رُمُوز الوثائقي: المُخْرج التّونسي هشام بن عمّار

 الهادي خليل

ذَاعَ صِيتُ المُخْرج الوَثَائِقِيّ التُّونسِي هِشَام بن عمَّار بِصِفَةٍ مَلْحُوظَة سَوَاء فِي بَلَدِهِ أَوْ عَلَى المُسْتَوَيَيْن العَرَبِيّ وَالعَالَمِيّ. هُوَ من مَوَالِيد سَنَة 1958 بِتُونس العَاصِمَة، نَشَطَ فِي نَوَادِي السِّينِمَا وَدَرَّسَ تَارِيخ السِّينِمَا بِمَعْهَد الصَّحَافَة وَعُلُوم الأَخْبَار بِتُونس.
 يمثّل هِشَام بن عمَّار الذّاكرة الراعية لأَنْمَاطِ الحياة الماضية، الآيلة إلى الزّوال والتي نراها تنبعث، من جديد، من رمادها، ولو بعناءٍ مُضْنٍ، مُتَصَدِّيَةً، هكذا، للهجمات المتكرّرة التي تَشُنُّهَا التّحَوُّلات العمرانيّة والتّغيّرات الذّهنيّة، والزَّحف المهيمن للصّناعات التّكنولوجيّة. هشام بن عمّار هو قريب جِدًّا من شخوصه حتّى ليَحْصُلَ لنا انْطِبَاعٌ بِأَنَّها عاشت لِمُدَّة طَوِيلة في رَحِمِ مَنَابِعِ ذَاتِهِ الحَمِيمَة، ظَلَّ يَرْعَاهَا وَيُغُدُّهَا مِنْ رُوحه وَوجْدَانِهِ وَمُخَيَّلته، مُرْتَقِبًا اللحظة السّانحة التي تُمَكِّنُهُ من الالتقاء بهذه الشّخوص في الموعد المناسب والمحفّز للّقيات الإبداعيّة.
 أنجز فيلمين وثائقيّين هما “كافِي شانْطَا” وَ”رَايس الأبْحَار”، صوَّرهما تِبَاعًا، سنة 1998 وَسَنة 2000. مِنْهُمَا تَنْبَعِثُ حَفَاوَةُ الضِّيَافَة الحَارَّة بين السّينمائي وشُخُوصه وَبفضلهما نستعيد طقوس الفنّ التّقليدي التي حفلت بها أوساط مقاهي “باب سويقة”، بالأمس، وهو حيّ شعبيّ بِقلب مدينة تونس العتيقة النّابض، أو عادات وتقاليد صائدي سمك “التنّ” بالهوّاريّة وسيدي داود في الوطن القبلي التّونسي.
 في شريطي “كافي شانطا” و”رايس الأبحار”، نلاحظ نُزُوعًا نحو الدقّة المتيقّظة التِي تُولي اهتمامًا كبيراً لكلّ الحركات التي يومئ بها كل من المغنّين والرّاقصين في حيّ باب سويقة، وبحّارة الهوّاريّة وسيدي داود. يستهلّ الفيلم الوثائقي الأوّل بِتَصْوِيرِ جُمْلَةٍ من المهيّئات التحضيريّة التي تسبق المشهد الفرجوي: التّجميل والطّلي بالمساحيق، عمليّة شدّ القلوس، توطيد حبال الطَّبْلَة، تَفَقُّد الإِنَارَة، التّمتّع بِتدخين سيجارة قَصْد التَّرْكِيز، تعليق المُلْصَقَات المُبَرْقَشَة اللّون الخ. لم يتسنّ لهؤُلاء الفنَّانِين فرض وجودهم إلاّ من خلال العناء الذي كابدوه ودفعوا ضريبته غاليا. ففي مشهد استأثر به الراقص المشهور “حمّادي لغبابي”، الذي يعود له الفضل في نشر الرّقص في الأوساط الرّجاليّة الشّعبيّة، نشاهده يقدّم شروحا، قولاً وحركَةً، ليذكرّنا بكلّ الجهد الذي بذله لِيُطَوِّعَ جسد الرّجال، عند المداس وعند موضع ضمور البطن ليصبح هؤلاء قادرين على أداء فنّ كُنَّا حسبناه حِكْرًا على النّساء فقط. إنّ الذي يتكلّم، هنا، ليس الفنّان فحسب وإنّما، أيضًا، البيداغوجي المُعَلّم الذي يشير إلى سرّ الحذق الماهر الدّقيق في الأداء وإلى المقادير المناسبة التي يجب التحكّم فيها بمرونة متناهية ولطف ظريف، حتّى يتجاوب التّثنّي الرّجولي مع البطء الأنثوي منسجمًا بعضه مع بعض.

