سلسلة رموز السّينما الوثائقيّة العالميّة ومناراتها
المُخرج الهولندي يوهان فان دار كوكن (Johan Van Der Keuken)
الهادي خليل
يُعدّ المُخرج الهولندي يوهان فان دار كوكن (Johan Van Der Keuken) الذي وُلد بمدينة أمستردام سنة 1938 وتوفّي سنة 2001، من كبار المخرجين الوثائقيّين في العالم إن لم نقل أهمّهم وأنبغهم إطلاقا. بدأ حياته كمصوّر فوتوغرافيّ بعد أن درس السّينما في الخمسينات في المعهد العالي للدّراسات السّينمائيّة بباريس، ثمّ انطلق، عند مطلع السّتّينات، في إنجاز مجموعة من الأفلام الوثائقيّة التي بَصَمَتْ ذاكرة عشّاق الفنّ السّابع وبيّنت مدى معانقة هذا الضّرب من الأفلام للإبداع وللشّاعريّة الصّافية. تمتاز أفلام يوهان فان دار كوكن بالأهميّة التي تعطيها للفضاء ولكلّ الجزئيّات والتّفاصيل التي يختصّ بها من أصوات وسكّان وأنهج وأزقّة. في كلّ فيلم من أفلامه نحسّ بنبض الحياة وخاصّة حياة المنبوذين والمهمّشين والمقهورين في مجتمعاتهم. يوهان فان دار كوكن هو شاعر الفضاء بامتياز.
![]() |
من اعماله القديمة |
أمّا السّمة الثّانية التي تُميّزه عن بقيّة المخرجين، فإنّها تتعلّق بالأولويّة القُصوى التي يوليها للصّمت في جلّ أفلامه. ليس هنالك لا ثرثرة ولا خطابات مسهبة ولا لغة مباشرة. فهو فنّان يأخذ كلّ وقته، عند تصوير كائن بشريّ أو مكان أو شيء ما، يترك الصّورة تسير على رِسْلِهَا، مُدْرِكًا أنّ الإخراج الوثائقيّ يتطلّب كثيرا من التّبصّر والتّأنّي والتّمهّل ونبذ التّلصّصيّة. وهذا الجدب في الدّيباجة الشّكليّة لجلّ أفلامه يذكّرنا بأفلام المخرج الفرنسي الشّهير روبار بريسّون (Robert Bresson) الذي اعتمد الصّمت والتّجويد على مستوى كلّ المكوّنات الفيلميّة كركيزة أساسيّة وجوهريّة في نظرته الجماليّة، مثلما تُبيّنه لنا أفلاما روائيّة خالدة على غرار “النّشّال” (Pickpocket) و”امرأة ناعمة” (Une femme douce) و”ملائكة الخطيئة” (Les anges du péché) و”المال” (L’argent) الخ. كان يوهان فان دار كوكن معجبا كثيرا ببريسّون وبثباته الدّؤوب في نفس المنهج السّينمائي. لذلك لُقِّبَ المخرج الهولندي بـ”ِبريسّون” السّينما الوثائقيّة.
![]() |
المخرج الهولندي در كوكن |
أمّا بالنّسبة إلى مضامين أفلامه، فهي تتمحور أساسا حول قضيّة فاقدي البصر وقضيّة نُصْرَة الشّعب الفلسطيني ونضالاته. ففي سنة 1964، صوّر يوهان فان دار كوكن فيلما بالأبيض والأسود عنوانه “الطّفل الأندونيسي” (Indonesian Boy) يدوم 40 دقيقة. وهذا الفيلم هو أوّل تجربة للمخرج الهولندي مع عالم فاقدي البصر وخاصّة الأطفال منهم. اهتمامه بالأطفال العميان، سيتوطّد بإخراجه، سنة 1966، لفيلمٍ مهمّ يُعتبر إلى حدّ اليوم درّة مسيرته السّينمائيّة وذروة تمشّيه الإنساني، عنوانه “الطّفل فاقد البصر” (L’enfant aveugle). يروي هذا فيلم حياة طفل اسمه “إيرمان سلوب” (Herman Slobbe)، مدقّقا في كلّ حركة يقوم بها هذا الطّفل المهرّج والذّكيّ وبكلّ كلمة يقولها، من خلال علاقاته بمحيطه وبأفراد عائلته وخاصّة أمّه، ومع الشّارع ككلّ. الظّاهرة التي استرعت انتباه فان دار كوكن في تصويره لفاقدي البصر هي القدرة الفائقة والمذهلة لدى هؤلاء على التقاط الأصوات والتّمييز الدّقيق بين مختلف أنواعها وطاقتهم الخلاّقة في تحديد خاصيّات الفضاء الذي يتحرّكون فيه.
بعد ذلك، انطلق يوهان فان دار كوكن، في مطلع السّبعينات، في تصوير سلسلة من الأفلام الوثائقيّة يمكن تسميتها بـ”أفلام المدن”. فصوّر المغرب وتونس والكاميرون والبيرو وإسبانيا والولايات المتّحدة الأمريكيّة وكان همّه الأساسي في هذه الأفلام إبراز بعض خصائص العلاقة المُعقّدة والشّائكة بين الجنوب والشّمال. خلال جولته في هذه المدن، لم يصوّر الأماكن المركزيّة ولا الشّخصيّات المرموقة ولا أحداث معروفة، ولكنّه اعتنى بظواهر اجتماعيّة تخصّ أساسا الفئات الاجتماعيّة المسحوقة والبناءات القصديريّة التي تعجّ بها بعض العواصم الغربيّة. كما اعتنى أيضا بتصوير الشّباب الإفريقي والعربي المغترب في مدن غربيّة مثل هولندا. كانت له القدرة في ربط علاقات حميمة مع كلّ النّاس الذين صوّرهم، ينصت إليهم بانتباه، لا يتدخّل كثيرا ولا يُطلق الأسئلة الثّرثارة وكأنّه عند تصوير شخوصه يجعل نفسه واحدا منهم.
![]() |
كان يوهان فان دار كوكن معروفا بمؤازرته للقضيّة الفلسطينيّة وبتنديده للسّياسة والممارسات الصّهيونيّة. في سنة 1980، صوّر فيلما متميّزا عنوانه “الفلسطينيّون” (Les Palestiniens)، ركّزه على أُمّهات الشّهداء والسُّجناء الفلسطينيّين اللاّت مازلن يقاومن ويناضلن كلّ يوم من أجل نصرة الحقّ أمّا بالكلمة أو بالزّغاريد أو بتزويد أطفالهن بالحجارة.