فيلم “النخيل الجريح “يحلق بعيدا عن قرطاج السينمائي
منذ 46 دورة دأب مهرجان قرطاج الغنائي على أن يفتتح دوراته بعالم الفن و رموزه و بعروض موسيقية تنهل من معين الغناء و الرقص و الشعر .لكن دورته هذا العام جاءت مختلفة عن سابقاتها لتنهل من معين الكاميرا وتسبر أغوار تجربة سينمائية جديدة بإمضاء المخرج التونسي عبد اللطيف بن عمار الذي كحل أعين جمهور مهرجان الغناء بكحل السينما و عرض لأول مرة فيلم ” النخيل الجريح” الذي وحد في مستوى إنتاجه و تمثيله بلدين مغاربيين هما الجزائر و تونس .
إنها المرة الأولى التي يرفع فيها الستار على مهرجان قرطاج الدولي بفيلم سينمائي، يعرض على شاشة عملاقة، في الركح الروماني لقرطاج لتكتسب السينما في سنتها الوطنية هذا العام طعم المهرجانات الكبرى و تفوح من أركان المعابد الرومانية المحيطة بها رائحة الثقافة و الإبداع .
نخيل بنزرت الجريح كان إذا شارة انطلاق مهرجان الغناء في مسرح قرطاج العريق و بدل أن نرى هذا العمل السينمائي في دورة أيام قرطاج السينمائية التي تفصلنا عنها أشهر قليلة سبق عبد اللطيف بن عمار عرس السينما و خير أن يقحم فيلمه الجديد ضمن باقة من الفنانين الذي سيعتلون هذه الصائفة مهرجان قرطاج الغنائي من أمثال ماجدة الرومي و صباح فخري و ايروس رامازوتي …
النخيل الجريح يفتح صفحة من ماضي الستينات؟
قل و ندر أن شاهدنا في الماضي القريب أفلاما تاريخية تفتح صفحة من تاريخ تونس النضالي.لكن المخرج التونسي عبد اللطيف بن عمار استطاع من خلال شريط” النخيل الجريح ” أن يخدش حياءنا و جهلنا التاريخي بتساؤلات عديدة و أحداث ظننا أنها لم تعد تمثل لنا شيئا.
شامة بطلة الفيلم تبحث عن حقيقة والدها الشهيد الذي مات منذ ثلاثين سنة في ما يعرف بمعركة استقلال تونس عن الاستعمار الفرنسي.
دامت معركة الجلاء عن بنزرت بين قوات الاستعمار الفرنسي وبين الشعب التونسي بكل فئاته أربعة أيام ممتدة من 19 إلى 22 يوليو/ تموز 1961 التاريخ الذي صادق فيه مجلس الأمن الدولي على قرار يقضي بوقف إطلاق النار وأسفرت المعارك عن مجزرة رهيبة في صفوف التونسيين، حيث سقط عدد كبير من الشهداء.
إلاّ أن سلطات الاستعمار واصلت تعنتها وتمسكها بموقفها في المحافظة على مدينة بنزرت متحدية بذلك القرار ألأممي.
وقد أجبرت جهود قوى السلم في العالم التي وقفت مناصرة للقضية التونسية فرنسا على الدخول في مفاوضات مع الحكومة التونسية توصلت إلى اتفاق تم في 18 سبتمبر/ أيلول 1961 ينص على سحب كل القوات الفرنسية من مدينة بنزرت والعودة إلى مراكز انطلاقها.
وشرعت قوات الاستعمار في الانسحاب بداية من 29 سبتمبر/ أيلول 1963 ليكتمل الجلاء التام عن قاعدة بنزرت في 15 اكتوبر/ تشرين الأول من السنة ذاتها وهو تاريخ رحيل آخر جندي فرنسي لتعم الفرحة في ذلك اليوم بالحصول على الجلاء التام والسيادة الوطنية
تجد شامة نفسها صدفة في مواجهة كاتب يكتنفه الغموض يطلب منها طباعة ما يكتب فإذا بكل المعلومات المكتوبة و التاريخ المدون في مخطوطاته سكين غدر اتضح بعد ذلك أن بطل الفيلم الهاشمي عباس ،الذي هو في حقيقة الأمر الممثل التونسي ناجي ناجح، قتل بها والد شامة الشهيد.
