رموز: المُخْرج “جون قريرسون” (John Grierson)
الهادي خليل
لَمْ يُصَوِّر المُخْرج البرِيطَانِي “جُون قريرسون” (John Grierson) أفلاَمًا كَثِيرَة، لكِنَّهُ طَبَعَ حَرَكَة السِّينِمَا الوَثَائِقِيَّة بِفَضْلِ إِنْشَائِهِ لِكَثِيرٍ مِنَ المَعَاهِد المُتَخَصِّصَة فِي تَدْرِيسِ السِّينمَا وَالتِي تَخَرَّجَ مِنْهَا أَجْيَال مِعْطَاءة مِنَ السِّينمَائِيِّين الذِينَ أَدْرَكُوا أَهَمِّيَّة السِّينِمَا الوَثَائِقِيَّة فِي تَارِيخ الشُّعُوب وَالحَضَارَات وَجَعَلُوا مِنْهَا رَافِدًا مِحْوَرِيًّا فِي مُمَارَسَاتِهِم الفَنِّيَّة.
وُلِدَ المُنْتِج والسِّينمَائِي الوَثَائِقِيّ “جُون قرِيرسُون” بِاسْكتْلَنْدَا سَنَة 1898 وَتُوُفِّيَ سَنَة 1972. هُوَ الرَّمْز النَّاصِع لِلاِنْتِعَاشَة الكُبْرَى التِي عَرَفَتْهَا السِّينِمَا البرِيطَانِيَّة فِي الثَّلاَثِينَات وَالتِي بَرَزَتْ خِلاَلَهَا مَجْمُوعَة مِنَ السِّينِمَائِيِّين الوَثَائِقِيِّين الشُّبَّان الذِينَ كَانُوا يَبْحَثُونَ عَنِ الطُّرُق التِي تُتِيحُهَا السِّينِمَا الوَثَائِقِيَّة فِي تَصْوِير الوَاقِع. تَأَثَّرَ كَثِيرًا بِالمُخْرِج الأُوكْرَانِي “دزِيقَا فَارتُوفْ” (Dziga Vertov) وَبِلُقْيَاتِهِ فِي اسْتِنْبَاطِ لُغَةٍ سِينِمَائِيَّة رَاقِيَة خَاصَّةً فِيمَا يَتَعَلَّق بِالمُونتَاج وَبِالدَّوْر الحَاسِم الذِي يَقُومُ بِهِ فِي صِيَاغَةِ السَّرْدِيَّات السِّينِمَائِيَّة. أَمَّا الرَّمْز الثَّانِي الذِي تَأَثَّرَ بِهِ “جُون قريرسُون” فهُوَ المُخْرج الأَمرِيكِي “رُوبَار فلاهرتي” (Robert Flaherty) الذِي اسْتَقْدَمَهُ إِلَى برِيطَانيَا سَنَة 1933 حَيْثُ صَوَّرَ فِيلمًا عُنْوَانُهُ “برِيطَانيَا البَلَد الصِّنَاعِي” (« Industrial Britain »). كَانَ يَعْتَبِرُ أَنَّ “فارتُوف” وَ”فلاَهرتِي” هُمَا أَفْضَل مَرْجَعيْن فِيمَا يَخُصُّ التَّوْلِيف بَيْنَ الاهْتِمَامَات النِّضَالِيَّة وَالاهْتِمَامَات الشِّعْرِيَّة الجَمَالِيَّة.
