فلم “باماكو”: مساوئ البنك الدولي بعدسة سيساغو
محمد ولد ادوم – نواكشوط
تعج قاعة عروض المركز الثقافي الفرنسي في نواكشوط بجمهور عريض.. مزيج من الأوروبيين والأفارقة والعرب، جاؤوا من مختلف أرجاء العاصمة، لمشاهدة الفلم الذي أثار ضجة كبيرة في الأوساط السينمائية.. نفس الضجة التي أثارها في الأوساط المالية العالمية.. “نسخك +باماكو” فلم من العيار الثقيل.. رحلة ممتعة بين الوثائقي والروائي للمخرج الموريتاني الكبير عبد الرحمن سيساغو.
الصورة
رداء أحمر يلوح في فضاء الإطار، تعبير قد يكون مبالغا فيه عن حجم الدماء التي تلف بعض أحلام الق��رة العجوز.. مهاجرون تواقون إلى معاشرة الرفاه الاجتماعي والاقتصادي يمتطون ظهر سفينهم وصولا إلى حدود الموت.. أشباح الفقر والفاقة والعوز الاقتصادي الناتجة عن سياسات الإصلاح الهيكلية المطبقة من المؤسسات المالية الدولية تطارد سكينتهم وتدفعهم إلى المجهول، ومن ظلت لديه بقية عقل وتمسك بحبال الوهم، ظل يرقب من على مقعد ثابت واقعه الرديء الذي يشبه الدخان المتصاعد في قلب بار منسي وعلى إيقاع أغنية حزينة، تلك باختصار صورة بالطيف الطبقي يكشفها لنا الفلم دون سابق إنذار.
بالتوازي..
باماكو الذي أنتج سنة 2007 وحاز عدة جوائز عالمية، عبارة عن محاكمة صورية تخيلية.. دعوى قضائية يرفعها المجتمع المدني الإفريقي ضد مؤسسات التمويل الغربية ـ البنك وصندوق النقد الدولي ـ ، تلك المحاكمة التي تجري مرافعاتها داخل منزل كبير ذي ساكنة متعددة الأهواء والمشارب يوحدها التوق إلى غد أكثر إشراقا.. وتمضي المحاكمة جنبا إلى جنب مع الحياة اليومية لهؤلاء السكان.. “ميلي” المطربة الشابة في ملهى ليلي وزوجها العاطل عن العمل “شاكا”.. حارس غريب الأطوار.. سيدة تحترف الصباغة التقليدية ونشر الغسيل أنى واتتها الفرصة.. بائع نظارات شمسية.. ومصور يحلم باقتناص لحظة المكاشفة.. شاب طريح الفراش.. أطفال يلعبون ونساء يجلبن الماء إلى بيوتهن.. حفل زفاف ومأتم عزاء.. صخب وضجيج وحياة مليئة بالتفاصيل الصغيرة.. هذا هو المشهد الطبيعي، أما الجديد والذي لا يثير كثيرا انتباه السكان إلا بقدر ما يثير السكان انتباه ازائرين.. فهو تلك المحكمة التي تدور أحداثها ساخنة على مرأى ومسمع الجميع.. محامون وقضاة وشهود وحراس.. المجتمع المدني الإفريقي يضرب بكل ثقله لإثبات التهمة على الممولين الدوليين وعلى رأسهم البنك الدولي الذي أثقل كاهل القارة الإفريقية عن عمد وسبق إصرار بديون لا قبل لها بقضائها ولو بعد قرون.. وبدل أن يجد حلا منطقيا للمعضلة، يواصل البنك الدولي زيادة ديونه، وهو بذلك يواصل سياساته التحكمية في القارة، ويغرقها في الديون عاما بعد عام.. وحتى إن تلك الديون التي تسجل على القارة الإفريقية لا تساعد في إنعاش اقتصاداتها بل على العكس من ذلك.. ليصل كل المترافعين والشهود على أن تلك الديون هي كارثة حقيقية تزيد إفريقيا بؤسا وتزيد الممولين طمعا وتوسعا وإملاءا لشروطهم.. على أن الرأي الآخر كان حاضرا هو الآخر وأسهب دفاع البنك الدولي في ذكر مشاريعه الإنمائية ومساعداته وقروضه ذات الآجال الطويلة وتسامحه مع مختلف بلدان القارة السمراء على حد تعبير المتفائلين.
