“ثرثرة فوق البحر”.. قصص من خبايا غرق العبارة المصرية
“ألف حكاية غرقت في البحر تبحث عن من يلتقطها، وينسج من عباءة الحزانى. أربع قصص التقطناها لننسج منها علما يرفرف فوق قبر من رحلوا ويدل الحائرين إلى الطريق”.
بهذه العبارة أعلنت المخرجة مها شهبه عن بداية فيلم “ثرثرة فوق البحر”، وهو عنوان الفانتازيا الوثائقية التي بُثت على قناة الجزيرة الإخبارية، وقص فيها الفيلم أربع حكايات مؤلمة لضحايا العبارة الغريقة “السلام 98” عام 2006.
اعتمد الفيلم على المزج بين السينما الروائية المصرية ومعالجتها لحادثة غرق العبارة، فانتقت المخرجة ثلاثة مخرجين، وكاتب سيناريو ليشاركوا في صياغة القصص الأليمة، وقدم الفيلم مفردات لخصت الحالة الاجتماعية والثقافية والسياسية في مصر وهذه المفردات هي (الإهمال – الفساد – ضياع الوطن ). ويعرض الفيلم لقطات مؤثرة من فيلم ثرثرة فوق النيل تعبر عن الواقع الاجتماعي العربي المرير.
واختفى التلمساني وعزيز
وقبل الخوض في القصص الأربع، جاءت مقدمة الفيلم تلخيصية لما سيقدم لاحقا ومدتها دقيقتان ونصف، معتمدة على الخرائط لمكان الغرق وقصاصات الجرائد المصرية، ثم ظهر مدير التصوير السينمائي طارق التلمساني، ويتحدث عن إمكانية تصوير فيلم عن غرق العبارة. ويطل بعد ذلك الملحن وجيه عزيز ليؤكد أهمية اللحن ويحذر من الفيلم الذي يُفرغ شحنات الجمهور، ويؤكد أهمية الفيلم الذي يشحن إنسانيتهم. إلا أنهما (التلمساني وعزيز) اختفيا.

والسؤال هنا.. لماذا اكتفت المخرجة بهذا الظهور؟ ألم يكن من الأفضل عدم ظهورهما أو توظيفهما بشكل أصح ضمن الفيلم.
“اللعب مع الديناصورات”.. القصة الأولى
تتطرق القصة الأولى للعب عائلة حمدي درويش مع الديناصورات، وأدت هذه اللعبة إلى فقدان حمدي درويش لزوجته وثلاثة أبناء والباقي هو ابنته شذى التي روت القصة كاملة، وصورت لنا لحظات من الصعب التوقف عندها إلا بالصمت أو البكاء، فقد فقدت أخاها ابن الربيع التاسع، وأختها شيماء التي كان عمر خاتم خطوبتها يوما واحدا فقط.
وقد أظهرت المخرجة نوعا من الجرأة حينما قدمت صيغة نقدية للسلطة السياسية المصرية العليا بطريقة غير مباشرة، ذلك أثناء رواية شذى حمدي لما حصل بعد نجاتها مع ابن عمتها، حيث قال لهم أحد الأشخاص: اذهبوا إلى الغردقة لتجدوا الرئيس، وحدثوه عما حصل.
وبعدها مباشرة تنتقل المخرجة إلى لقطة أرشيفية للمباراة النهائية لكأس أمم أفريقيا في القاهرة وتظهر صورة الرئيس المصري محمد حسني مبارك في السدة الرئيسية لملعب القاهرة الدولي، ويتقاطع عرض قصة عائلة درويش مع حديث الكاتب وحيد حامد عن فيلمه اللعب مع الديناصورات الذي يتحدث عن العبّارة من مرحلة ما قبل الغرق إلى الرحيل ثم ما بعد الرحيل، ويقص في فيلمه حكاية عائلة درويش، ويبرر تسمية الفيلم باللعب مع الديناصورات انطلاقا من أفلامه السابقة “طيور الظلام”، و”اللعب مع الكبار”.
وقبل نهاية القصة الأولى تمنح المخرجة محامي شركة السلام جميل سعيد 25 ثانية ليدافع عن ممدوح إسماعيل رئيس مجلس إدارة شركة السلام التي تملك العبارة الغريقة، ويعتبر المتهم الأول في القضية، وتسجل هذه النقطة إيجابية للمخرجة لأنها منحت شركة السلام بوابة للدفاع عن نفسها من منطلق موضوعية الفيلم.
“العبارة 2006”.. القصة الثانية
يقول المخرج خيري بشارة إنه سيقدم فيلما “يقلب مصر”، يضع فيه قصة البشر في إطار تاريخي واجتماعي وثقافي لوطن يعمه الفساد، حسب تعبير المخرج بشارة؛ وهو فيلم “العبارة 2006″، حيث يروي قصة محمد عبد الحليم الذي لا يشتاق إلى فاطمة فحسب، بل إلى كل أفراد عائلته الراحلين مع رائحة الماء وموج البحر وحُطام العبارة التي خانت اسمها (سلام)، وبينما يرفض المخرج بشارة النهاية المأساوية لأفلامه، يجد محمد عبد الحليم نفسه يبحث عن وطن ضاع بين سيل الفساد والإهمال.
وكما فعلت في القصة الأولى، يظهر محامي شركة السلام جميل سعيد من جديد ولكن فقط 15 ثانية مستمرا بالدفاع والانطلاق من المنطق الغائب حسب رؤيته في سوق الاتهامات من قبل الأهالي.
ضحايا ونبلاء وشحاذون.. القصة الثالثة
بين الشحاذين والنبلاء والضحايا، تحاول المخرجة أسماء البكري البحث عن مصير المفقودين في حادثة العبارة، وتضع تصورا لبداية رمزية لفيلمها، وخير الأمثلة على المفقودين محمد مجدي الذي غاب في ظروف غامضة. وترصد المخرجة قصة مجدي عن طريق لقاء والدته الرافضة لكل الحلول سوى رؤية ابنها حيا وشقيقته التي عُرضت عليها الملايين.
ويظهر في القصة الثالثة محامي المفقودين أسعد هيكل ليسلط الضوء على مستندات جمعها تؤكد خطف 27 شخصا كانوا على متن العبارة بعد نجاتهم، ونلاحظ غياب محامي شركة السلام في هذه القصة، وربما وجدت المخرجة نوعا من كسر الروتين بعدم إظهار محامي شركة السلام، وعلى كل الأحوال هذه النقطة بحاجة لتفسير من قبل المخرجة.
“هي فوضى” – “حين ميسرة”.. القصة الرابعة
طارق شرف غادرته زوجته وأربعة من أبنائه، لتحط الرحال به في خانة البحث عن الحق الضائع مع طغيان الفساد الذي يتحدث عنه المخرج خالد يوسف في فيلميه “حين ميسرة” و”هي فوضى”. ويشن خالد يوسف هجوما على السلطة متهما إياها بأنها تتعامل مع البشر كدمى قابلة للتحطم في أي لحظة، وأرجع سبب الوضع الموجود حاليا إلى تحالف الرأسمال مع السلطة.