و بين بحث شامة عن الحقيقة التاريخية و صراعها مع الهاشمي عباس الذي خان صداقة والدها تلتقي شامة برموز تلك الحقبة و ضحايا تلك المعركة من الذين نجوا من الموت.
و لا يتوقف سيل الأحداث هنا عند عبد اللطيف بن عمار بل يجعل شامة تتعثر في رحلة بحثها عن الحقيقة بقدر آخر لتنشأ بينها و ابن صديق والدها الشهيد علاقة حب بين سليلي نضاليين عايشا معا فترة معركة بنزرت بداية الستينات .و بين هذا وذاك تجد بطلة الفيلم شامة أو ليلى واز كما اسمها الحقيقي صديقة طفولتها الجزائرية نبيلة و هي الممثلة ريم تاكوشت و زوجها الفنان نور الدين أي الممثل الجزائري حسان كشاش ،بين هذه الشخصيات تنتقل شامة من فرد لآخر تبحث عن حقيقة موت والدها الذي لا تعرف قبره فقد تركها في سن ستة أشهر.
في كل لحظة من لحظات شامة ابنة الشهيد يتدفق التاريخ معلنا أن الحقائق التي وصلتنا من تلك الحقبة قد تكون حقائق مزورة و أن من يكتبون التاريخ أمثال الهاشمي عباس بطل الفيلم ربما كذبوا علينا و اخفوا جوانب أخرى تغطي عورات خيانتهم.
عبد اللطيف بن عمار، كشف لنا من خلال رحلة بحث شامة عن حقيقة موت والدها الشهيد، أن التاريخ لا يرحم الخونة الذي يكيدون للوطن و أن الذكريات الحزينة تخلق شخصيات مريضة مسكونة بالذنوب تحاول أن تهدم من حولها فقط لتنسى.لكن الهاشمي عباس الذي تخلى عن صديقه الشهيد لم ينس و عاش حبيس خيانته يحاول درء صدع التاريخ بالكذب على الحقائق و تزوير الأحداث.
النخيل الجريح يكشف النقاب عن عورات السياسة
حين تشاهد شريط النخيل الجريح لمخرجه و كاتب السيناريو عبد اللطيف بن عمار ،قد تستحسن فيه هذه العودة لمعركة طبعت ذاكرة التونسيين ،و قد يعجبك فيه ما يفتحه من تساؤلات حول مدى صحة ما نقل إلينا عن تلك الحقبة لكن في كل الحالات ففي كل لحظة من لحظات الفيلم يزرع عبد اللطيف بن عمار بشكل مركب و ضمني لغما سياسيا .
فعلاوة على الأبعاد الاجتماعية و التاريخية و الثقافية التي تجمع حضارتين مغاربيتين قريبتين ،يجعلك بن عمار في مواجهة حقائق سياسية تمنيت لو لم تحصل في ذلك الحين، فحرب بنزرت كانت خطأ فادحا.
تشعر «شامة» وهي ترقن المخطوط برغبة جامحة في الغوص أكثر فأكثر في أحداث حرب بنزرت التي فقدت فيها والدها العامل النقابي البسيط بالسكك الحديدية وأحد آلاف المتطوعين الذين ماتوا في الحرب ممن نسيهم المؤرخون وغفلت عنهم كتب التاريخ..
