كيف يستفيد مهرجان دمشق من شعاراته السنوية

صلاح سرميني – باريس

في الدورة الماضية، السابعة عشر 2009، رفع مهرجان دمشق السينمائي الدولي شعار (دمشق سينما، ومكان)، وتجسّد في مُلصقه الرسميّ بشريطٍ سينمائيّ (أشبه بقضبانٍ حديدية) يعبرُ دروب الحارات الدمشقية العتيقة.
من حقّ أيّ مهرجانٍ في العالم اختيار التيمة التشكيليّة لمُلصقاته السنوية (بغضّ النظر عن قدرته على تجسيد روح المهرجان) معتمداً على صورةٍ فوتوغرافية، أو مرسومة يدوياً، تمّ تعديلهما رقمياً، أو حتى اللجوء إلى الأشكال التجريدية الخالصة .
مع مهرجان دمشق، لم يقتصر الأمر على ملصقٍ إعلانيّ فحسب، ولكنه ارتبط بتيمةٍ محددة من المُفترض، على الأقلّ، بأن تعكس اختيارات البرامج المُصاحبة، وبدونها، يفقدُ الشعار معناه، ويصبحُ مجانياً، وربما تُوصلنا الاجتهادات التفسيرية المُتسرعة، أو المُعمّقة إلى نتائج مُناقضة تماماً لما تسعى إليه إدارة المهرجان، أو يتوّجب علينا نسيانه، أو تجاهله، والاهتمام بالعروض بدون إرهاق أنفسنا بإسقاطاتٍ، وتحميل البرمجة أكثر من وظيفتها المُباشرة.
ومع ذلك، أتمنى بأن يستفيد المهرجان من تعميق خصوصيته السينمائية، والاستفادة عملياً من شعاراته السنوية، وربطها ببرامجه الجانبية، وفي حالة الدورة الـ 17 مثلاً، أصبح (المكان في السينما) تيمة رئيسية تُثير شهية النقاش، الجدل، والحوار، كما الحال عندما كانت “مسابقة أفلام من الإمارات” في أبو ظبي (حتى دورتها السادسة) تلجأ إلى برمجةٍ دولية تعتمدُ في غالبيتها على تيمةٍ سنوية :
السينما التجريبية، السينما الشعرية، سينما الطريق، سينما التحريك، هايكو سينما “الأفلام القصيرة جداً”.
فكرة (المكان في السينما) مُمتدةٌ باتساع السينما نفسها، ثريةٌ جداً، ومُحفزةٌ على الدراسة، البحث، والتمحيص الأكاديميّ، وبالمُقابل، مُفيدة، وممتعةٌ للمُشاهد المحترف، والجمهور المُتابع على السواء.
اللجوء إلى تيمةٍ معينة، وتجسيدها في البرامج المُصاحبة للمُسابقة، سوف يمنحُ البرمجة نوعاً من الهارمونية، ويبعدُ المهرجان عن سلبية تجميع أكبر عدد من الأفلام القديمة، والجديدة، وعرضها تحت عناوين كثيرة جداً، ويعفينا من التساؤلات عن أسباب اختيار تظاهرةٍ لأفلام فلليني بدلاً من أنطونيوني، نيكيتا ميخالكوف بدلاً من تاركوفسكي،…..
أدركُ أيضاً، بأنّ عدد الأفلام بدأ يتقلص بالمُقارنة مع الدورات السابقة (وهي خطوةٌ إيجابيةٌ، وحكيمة)، ومع ذلك، أؤكد بأنّ مهرجان دمشق السينمائي الدوليّ لا يحتملُ هذا الكمّ الغزير (والغير متجانس) من التظاهرات، والأفلام، حيث يتحول في كلّ دورةٍ إلى وليمةٍ كبيرة مفتوحة، وعامرة بالاختيارات، لا يلتقطُ منها الأكثر نهماً إلاّ عدداً محدوداً من الأفلام.
القدرات الجسدية، والذهنية للمحترف لا تتحمّل أكثر من أربعة أفلام في المهرجانات الكبرى مثل كان، برلين، لوكارنو،…. وثلاثة في المهرجانات العربية.
ولا يستطيعُ المُتفرج العادي مشاهدة أكثر من فيلميّن طويلين في اليوم، ومن الأفضل بأن يشاهد أفلام فلليني كلها بدل الوقوف حائراً بين عشرات التظاهرات السينمائية.
وإذا كان الهدف الأساسي للمهرجان جذب الجمهور المحلي إلى صالات السينما، وتقديم أفلاماً لن يتمكن من مشاهدتها خارج أيامه، فإنه من المُفيد بأن تتوزع تظاهراته على أسابيع السنة، ولا تقتصر فقط على العاصمة، ومن الأفضل بأن تنالَ المدن الأخرى حصة من بعض التظاهرات، وتوسيع الرقعة الجغرافية للمهرجان : تظاهرة أفلام فلليني في حلب، ستانلي كوبريك في حمص، آلان ديلون في حماه، أنجليك في السينما في الحسكة، السينما الأسترالية في القامشلي، مارلين مونرو في السويداء، سينما القارات الخمس في اللاذقية، فلسطين بعيون السينما في طرطوس،….