ملصق لفيلم كان ياماكان

 في شريطي “كافي شانطا” و”رايس الأبحار”، يتجلّى الواقع على نحو من الكثافة، عامرًا، متحفّرًا. إنّ أخطر ما يهدّد الشّريط الوثائقي هو الوقوع في حبائل التّلقائيّة، ونعني به ترك الكاميرا تصوّر وتتحرّك على هواها دون ضابط يُحدّد تَوَجُّهَهَا، أو الإمعان فِي اللّقطات العريضة التي تتسبّب رُبَّمَا في إحداث الفجوة بين المصوِّرين والمُصَوَّرِين. لذا، يستوجب التّدقيق المُتْقِنُ في كيفيّة سلّم اللّقطات واختيار زوايا النّظر والمكان الذي تُوضعُ فيه الكاميرا. كما تَسْتَدْعِي عملية التّصوير التّريّث المتأنّي الصّائب حتّى يتسنّى التقاط رعشة الرّغبة، واصطياد الضّحكة العامرة بالجنون التي يفوه شذاها عبر مناظر الطّبيعة البهيجة أو من خلال تضاريس السّياق البيئي الخلاّب. ومن هذه الوجهة بالذّات، فإنّ شريط “رايس الأبحار، فيما يَقْتَرِنُ بِبِنْيَتِهِ الدّراميّة وإيقاع وتيرته والتّشذيب والتّكثيف والتّخييل الذي يميّزه، يبدو أكثر متانة وسحرا من شريط “كافي شانطا”.
 أَخْرَجَ هشام بن عمَّار شريطه الوَثَائِقِي الثَّالِث “شُفْت النّجُوم فِي القَايْلَة” سَنَة 2006. وَعِوَضَ أَن يَنْزَلِقَ فَنُّهُ السِّينِمَائِي فِي مَآزق الثُّنَائِيَّة المُزدوِجَة من صنف وَاقع/خَيَال، ذَاتِيَّة/ موضوعِيَّة، فهو يَسْلُكُ دَرْبًا آخر مُغايرًا، يَكتَشفُ الوَاقعَ على نَحْوٍ يصبح الواقِعُ، هو نفسُهُ، مَصْدَرَ إِلهام الخيال وثرائه ومَنْبَع الطّرفَة السَّرْدِيَّة. هذا الاختيار ينمُّ عَنْ مَسْعًى مِعْطَاء، يرفضُ التّوَجُّهَ الوَعْظِي، الإِرْشَادِي الذي يسُودُ، عَادَةً، بَيْنَ مُخْرِجِينَ سِينِمَائِيِّين يَتَقَمَّصًون دَوْر الموجّهين المُتَيَقِّظين الفطنين حَيَالَ جَمَاعَات أَوْ أفْرادٍ يَقَعُ تصويرهم وَهُمْ فِي وضع الذين يتلقّون أَوَامر وَيَمْتثلون لمشِيئَة المخرج. كَمَا أَنَّ هُنَالِكَ خِصْلَةٌ أخرى تُمَيِّز أَفْلاَمه أَلاَ وَهيَ تِلْكَ المُتَمَثِّلَة في هذا الوفاء لِمَاهِيَّة الفنّ السّينمائيّ وَأُصُوله مِثْلَمَا يَتَجَسَّدُ ذَلِكَ فِي المُوْنتَاج وَالإِيقَاع وَالتَّعَامل السّلس المشرق مَع المُصَوِّرِين.
 يستحضر “شُفْت النّجُوم فِي القَايْلَة” الذِي يدُومُ الثّمانين دقيقة ذكرى نفر من الملاكمين التّونسيّين تركُوا بَصَمَاتهم الخاصّة على صفحات من هذه “الرّياضة النّبيلة”، أمثال “صالح كرّاش”، “رزقي بن صالح”، “فيكتور يونغ بيراز”، “الهادي التّيجاني”، “الصادق عمران”، “إبراهيم المحواشي”، “البشير المنُّوبي”، “الطاهر بلحسن” “الهادي بلخير”، “زَلاَبَانِي”، “فتحي الميساوي” وَغَيْرِهم. ومن خلال مَا اتَّسَمَ به مسَارُهُمْ من تقلّبات وهزّات، تُرْسَمُ صُورةُ تاريخ تونس السّياسي والاجتماعي، فيبدو معروضا على الشّاشة لتتملاّهُ أنظَارُنَا منذ سنة 1911، أي السَّنَة التِي بَرَزَ فِيهَا “صالح كراش”، أوّل ملاكم تونسي، حتّى يومنا هذا.


إعلان