وقد تكون الأزمة السياسية الأخرى التي ورطنا فيها عبد اللطيف بن عمار دون إن يعلم ،و لعله يعلم،هو تنكرنا لرموز الوطن و نسياننا إياهم ،ففي إحدى اللقطات يسأل عون امن شامة ابنة الشهيد عن هويتها و ماذا تفعل في بنزرت ،تجيبه شامة مرتعشة ،لكنه لا يفقه رغم أنها ابنة شهيد ما تقول فهو لا يعلم حتما شيئا عن الشهداء ،بعد أن ضحى والد الفتاة بدمائه في معركة بنزرت يأتي عون الأمن ليسأل ابنه الشهيد ما تفعل بتلك الأرض التي سقاها والدها بدمائه؟
إنها مفارقة تطرح علينا أكثر من سؤال أولها ،اين نحن من ذاكرة من دفعوا دماءهم لنحيا و ننعم بما فيه نحن اليوم من رخاء ؟
| ||||||
اندماج مغاربي سينمائي
فيلم “النخيل الجريح ” إنتاج تونسي جزائري مشترك و في حديث الجزيرة الوثائقية مع المنتجة الجزائرية نادية شرابي بدت الأخيرة سعيدة بكل شيء لكن لا شيء يعلو سعادتها بأنها اكتشفت من خلال نخيل عبد اللطيف بن عمار طريقا لتعاون ثقافي سينمائي مغاربي صنع لحمة جميلة أنتجت عملا فنيا استحق عن جدارة أن يكون مستهل مهرجان قرطاج الغنائي.فنادية شرابي قالت أنها معجبة جدا بهذه البادرة الأولى لإنتاج تونسي جزائري مشترك و أضافت أيضا أن الدول الأوروبية التي التحمت بلدانها في أعمال فنية لم تعد أفضل منا فقد علمها فيلم “النخيل الجريح ” أن الشعوب المغاربية واحدة و دماؤها مشتركة و فنها ينهل من بعضه البعض .
أما الممثل الجزائري حسان كشاش الذي لعب دور العازف الموسيقار الذي يعجب بشخصية شامة ابنة الشهيد لأنه يشترك معها في تفاصيل حياتية فيقول”لقد اكتشفت من خلال فيلم عبد اللطيف بن عمار هذا التقارب التاريخي العريق بين عائلاتنا الجزائرية و العائلات التونسية “و بالفعل فلعل أقوى لحظات فيلم عبد اللطيف بن عمار تلك المعزوفة الموسيقية وسط الفيلم حين التقى الفنان الجزائري نور الدين مع زوجته الجزائرية ريم تاكوشت مع بطلة الفيلم شامة و مجموعة من رجال الفن و السينما و الشعر ليعزفوا أغنية اللحمة و الالتقاء في ليلة رأس السنة .
المخرج عبد اللطيف بن عمار “المهم ا ناحرك مياه التاريخ الراكدة”
في سؤال له عن المغزى من انجاز فيلم عن تلك الحقبة يصرح عبد اللطيف بن عمار “لست هنا لأجد حلولا للتاريخ أو إجابة عن حقائق ،حاولت من خلال “النخيل الجريح ” أن أحرك مياه التاريخ الراكدة و أثير حقبة منسية مازالت تحتاج لإجابات و تفسيرات و دراسات عميقة،ليست السينما تقديما لحقائق بل هي بوابة لطرح تساؤلات حتى و أن كانت متعلقة بحقائق تاريخية ربما تكون في جزء منها خاطئة، المهم إني تأثرت بتلك الفترة من الزمن و تناولتها و قدمتها للجمهور ليعيش أغوارها معي “
و بالفعل يجعلك فيلم” النخيل الجريح” في حيرة من أمرك لتطرح سؤالا كبيرا “هل حقا أن ما وصل إلينا من حقائق تاريخية هو صحيح أم أن هناك ممن دونوا ذلك التاريخ ممن كانت لديهم مصالح تزويره مثل بطل فيلم” النخيل الجريح” الهاشمي عباس؟
ينتهي الفيلم بسؤال و رغبة في العودة للتاريخ و النبش في ذاكرة رموزنا ، و سواء نجح عبد اللطيف بن عمار أو اخفق،و سواء مر على المسائل مرور الكرام أو غاص فيها ،و سواء نجح في المقامرة بممثلة جديدة هي ليلى الواز بطلة الفيلم أو لم يفلح، فحسبنا أننا خرجنا بعد أكثر من مائة دقيقة من السينما بحيرة و سؤال و رغبة في الغوص أكثر في تاريخ معركة بنزرت .