الايطالي باسكويني : تسعة طوابق من الاضاءة الشبحية

دمشق – فجر يعقوب

عاد المخرج الايطالي الوثائقي ماركو باسكويني مع فريق تصوير قبل بضعة أسابيع لمرافقة بعض ” المرحلين ” الفلسطينيين من العراق ، والذين قضوا شهورا صعبة في مخيم التنف الواقع على الحدود السورية – العراقية ، بعد أن فرّوا من هناك إثر تصاعد الهجمات الوحشية ضدهم من قبل العصابات الطائفية والميليشيات الظلامية التي ازدهرت في ” عراق الخير ” بعد الغزو الأميركي له . المؤكد أن باسكويني صور فيلما عن المأساة الفلسطينية المتجددة ، ومايدفع بنا إلى القول هو تاريخه ” الوثائقي الشخصي “الذي لايخلو من أفلام عن فلسطينيي الشتات ، وهو غالبا مااتخذ من من المخيمات الفلسطينية في لبنان ” مسرحا ” لبعض أفضل أفلامه الوثائقية ، فقدم أفلاما مثل : ( باقون على قيد الحياة ) ، ( مشفى غزة ) ، ( صالون الفداء ) ، ( مقاومة ) ، وكلها عناوين تحتفي بكل أولئك الناس المجهولين الذين وقعوا تحت مصوب الكاميرا الذكية التي يمتلكها ،  فهو مصور بارع ، ويعرف كيف يمكنه أن يشرّح مواقع تصويره مسبقا قبل أن يعزز من اضاءته ، وزواياه المدهشة التي تحتضن تلك الاضاءة الشبحية ، وخاصة في فيلمه ( صالون الفداء ) ، وهو مزج متعمد من حكايتين ، قد يبدو معهما للوهلة الأولى أن لارابط بينهما ، فنحن نقف أمام الفلسطيني أبو ماهر حمزة ، الذي يصر على ادارة صالون حلاقة منذ أن تعلم هذه المهنة في مخيم الرشيدية ( الجنوب اللبناني ) ، وهو يحلم بأن يطلق صالونه الخاص تحت اسم ( صالون الفداء ) ، وهي اللوحة الاعلانية التي طالما تنقل بها من مكان إلى مكان ، ومن منفى إلى منفى ، وقد أصبحت شغله الشاغل ، حتى من بعد أن انتقل للاقامة في مخيم تل الزعتر ( بيروت الشرقية ) ، قبل أن تمحوه العصابات الفاشية الكتائبية عن الوجود ، مما اضطره مرة أخرى لحمل اللوحة تحت إبطه والانتقال بها إلى مخيم شاتيلا ( بيروت الغربية ) ، ليعلقها هناك وتبدأ أحلامه بالتحقق كما لو أنها حكايته ومجده الشخصي وأرومة بقائه على قيد الحياة ، حتى أننا لانشاهده إلا وهو يتنقل بها ليصلح عطلا ألّم بها مع أنه قد أصلحها في يوم سابق ، أو هو يضعها في البيت ليتفحصها ، ويتفحص التيار الكهربائي الذي يغذيها بتلك الاضاءة الصفراء الشاحبة ، وكأن باسكويني يتعمد أن يظهر أرواح تلك الأشباح الباقية على قيد الحياة بهذه الطريقة ، لأنه لاأمل لها بالانتقال إلى أمكنة يمكن استعادتها في أفلام أخرى .

ماركو باسكويني

ظل ( صالون الفداء ) يعمل حتى اجتياح لبنان صيف 1982 ، فيتوقف اضطراريا ، ويعيش صاحبه أهوال حصار بيروت ومجزرتي صبرا وشاتيلا ، قبل أن يعاود عمله مطلع عام 1985 ، وهو العام الذي شهد اندلاع حرب المخيمات بين حركة أمل ، والمقاتلين الفلسطينيين ، الذين صمدوا ببسالة مدة عامين في وجه مخطط اقتلاع هذه المخيمات ، وهو ماهدد عمل أبو ماهر بتوقف عمله نهائيا .
العلاقة بين ( صالون الفداء ) ومشفى غزة ليست وليدة الصدفة ، فأبو ماهر انتقل للعيش في المبنى المهجور المؤلف من تسع طوايق بعد أن دمر بيته بالكامل في حرب المخيمات ، وهو المشفى الذي شكل يوما ” معجزة” فلسطينية في الاصرار على البقاء بحسب ماأظهرت الصور الوثائقية من عهد ماض ، ومابقي منها الآن لايتعدى اضاءة شبحية بين طوابقها تعكس أحوال الباقين فيها بانتظار فرج لايجيء ، حتى وهم يقيمون أعراسهم وأفراحهم بين أنقاض الذكريات .
بالطبع يدرك أبو ماهر الذي رهن حياته لهذه اللوحة الاعلانية الصغيرة إنه يمكن أيضا بالمجاورة ذاتها أن يعد أيامه الباقية بحسب سنتيميترات قليلة يضيئها اللون الشاحب ، ولاتحدها اشاعات من حوله عن توطين يجري في الخفاء . صالون الفداء بادارة أبوماهر حمزة ، واللوحة الباقية له ستنتقل مع صاحبها إلى فلسطين أو …. إلى القبر بحسب مايخبرنا . رغبة جامحة لصاحبها قد تتحقق وقد لاتتحقق ، ولكن ماهو مؤكد أن المخرج الايطالي ماركو باسكويني الذي أشهر ولعه بهؤلاء الناس في مناسبات سابقة يعرف جيدا مالذي تعنيه هنا اضاءة شبحية في هذا المكان الضيق . اضاءة يبدو وكأنه هو أميرها المؤجل . باسكويني كان مؤخرا في مخيم التنف الواقع على الحدود العراقية ، وهو المخيم الفلسطيني الطارئ الذي كان  يجري فيه  التعامل بنفس الاضاءة ونفس الزوايا المنتقاة بعناية بالغة مع ماتبقى من أشباح هناك . 


إعلان