قَبْلَ أَنْ يَخُوضَ غِمَار الإِنْتَاج، صَوَّرَ سَنَة 1929 فِيلمًا يُصَنَّفُ مِنْ قِبَل النُّقَّاد وَالمُخْتَصِّين فِي الشَّأْن السِّينِمَائِي مِنْ رَوَائِع السِّينِمَا الوَثَائِقِيَّة عَلَى مَرِّ العُصُور، وَهوَ بِعُنْوَان “دريفتارز” (« Drifters ») أَيْ مَا مَعْنَاه بِالعَرَبِيَّة “اتِّجَاه التَّيَّار”، وَهوَ شَرِيطٌ يَتَمَحْوَرُ حَوْلَ صَيْد السَّمَّك فِي بَحْر الشَّمَال، مُبْرِزًا حَيَاة البَحَّارَة عِنْدَ العَمَل وَعِنْدَ الاِسْتِرَاحَة بِأُسْلُوبٍ مَلْحَمِيٍّ يُذَكِّرُنَا بِأَفْلاَم “رُوبَار فلاَهرتِي” التِي جَعَلَتْ مِنَ الإِنْسَانِ مَدَارَ مَضَامِينِهَا وَمَقَاصِدِهَا. تَأَثَّرَ أَغْلَب السِّينِمَائِيِّين الوَثَائِقِيِّين بِهَذَا الفِيلم العَلاَمَة الذِي بَيَّنَ أَنَّ الفَنّ السِّينِمَائِي بِمَقْدُورِهِ تَحْوِيل الوَاقِع إِلَى مَلْحَمَة مَفْتُوحَة عَلَى سِحْر الأُسْطُورَة وَغِوَايَة المِيثُولُوجيَا.
![]() |
صورة مركبة لأثنين من اعماله |
إنَّ حَرَكِيَّة “جُون قريرسُون” بِوَصْفِهِ مُنْتِجًا عَلَى جَمِيع الوَاجِهَات وَفِي كُلّ الأَجْنَاس السِّينِمَائِيَّة وَخَاصَّةً الجِنْس الوَثَائِقِيّ، سَتَبْقَى مَحَطَّة سَاطِعَة فِي حَيَاةِ هَذَا الرَّجُل الذِي كَانَ يُؤْمِنُ بِالتَّكْوِين النَّظَرِيّ وَالتَّطْبِيقِيّ وَوَبِفَتْحِ المَجَال إِلَى كُلّ الطَّاقَات، مَهْمَا كَانَتْ جِنْسِيَّتُهَا، لِكَيْ تَتَطَوَّر السِّينِمَا وَتَشِعّ فِي كُلِّ بُلْدَان العَالم.
كَانَ الدِّينَامُو الفَاعِل الذِي سَاهَمَ فِي نَشْأَةِ سِينِمَائِيِّين مِنَ الشَّبَاب البرِيطَانِي مِثْلَ “إِيدقَار آنستَاي” (Edgar Anstey) وَ”آرتير إِيلتُون” (Arthur Elton) و”ستيوارت لِيق” (Stuart Legg) و”هَارِي وَات” (Harry Watt) و”بُول رُوتَا” (Paul Rotha) وَغَيْرهم من المُخْرِجِين. وَبِمَا أَنَّ صِيتَهُ قَدْ شَاعَ كَمُنْتِجٍ وَمُكَوِّنٍ، طُلبَ مِنْهُ إِنْشَاءَ مَعْهَد السِّينِمَا بِكَنَدَا الذِي أَشْرَفَ عَلَى دَوَالِيبِ تَسْيِيرِهِ مُنْذُ البِدَايَة. نَجَحَ نَجَاحًا كَبِيرًا فِي هذه المُهمّة الإِدَارِيَّة ِلأَنَّهُ عَرَفَ، بِفَضْلِ تَجْرِبَتِهِ الغَزِيرَة، وَبِفَضْلِ انْفِتَاحِهِ عَلَى العَالم، كَيْفَ يَسْتَقْطِبُ جِيلاً مِنَ السِّينِمَائِيِّين الكَنَدِيِّين الشُّبَّان الذِينَ كَانُوا يَسْعَوْنَ إِلَى تَأْسِيسِ سِينِمَا جَادَّة وَمُتَطَوِّرَة فِي بَلَدِهِمْ.