ويسرد طارق شرف من جهته سيناريو رفع الحصانة عن ممدوح إسماعيل، حيث يتهم بعض الموجودين في السلطة المصرية بالتواطؤ معه، لأن سحب الحصانة كان بعد 43 يوما من غرق العبارة، وذلك بعد أن هرب إسماعيل واستقر في لندن، ولكن محامي شركة السلام يرفض السيناريو ويعتبر سفره قانونيا.
إهمال المسؤول.. نبش في خبايا الشق القانوني
بعد سرد القصص الأربعة تبدأ المخرجة بالبحث عن الحقيقة، فتراها تغوص في القضايا القانونية التي تخص غرق العبارة لمعرفة من المسؤول، ثم لتقدم لنا معلومات جديدة عن ارتباطات شركة السلام الخارجية مع شركة إيطالية، وتبين بعض الحقائق والإشكاليات الموجودة في القضية عن طريق السفر إلى إيطاليا ولقاء المحاميين “ستيفان برونوتي” و”ماركو بونا” حيث قدمت عن طريق مقابلة المحاميين الإيطاليين رؤية بعيدة عن القضية وربطها بالعنصرية الأوروبية.
خاتمة الفيلم.. ملخص وشهادة وفاة للعبّارة
عاد الفيلم إلى حيث بدأ، أي فيلم “ثرثرة فوق النيل” وربطه بعنوان الفيلم “ثرثرة فوق البحر” مع تقديم لقطات تلخيصية لما شاهدناه لتختمه بشهادة وفاة للعبارة جاء كما يلي:
اسم المتوفى: سلام 98
تاريخ الميلاد: 1969
مكان الميلاد: إيطاليا
الجنسية: بنما
سبب الوفاة: الغرق (لكن جرى شطبه ليظهر على الشاشة كلمتي الإهمال والفساد). وعرض الفيلم لمجموعة من الحوادث التي أثارت الرأي العام المصري.

وأخيرا يُسجل للفيلم أنه قدّم حادثة غرق البحارة بطريقة حاكت السينما المصرية وقدمت كيفية معالجة السينما للحادثة مع أسلوب غير ممل وقادر على التأثير، من خلال اللقطات التي من الصعب عدم البكاء عندها.
كما أن ربط السينما بالحادثة فيه نوع من التجديد والحداثة في الطرح السينمائي الوثائقي، والوصول إلى حد الفانتازيا الوثائقية التي من الصعب تطبيقها على واقعة موجودة ولها صداها الواسع.
ولكن وفي المقابل، يؤخذ على الفيلم عدم التطرق لقبطان العبّارة الغارقة صلاح جمعة الذي حكم عليه بالحبس لمدة ستة شهور وكفالة 10 آلاف جنيه مع إيقاف التنفيذ.