كما قال الشاعر: رحلة الأصوات المتعبة
تطوان ( المغرب ) – فجر يعقوب
يبدو الاقتراب من شخصيات أدبية كبيرة في الأفلام الوثائقية مسألة بغاية التعقيد والصعوبة ، ليس بسبب من عدم القدرة على ” التوغل البصري ” في عوالمها ، فهذه مسألة متروكة للمخرج وقدرته على الابتكار ، والولع بالمادة المعدة أصلا ، لتكون المدخل نحو هذه الشخصية أو تلك ، باعتبارها المتن الدلالي الرحب الذي تتوجه إليه الصورة أولا وأخيرا . وقد تصبح المسألة على تعقيد أشد إذا ماتوجهت نحو شاعر من طراز محمود درويش . شاعر يقيم في لغته ، ولايقيم في أي مكان آخر . له لغة وحضور وصوت لايقفل على الأفق إذا ماتناهى إلى المسامع ، بل يفتحه ، ويظل يفتحه إلى مالانهاية لتتأكد وظيفته في الأعلى ، ” عندما يطل على مايريد “.
عالم محمود درويش صعب ومكلف ، وقد تبدو محاولة الاقتراب منه بكاميرا عزلاء مجازفة أو ورطة خطرة . فاللغة قد لاتورث هنا للعين بالبساطة ذاتها ، وهي بحاجة لجسارة ليس أقل من جسارة اللغة التي اشتغل عليها ، وبالتالي أي تردد في تصويب اللافتة الشعرية التي كتب عليها رحلته قد تصبح ” بالونا متفجرا ” ينال من يقترب منه لحظة العجز لمجرد لمسه أو للايحاء للعين بعدم جدوى مشاهدته ، وهو غالبا مايجيء مكلفا ، لأن التجريب في اللغة قد لايوازيه تجريب في العين في محاولتها ادراك المسميات الدلالية الخطرة التي قامت عليها أساسا تجربة درويش ، وخاصة في العقد الأخير الذي سبق رحيله المفجع .
(كما قال الشاعر) هو فيلم وثائقي للمخرج الفلسطيني نصري حجاج ، الذي أفجعه كما قال في أكثر من مناسبة رحيله ، فالرحلة الدرويشية في الحياة تقارن بالإرث الاغريقي التراجيدي المكتوب ، وبالتالي فإن حجاج يفرز لنفسه من حيث – يدري أو لايدري – مهمة لاتقل خطرا عن أضابير اللغة التي رقمت تجربة درويش في اللغة وفي الحياة ، لتأخذ هذا المنحى الفجائعي غير الشخصي لحظة الرحيل . والفيلم ( 58 دقيقة ) الذي يحفل بتيترات كثيرة سببها التنقل بين العواصم والمدن التي لجأ إليها درويش منفيا أوزائرا ، أو ترك فيها أثرا من صوته ولغته ، ناهيك عن الذهاب إلى الأسماء الكبيرة التي ظللت الفيلم ، وهي أسماء تقيم في الذاكرة ومعروفة تماما : وول سوينكا ، خوسيه ساراماغو ، دومينيك دوفيلبان ، مايكل بالمر ، اسحق لاؤور، شيركو بيكه س ، أحمد دحبور ، جمانة حداد . اذن هي محاولة في اقتفاء أثر الراحل بالكاميرا امتدت لتتناول الأمكنة: غرفة الشاعر في الأوتيل الباريسي . غرفة مشفى هيوستن الأميركي التي فارق فيها الحياة . الشقة في العاصمة الأردنية ، بما فيها ركوة القهوة ” المفوّرة ” ، وبعض الصالات التي قرأ فيها أشعاره ، وكل ذلك في محاولة – من نصري حجاج – لاسترجاع الصوت الدرويشي وأثره على الرحلة التراجيدية المفترضة ، وهو الصوت الذي أسر الأسماء الآنفة الذكر ، فليس ثمة تطور ملحوظ في عموم الفكرة المتكئة على ” قول الشاعر ” ، والتي بدت لنا تدور في منحنى مغلق ليس فيه أثر لتلك ” المكتنزات”الحسية والدلالية والرمزية التي طالما تفنن درويش باللعب عليها ، درجة أن الأسماء الكبيرة بدت أنها تقرأ علينا أشعاره بأصوات مضيعة ومتعبة ، ولاتقصد العوالم القصية التي ذهب إليها المخرج ظنا منه أنها ستوفر للفيلم فرصة ملامسة بطانة التجربة الفريدة .
![]() |
3 2 1
بالطبع الفيلم يقدم فرصة طيبة للحديث عن الفيلم المزيف للسينما ، فلانعتقد أن محمود درويش أراد – مثلا – من ( لاعب النرد ) أن يقابل بتلك الصورة التقريرية المباشرة للاعب نرد في مقهى ، ومن المؤكد أن الشاعر الراحل لم يرد للحظة أن يتشبه بلاعب نرد في أي من الأوقات ، ففي هذا اقفال نهائي على المعنى ، وسطو على البنية اللغوية نفسها التي أرادت من لعبة يومية عادية أن تنتقل إلى مصاف ” المقامرة ” بمصير الشاعر – الحي ، ليتحول في سياقها الملعون إلى مصير جماعي يقرره اللاعب التراجيدي عبر تطويحه بالنرد في هواء القضية الكبرى التي ينتسب إليها .
( كما قال الشاعر ) قدم في المسابقة الرسمية للأفلام الوثائقية في مهرجان تطوان السادس عشر ( 27 مارس – 3 ابريل 2010 ) ، ومقدر له أن يشارك في مهرجانات أخرى ، وربما في عروض خاصة ينشط المخرج حجاج في عقدها وتنظيمها من حين لآخر .