فِي ظِلِّ هَذِهِ التَّجَارِب المُتَنَوِّعَة التِي قَامَ بِهَا “جُون قريرسُون”، هُنَالِكَ تَجْرِبَة نَوْعِيَّة وَمُهِمَّة قَامَ بِهَا مَعَ المُخْرِج الفِرَنْسِيّ-البرَازِيلِي أَلْبَارتُو كَافَلْكَنْتِي (Alberto Cavalcaniti) الذِي كَانَ سَنَدًا لَهُ فِي تَكْوِينِ مَجْمُوعَة مِنَ السِّينِمَائِيِّين. إنّ تَأْثِيرَ “جُون قريرسُون” عَلَى الوَسَط الأُنْقلوساكسونِي تَأْثِير كَبِير مَا زَالَتْ تَسْتَحْضِرُهُ الذَّاكِرَة السِّينِمَائِيَّة إِلَى اليَوْم. فهوَ الذِي أَبْرَزَ مَدَى ارِتِبَاط مَصِيرَ السِّينِمَا الوَثَائِقِيَّة بالالتِزَام الاجْتِمَاعِي. وَهوَ الذِي أَعْطَى دَرْسًا لِكُلِّ الأَجْيَالِ فِي المُثَابَرَة المُسْتَمِيتَة لِكَيْ تَرَى المَشَارِيع النُّور وَتَتَحَقَّق التَّطَلُّعَات إِلَى غَدٍ أَفْضَل. كَمَا فَتَحَ أَعْيُن النَّاس، وَهوَ الحَرَكِيّ الدَّؤُوب عَلَى أَنَّ مَا يَسُوسُ بَيْن النَّاس وَمَا يَجْمَعُهُمْ، أَيْ الفَنّ وَالإِبْدَاع وَحُبّ العَمَل وَالتَّضْحِيَة فِي سَبِيلِهِ، أَقْوَى بِكَثِير مِمَّا يُفَرِّقُهُمْ (الجِنْسِيَّات وَالاِنْتِمَاءَات العِرْقِيَّة وَالدِّينِيَّة وَمَا شَابَهَهَا).
![]() |
كَانَ “جُون قرِيرسُون” حَقًّا فِي المُنْتَصف الأَوَّل مِنَ القَرْن العِشْرِين رَائِدُ “العَوْلَمَة السِّينِمَائِيَّة” قَبْلَ بُرُوزِ العَوْلَمَة ذَاتِهَا، وَكَان أَيْضًا مُحِقًّا فِي تَنَبُّئِهِ بِأَنَّ مُسْتَقْبَل السِّينِمَا الوَثَائِقِيَّة مُسْتَقْبَلٌ زَاهِرٌ وَأَنَّهُ الجِنْس الأَرْقى وَالأَمْثَل فِي اسْتِنْطَاق الوَاقِع وَاسْتِكْشَاف ثَنَايَاه المُتَشَابِكَة، فهوَ حَقًّا، مَعَ كُلٍّ مِنْ “فَارتُوف” وَ”فلاهِرْتِي”، أَهمَّ عَلاَمَةٍ فِي تَارِيخ السِّينِمَا الوَثَائِقِيَّة وَرُبَّمَا أَهَمُّهَا عَلَى الإِطْلاَق. لَمْ يحظَ بِنَفْس الصِّيت الذِي حُظِيَ بِهِ رُوَّاد السِّينِمَا الوَثَائِقِيَّة الأَلْمَعِيِّين ِلأَنَّهُ طَغَى رُبَّمَا فِي مَسِيرَتِهِ، جَانِب التَّكْوِين وَالإِنْتَاج عَلَى الجَانب الإِبْدَاعِي، لَكِن فِي قَوَامِيس وَمُؤَلّفَات الفَنّ السَّابع وَفِي مَرجعِيَّات أَهَمّ المُخْرِجِين الوَثَائِقِيّين، يَتَبَوَّأُ “جُون قريرسُون” المَرْتَبَة الأُولَى.