![]() |
عبدالرحمن سيساغو |
تجربة شخصية..
لقد صور سيساغو هذا الفلم داخل البيت الذي تربى فيه بالعاصمة المالية باماكو.. عائدا بذاكرته إلى الوراء، إلى أيام طفولته لحين حصوله على شهادة الباكلوريا.. ذلك الفتى الموريتاني العربي الإفريقي، الذي شاء له القدر أن يتربى بعيدا عن وطنه الأم وبعيدا عن حضن والدته.. ويدرس السينما في معهد “فغيغ” بموسكو عاصمة الإتحاد السوفيتي آنذاك.. ويبدأ مسيرته السينمائية في عاصمة النور والأضواء باريس التي أسس بها شركة إنتاج أسماها “شنقيط فلم”.. قرر هذا الفتى الذي أصبح الآن رجلا أن يسافر في رحلة إلى الوراء ويعقد مقارنة بين إفريقيا التي تجري في دمه، وأوروبا التي تجري في فكره.. سيساغو في هذا الفلم تتوزعه مشاعر مختلفة.. ولأنه فنان بالدرجة الأولى فقد استطاع أن يحتفظ بوجهة نظره لنفسه، دون أن يفرضها على الجمهور، ليترك لكل من يشاهد الفلم كامل الحق في تبني الرأي الذي يراه صوابا من خلال المرافعات، لكن أيضا من خلال فطرته الأولى..على اعتبار أن كل فرد مهيأ أصلا للاقتناع بوجهة نظر معينة.
وثائقي أو تمثيلي؟
يعتمد سيساغو دائما في تجربته السينمائية على ممثلين غير محترفين، أو بمعنى أصح على أشخاص يمثلون أدوارهم الحقيقية في الحياة.. في باماكو نشاهد محامين حقيقيين، وشهود يعبرون عن آرائهم الشخصية دون رتوش أو إضافات.. وقد أفلح الفلم أن يكون فلما وثائقيا وتمثيليا في الآن نفسه.. وثائقيا على اعتبار الأرقام والمعلومات الدقيقة والمرافعات الحقيقية والمحامين والقضاة المعروفين.. وتميلثي انطلاقا من تلك القصص الصغيرة المفتعلة والتي تسير جنبا إلى جنب مع أحداث المحاكمة.. وذلك الصراع الخفي بين المآسي وآفاق الإنفراج، فضلا عن مقطع الوسترن الذي مثلته وجوه معروفة إفريقيا وعربيا وعالميا على رأسها النجم الأسود “داني غلوفر” والمخرج الكونغولي زاكي لابلان إضافة إلى المخرج والممثل الفلسطيني المعروف إيليا سليمان.. وآخرون.
أخيرا
الفلم إذن لوحة خالدة أجاد عبد الرحمن سيساغو رسمها، وأجاد في العزف على أوتار العلاقة المأزومة بين الشعوب الإفريقية ـ ومن خلالها شعوب العالم الثالث ـ وبين مؤسسات التمويل الدولية التي ضاعفت البطالة والجوع وأججت مراسيم البؤس عن طريق برامجها الإصلاحية بدل أن تمسح الدموع من عيون أجيال مستقبل القارة الحزينة.. وتمضي أحداث الفلم حبلى بالألغاز والرموز والمعادلات التي تقبل دائما أكثر من حل.. نهاية مفتوحة على كل الاحتمالات وجهد كبير في تصميم المشاهد وتركيز الإضاءة.. وبساطة في الصرح والتصوير تصل حد التعقيد.