مهرجان روتردام .. بحث الهوية بين الذات والتجديد
حسونة المنصوري- روتردام
تعيش مدينة روتردام العاصمة الاقتصادية لهولندا منذ أيام على وقع الدورة التاسعة والثلاثين لمهرجانها الدولي. ويعد هذا المهرجان أهم حفل سينمائي في هذا البلد وأحد أهم المهرجانات في العالم رغم أنه لا يراهن البتة على حضور النجوم أو الأفلام التجارية. فمنذ انبعاثه اتخذ هذا الحدث مكانا خاصا بين المهرجانات الكبرى ككان وبرلين والبندقية بفضل تصور خاص وتوجه مختلف عن السائد آنذاك ولم يكن الهدف منافسة هذه المهرجانات العريقة. ذلك لأنه ان كانت لك الرغبة في أن تكون كبيرا أو أن تكبر فليس من الحكمة أن تلعب في ميدان الكبار ولكن من الأجدر أن تبحث لنفسك عن ميدان لك فيه من المساحة والزمن الكافيين لتترعرع وتنمو. يبدو أن العديد من التظاهرات السينمائية الجديدة لم تتعلم هذا الدرس. ولكن هذا موضوع آخر.
والفكرة في الواقع بسيطة كل البساطة : يراهن مهرجان روتردام عل الموجات الجديدة في السينما العالمية. فالمسابقة الرسمية مفتوحة الى المخرجين المبتدئين فلا تجد من بين المتراهنين (وهم خمسة عشرة) على احدى الجوائز الكبرى للمهرجان الا ذوي الأعمال الأولى أو الثانية وهو استثناء. فنادر جدا أن تجد اسما معروفا من بين هؤلاء الشبان. ولكن هذا لا يعني قلة اقبال المخرجين على المهرجان أو صغر حجمه. فالمسابقة تشمل أفلاما من كل أنحاءالعالم، فنجد هذه السنة أفلاما من أوروبا مثل علامات الحياة والحياة في الضيعة للفرنسيتان صوفية ديراسب وصوفية ليتورنور أو الى البحرللاسباني بيدرو غونزاليس روبيو أو أيضا ها قد قدم الصيف للهولندي مارتين مارية سميث. كما نجد أيضا أفلاما قادمة من مناطق بعيدة من العالم كالمكسيك الممثلة بماء البحر البارد لباز فابريغا أو السورينام الحاضرب دع لكل وجهته لبان روسيل. أما من الجهة الأخرى للكرة الأرضية فنجد أفلاما من اليابان مثل ميوكولتسوبوتا يوشيفومي ومن الصين شعاع الشمس ليانغ هانغ ومن ماليزيا ابنتي لشارلوت لاي كوان ليم. لعل كل هذه الأسماء لا تعني الكثير للمتتبع العادي للسينما العالمية لكنها قريبا، أو قل بعضها على الأقل، سيتخذ له مكانا بين الكبار كالعديد من الذين كانت انطلاقتهم من هنا لما كانوا بعد صغارا.
![]() |
من فيلم باجو |
وقد خص مهرجان روتردام مكانا للمخرجين الكبار في هذه الدورة وكما جرت العادة. حيث يعول المنظمون على آخر انتاجات المخرجين الكبار والمعروفين عالميا لجلب الجماهير العريضة رغم أن البعض يعيب على المجموعة الجديدة التي ترأس المهرجان بأنها اذ تنساق كثيرا وراء هذا التوجه قد تفقد المهرجان تلك الروح التي مكنته من بلوغ أوجه والتموقع كتظاهرة رائدة للسينما المستقلة ومساحة موازية للأنساق التجارية المعهودة هناك حيث يلتقي المهووسون بالسينما الجديدة الرافضة لقوانين المتاجرة بالفن. ولكن الملفت للنظر هو أن هذا القسم الموازي يبقى حكرا على تجارب سينمائية تؤمن حتما بسينما المؤلف. فنجد من بين الأفلام المبرمجة في هذا الاطارأفلام لاقت نجاحا في مواعيد سينمائية سابقة كأفلام الألماني فارنار هارتسوغ الملازم الشرير أوبني بني ماذا صنعت كما نجد أفلاما أخرى تألقت في مهرجان كان الماضي مثل النبي لجاك أوديار الى جانب تيترو الفلم الحدث لأحد أهم آخر المخرجين العظام فرانسيس فورد كوبولا. بهذا الأسلوب يرنو المنظمون الى تحقيق التوازن بين قانون مايطلبه الجمهور دون التغافل عن القيمة الفنية للأفلام المعروضة من جهة والمحافظة على التصور الأصلي للمهرجان كمسرح للسينماءات الجديدة وساحة للتعريف بها.
ويندرج البرنامج الافريقي الخاص بهذه الدورة في هذا الآطار : حمل المخرجين على ارتياد تلك الأماكن التي لاتزورها شركات الانتاج التجارية الا عرضا أو حاجة الى ديكور جذاب. فمن منطلق أن القارة الافريقية منسية سينمائيا خصت الدورة الحالية لمهرجان روتردام القارة السمراء بفقرة ذات قسمين. يحتوي الأول على عدد من الأفلام الكلاسيكية للمخرجين المؤسسين كالسينغالي عوصمان سمبان والمالي سليمان سيساي والنيجري مصطفى الاصان… أما الثاني فيحمل في طياته صورا عن الوضع الحالي للقارة كما يبدو من خلال بعض انتاجات المخرجين الشبان أو كما يبدو من خلال بعض أعمال مخرجين غير أفارقة وقعت دعوتهم للغرض. ولأن حيى أغلب الملاحظين المبادرة فان العارف بتاريخ العلاقة الاشكالية بين ما يسمى بالعالم الثالث والفن السابع يبدي حتما احترازا موضوعيا : أليس بالأحرى تمكين الأفارقة من وسائل التعبير عن ذواتهم بدلا من استقدام مخرجين من آسيا وأمريكا اللاتينية والشمالية ليخرجوا أفلاما يعبرون فيها عن نظرتهم للأفارقة كما لو كانو “حشرات” كما كان سليمان سيساي يحتج على طريقة تصوير مواطنيه من قبل السينمائيين الاستعماريين في زمن من المفترض أنه قد خلى وولى.
![]() |
الفيلم الاسباني : إلى البحر |
يبدوأن أصحاب هذا المشروع وان نبع من فكرة حسنة النية تحمل في طياتها بعدا تبشيريا خفيا لم يستوعبو بعد الدرس التاريخي الذي نظر اليه كل من فرانس فانون وادوارد سعيد حين يخاطبان العالم بأفكار ما بعد الاستعمار. لكأني بمنظمي هذاالمهرجان وجدو في التوجه نحو أفريقيا فكرة يعوضون بها عجزهم عن ايجاد التوازن الذي يضمن للمهرجان مكانته وقيمته التاريخيتين دون القطع مع الجمهور. هذا انطباع أولي عن التوجه العام لهذه الدورة في انتظار أن نرى كيف ستسير الأمور حتى نتمكن من تقييم نهائي .ولنا عودة…