“من غوتنبرغ إلى بيروت”: توثيق الطباعة و تأخرها
يؤرخ الفيلم الوثائقي الذي أصدرته وزارة الثقافة اللبنانية و”احتفالية بيروت عاصمة عالمية للكتاب” بعنوان “من غوتنبرغ إلى بيروت”، للطباعة في الشرق، كاشفا أسبابا هامة ساهمت في بقاء العالم العربي في الصفوف الخلفية للحضارة الحديثة، والسبب بحسب ما يظهره الفيلم، هو منع السلطنة العثمانية لطباعة اللغة العربية زهاء 300 سنة من بداية اختراع المطبعة الأولى، أي منع وصول الكتاب، وبالتالي منع الثقافة عن العامة.
الفيلم أخرجه هشام الجردي، وهو من 23 دقيقة، ويمكن القول أن أحداث الاحتفالية، وتكثيف تعاطيها مع الكتاب، ووسائط النشر، والاهتمام بترويج المطالعة، دفع المهتمين للتساؤل عن سبب تراجع المطالعة في العالم العربي، وتاليا تراجع الثقافة المواكبة للعصر.
وفي الأبحاث، ما يحيي الاهتمام بالطباعة كثورة علمية بحد ذاتها، تممت الثورة الصناعية انطلاقا من بريطانيا، والثقافية من فرنسا، والفلسفية من المانيا لقرون خلت.
![]() |
مطبعة دير قزحيا |
وطرحت التساؤلات في إطار الاحتفالية عن الطباعة وسبب تأخر انتشارها رغم وصول المطبعة الأولى إلى لبنان سنة 1585 وهي المطبعة المعروفة بمطبعة دير قزحيا. وقد اتسمت الرؤى بالاختلاف حول تفسير خلفيات منع السلطنة العثمانية لطباعة العربية.
مطبعة قزحيا
يوضح الفيلم عن طريق مقابلات مع متخصصين اجتماعيين وتاريخيين، ومع حارس الدير الذي حضن المطبعة وشغلها واحتفظ بها حتى تاريخه، عملية استحضار المطبعة للدير وأسبابه، حيث كان من المفترض البدء بالطباعة في الشرق بعد عقود على اختراع المطبعة في الغرب، تحديدا في ألمانيا.
وتحدثت الباحثة هلا عواضة عن إشكالية الطباعة في الشرق موضحة أن منع السلطات العثمانية للطباعة تركز على منع طباعة اللغة العربية، فكان هناك فارق زمني كبير امتد 276 سنة بين مطبعة غوتنبرغ ومطبعة السلطنة العثمانية.
بدأنا نفتش عن سبب وجود وجود هذا الفارق الزمني وعندما بدأنا نجمع ما هو متوافر حول هذا الأمر، اكتشفنا أن العديد من الأكاديميين والمهتميمن بالشأن العلمي والثقافي لم يكونوا يعرفون أن المطبعة كانت محظرة علينا لمدة 300سنة.
وجهات نظر متباينة
ويروي الباحث الدكتور في الجامعة الأميركية في بيروت سماح مكارم أسباب تأخر الطباعة، الأول: طباعة الحرف العربي ربما كان يعد من قبل الخليفة العثماني بايزيد بالآلة يؤدي إلى التقليل من قدسية القرآن، أو قدسية اللغة العربية والحرف العربي لأنه حرف نزل بالقرآن، وربما أدى ذلك إلى التقليل من قدسية القرآن”.
وقال: “الطباعة كانت أمرا حديثا في ذلك الوقت، لم يهضمه المسئولون المسلمون ولكن فيما بعد أصبح الأمر يختلف. فقد عرف أن الطباعة لا تؤثر في قدسية القرآن ولا تؤثر في عدم ضبطه، بل ربما تكون الطباعة تضبط القرآن من حيث اللغة والشكل أكثر من الخطاطين. هذا الأمر تطور ودخل رويدا رويدا على العالم الإسلامي.
