“هيه، لا تنسي الكمون”

فيلم تسجيلي يعوزه القليل من الحرية

يامن محمد – دمشق

لطالما اعتاد الفنانون عندنا أن يشتموا النقد، ولطالما اشتكوا من ناقدي أعمالهم متهمينهم بالتسلط، والتجبر، خائفين عليها من فقدانها للحرية المبدعة، جراء خطر وحيد وداهم، يأتيهم من صوب النقد والنقد فقط، الذي يكبح جماح ثوراتهم الداخلية والخارجية، ويقول لهم افعلوا ذلك أولا تفعلوا. فالنقد من هذه الوجهة متهم بالديكتاتورية والتحكم الذي يحاول فرضه على عمل الفنان المبدع، ومع أن النقد تطور وتغير وتغيرت النظرة إليه بشكل عام عما كانت عليه فيما مضى، إلا أننا من جهة أخرى نقبل ويقبل النقاد ويقبل النقد ذاته إسباغ بعض هذه المواصفات عليه وإن كانت مجحفة في كثير من مناحيها، لأنه يحتمل تلك الرؤية المغلوطة تجاهه، تبعاً لطابعه، وطبيعة وظيفته.

المخرجة هالا العبدالله

أما العجيب والغريب، هوَ أن يقوم المبدع بفعل عكسي تجاه المتلقي والناقد، والمتلقي/الناقد، فيكون دكتاتوراً عليهم، ويوجههم ليتبعوا الطريقة التي يريدها هو في التلقي، وكأنه يعتقد مسبقاً أن المتلقي أميٌ بفنه والطريقة التي عليه أن يتلقاه بها، وهو ما يفعله الكثير من المخرجين ضمناً وما فعلته بالضبط المخرجة هالة العبد الله بشكل مباشر في دمشق عند عرض فيلمها التسجيلي الجديد “هيه، لا تنسي الكمّون”
لقد توجهت المخرجة بكلمة قبل عرض الفيلم في صالة المركز الثقافي الفرنسي قالت فيها مخاطبة الجمهور: يجب أن تشاهدوا الفيلم بحرية ودون قيود وأحكام مسبقة لأنني أنا شخصياً صنعت هذا الفيلم بحرية مطلقة.
فما الذي يمكن أن يستنتجه المتلقي عند سماعه لهذه العبارات قبل مشاهدة الأثر الفني؟ وهي المليئة بكلمات الحرية، ثم الحرية، ثم الحرية؟! ومن جهة أخرى؛ كيف تتوقع الحال الذي سيكون عليه العمل الفني بعد ذلك؟
إذا أبقت دعوات الحرية تلك للمتلقي أن يكون حراً في قدرته على الاستنتاج، فهوَ ولا شك، وبكل حرية، سوف يصل إلى نتيجة تشي بها العبارة ذاتها وهي نتيجة ضمنية تدل على عكس الظاهر من القول، أي ما أرادت التركيز على إخفائه. وإذا أراد أن يكون حراً لأبعد من ذلك، فسيصل إلى نتيجة مقلقة حقاً. وسيصرخ بأعلى صوته: كم نحن مقيدون!!
عن الفيلم:
بعد الكلمة الافتتاحية كان من الواجب على المتلقي اليقظ أن يبحث في الفيلم عن المكامن التي تدل على غياب الحرية المزعومة، وتواجد نقيضها، والنتيجة فاجأت الكثيرين؛ فبالمقارنة مع فيلمها الأول “أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها” ظهر فيلم هالة العبد الله الثاني “هيه، لا تنسي الكمون” أكثر تقييداً وأقل قدرة على الحركة.
حاولت العبد الله إلقاء الضوء على ثلاثة نماذج إبداعية وشخصياتهم: جميل حتمل، سارة كين، ودارينا الجندي. مبتدئة بالتطرق إلى الكاتب جميل حتمل ومنفاه في فرنسا، والحديث عنه من وجهة ذاتية تخص المخرجة ذاتها أيضاً، ومن هنا كانت البداية توحي أن الموضوع الأساسي يدور عن حتمل، خصوصاً وأن هناك مشهد طويل “ممثَّل” مفترض في غرفة العناية في المستشفى يسترجع فيه “حتمل” نساء كثيرات يأتين ويدخلن الكادر باستمرار ويتم الحديث عنهن بشرح مسهب عن شخصياتهن. لكن حتمل وهوَ صاحب العبارة التي عُنون بها الفيلم “هيه، لا تنسي الكمون” لم يبدُ فيما بعد أنه المحور، بعد التطرق إلى سارة كين ودارينا الجندي. وهنا ومع الدخول إلى خط سارة كين بدا الفيلم وكأنه يفقد حريته حقاً، مع أن المشهد الطويل المذكور آنفاً، يرهص لهذا الفقدان، لأن المشهد وشخوصه بواقعيتهم قد سيطروا في الحقيقة على المخرجة، ولم تسيطر عليهم، إذا جاز التعبير.

