين” وبين الأشياء حواجز تمنع التواصل مع الكون، لكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة إلى علاقتها مع الآخرين، فمعضلتها ومأساتها أنها لم تستطع فهم الآلية المعقدة التي يسير عليها المجتمع، وربما كان ذلك سبب إبداعها أيضا من جهة أخرى.

وربما لم تصل إلى ذروة جنونها إلا بسبب دخولها في تلك الأطر الاجتماعية المتسارعة في تغيراتها بوتيرة عالية، فكيف ستواجه إذن تيارا جارفا وقد وضعت أمامه في قمة اشتداد جريانه في خضم الكساد الاقتصادي الكبير؟
في النهاية تسير “سيرافين” ببطء حاملة كرسيها الخشبي، نحو شجرة ضخمة ووحيدة تجثو فوق تلة في عمق الإطار، وتتضاءل مبتعدة إلى أن تصل إليها فتبدوان وحيدتين تطلان علينا من بعيد.