وروى أن السلطان محمود الثاني أراد أن يتعلم الخط على يد كبير من كبار الخطاطين الأتراك فكان يحمل الدواة للخطاط لكي يكتب بها وهو ساجد أمامه، لأن السلطان كان يعتبر أن هذا الكلام الذي تجري كتابته هو كلام الله”.
وتذكر عواضة أنه في مرحلة ثانية، حاول بعض مسيحيي الشرق في جبل لبنان أن يستقدموا مطبعة، ونجح الموارنة في قزحيا بتأسيس مطبعة، ويلفتنا المكان الذي أسست فيه وهو جبل بعيد عن أعين السلطنة العثمانية.
ويعرض شربل طراد- الكاهن في دير مار قزحيا الواقع في وادي قاديشا شمال لبنان، ومركز انطلاق الموارنة الأوائل- تاريخ المطبعة الأولى التي وصلت إلى الدير سنة 1585.
![]() |
الكاهن شربل طراد والدكتورة هلا عواضة ودكتور سماح مكارم وحديث عن الطباعة واشكالياتها |
ويفسر منع العثمانيين للطباعة بطريقة مغايرة لتفسير مكارم، وهو تفسير يطغى عليه التأثير الغربي المعادي للسلطنة العثمانية، ويقول: “علينا أن نتذكر أن الأتراك كانوا مسيطرين على المنطقة كلها وكانوا يحاربون كل ما له علاقة بالعلم الحديث حتى لا يتحرر هذا الشعب، ويقوم بثورة نهضة تطالب بالحرية. كان هدف الأتراك الاستعباد. وثانيا، النقطة المهمة هي طبيعة الأرض في لبنان وخصوصا في هذا الوادي الذي يضم المنحدرات القوية التي شكلت حصنا طبيعيا حتى تكون هذه المطبعة محمية، وكان الدير يضم حوالي 300 راهب، كانوا قديرين أن يدافعوا عن المطبعة نتيجة للمخابيء والمغاور التي كانوا يعرفونها ولا يعرفها سواهم، ويمنعون وصول المطبعة إلى أيدي الأتراك”.
وأوضح أن أن عدد الرهبان المتوافر أمن للمطبعة اليد العاملة المتخصصة وهم درسوا في روما وتعلموا اللغة السريانية.
وأفاد أن “هذه المطبعة حرفها سرياني، وكان الأتراك يناهضون اللغة العربية فكان على الرهبان أن يجدوا طريقة حتى يحافظوا على الارث الذي تحتضنه اللغة العربية، لذلك اخترعوا ما يسمى بالكرشوني، وهو كتابة اللغة العربية بالحرف السرياني. وعندما كان الأتراك يفتشون لم يلاحظوا أن هذه الكتب هي باللغة العربية، فكانوا يتركونها، فتمت المحافظة بهذه الطريقة على اللغة العربية”.
وتلفت عواضة إلى أنه لم يكن من المتوقع أن تطبع المطبعة باسطنبول كتبا بالحرف العربي، لكن الواقع أن أول كتاب بالحرف العربي طبع في مطبعة مار يوحنا الشوير، والكتاب الأول بالحرف العربي تم على يد الشماس عبد الله الزاخم، وهو كتاب “ميزان الزمان” الذي طبع سنة 1734، وهو يعتبر أول كتاب طبع بالحرف العربي”.
أثر الطباعة
وعن أثر الطباعة في الحضارة الحديثة، وقيمها ومفاهيمها تنقل عواضة كلاما لريجيس دويريه يقول: انظروا إلى لوثر ذلك الراهب الذي يشبه النبال المعتاد على رشق السهام، يشعر فجأة في تجويف كتفه بارتداد البندقية الحربية، فالطباعة حولت عالم اللغة إلى محرض، وفيما بعد قائد المدرسة إلى قائد عسكري، فالطباعة منحت الفكر قوة تغلغل لا مثيل لها، وزودت رجال الكتابة بقوة لم يسبق لها مثيل، وذلك بتوسيع منطقة نيرانهم ومضاعفة وتيرة إطلاقهم النار”.