من العمل

لقد أدخلت المخرجة خط الكاتبة سارة كين دون مبررات فنية معلومة، لتسرد حكايتها وانتحارها، وهي الحكاية المثيرة حقاً، ولكن بواقعيتها، حيث كنا ننتظر أن يتم الشغل على سارة كين سينمائياً، إذ لا يكفي بطبيعة الحال أن تسرد بعض جملها بالإنكليزية، دون أن يكون هناك ترابط عضوي مع الفيلم ككل، فحالات الجنون والكآبة والانتحار عند الأدباء والمبدعين كثيرة جداً وليست وقفاً على سارة كين وحدها، ومن جهة أخرى حاولت المخرجة الربط “قسراً” بين حتمل وكين زمنياً، من خلال الحديث عن أن  بداية شهرة أعمال الثنية تزامنت مع وفاة الأول.
أما الخط الثالث وهو يخص الممثلة والكاتبة اللبنانية دارينا الجندي، فلقد استحوذ على معظم الفيلم: تواجدت مادياً وعبرت عن نفسها بشكل مباشر ساردة قصتها ومعاناتها أثناء مجريات الحرب الأهلية اللبنانية بشكل أساسي، متطرقة إلى مواضيع شتى، كالرعب الذي خلقته الحرب، والارتباك الاجتماعي، واغتصابها، واتهامها بالجنون، وبالتالي نحصل على أكمل خط من الخطوط الثلاثة التي حاول الفيلم إلقاء الضوء عليها، فهو الخط المشبع الوحيد، والذي على ما يبدو فرض نفسه بهذه الصيغة أيضاً على المخرجة وصانعة الفيلم، من خلال التواجد القوي لدارينا ذاتها وقد استطاعت الحديث عن نفسها بشكل جيد، حيث كنا في المقابل نحتاج إلى من يستطيع التحدث بالنيابة عن الشخصيتين المتبقيتين اللتين غيبهما الموت.
لقد كنا في فيلم “هيه، لا تنسي الكمّون” أمام تجربة سينمائية، تمتاز بمنطلق جيد، وهو كما حاولت المخرجة التعبير عنه، الحرية في تناول الموضوع، وعدم التقيد بأشكال مسبقة، والجرأة في التعبير عن الذات، ولكن من جهة أخرى لا يكفي ذلك للخروج بعمل فني متكامل، على الرغم من تحلي الفيلم بلقطات ساحرة و”مشغولة” بعناية ملفتة، نحن في حاجة إلى نوع آخر من الحرية وهو بالضبط جرأة الفنان/المخرج على موضوعه ذاته لصالح الشكل الفني، وهو ما افتقدته العبد الله بشكل من الأشكال، وللمفارقة ربما كان السبب في ذلك هو النية المسبقة من قبل المخرجة للعمل بطريقة حرة في إنجاز الفيلم معتبرة هذا التوجه المشروع السينمائي الجديد في تلك التجربة، في حين أن ذلك يجب أن يتواجد بديهياً في عمل أي فنان، هذه الحرية هي الصفة الأساسية في أي إبداع، الفن حر بماهيته، وهناك من عرّف الفن على أنه نزعة نحو الحرية ضد القيود المفروضة على الكائن الإنساني.


إعلان