ملصق الدورة 17 للسنة الماضية

من جهةٍ أخرى، فإنّ إحدى المُهمات الرئيسية لأيّ مهرجانٍ في العالم هي عرض أفلام لن تدخل في دورات التوزيع التجارية، وإذا تفحصنا تظاهرات الدورة السابعة عشر، سوف نجد بأنّ معظمها صالحُ لأسابيع أفلام أكثر من برامج في مهرجانٍ سينمائيّ دولي، وبدورها، تنتقلُ من مدينةٍ إلى أخرى، أسبوعٌ واحدٌ في الشهر، سوف يجعل المُتفرج المحلي يتابع 12 تظاهرة في العام مصحوبة بـ 12 كتاباً مؤلفاً عن طريق نقاد سينما سوريين، وعرب، والتشجيع على التأليف، والتقليل ما أُمكن من الترجمة، وخلق حالة من الثقافة السينمائية لا مثيل لها.
تنطلقُ قراءتي هذه من مساندةٍ حقيقية لمهرجانٍ أحرصُ على حضوره قبل أيّ واحدٍ آخر، وأعتبره جزءاً “معنوياً” من مسيرتي النقدية، ورغبة صادقة بأن يصبح أكثر تميزاً، وتفرداً في برامجه المُصاحبة (وهي في شكلها الحالي تحتاجُ إلى المُراجعة) كي يصبح منبراً لدهشة الاكتشاف .
وإذا كنا نعتبرُ مصر “أم الدنيا”، فإنّ فرنسا “أمّ السينما، وأبوها”، وفي باريس وحدها بإمكاني مشاهدة ما يحلو لي من أفلام، ومابين العروض في الصالات التجارية للأفلام الجديدة، أسابيع الأفلام (وهي مهمة تتولاها الصالات نفسها)، التظاهرات الموسمية، والدورية، مقتنيات مكتبات الأحياء، والمهرجانات المحلية، والدولية، يمكن القول، وبدون مُبالغة، بأنني أمتلكُ إمكانية مشاهدة الأفلام التي تُعرض في المهرجانات العربية التي تعتمدُ اختياراتها أصلاً على مصادر سينمائية من العواصم الغربية (مؤسّسات، مهرجانات، وموزعين).
وهذا يعني، بأنني أتابعُ بعض المهرجانات العربية لفوائد أخرى لا تقتصر على مشاهدة الأفلام فقط، فكلّ مهرجان يضيفُ لي ثراءَ سينمائياً، معرفياَ، وإنسانياً لا تُحققه المُشاهدة المُفردة في إقامتي الباريسية(على الرغم من خطتي المُعلنة بالتوقف عن متابعة معظم المهرجانات العربية).
وهنا أنتهزها فرصة للتساؤل عن حقيقة كنتُ أشككُ فيها، وأعتبرها نسبية، تأكدت لي خلال متابعتي للدورة السابعة عشر لمهرجان دمشق السينمائي الدولي، فقد سمعتُ البعض يتحدث عن إمكانية العثور على أيّ فيلم سينمائيّ في محلات الفيديو التي تبيع أفلاماً مُقرصنة، وكنتُ أجدهم يتخلون طوعياً عن متابعة التظاهرات المُصاحبة للمُسابقة الرسمية بحجة توفرها في الأسواق، وأنا الساذج الباريسيّ المُحمّل بأطنانٍ من الأفكار حول قوانين حماية الملكية الأدبية، الفكرية، والفنية، اعتقدتُ بأنها ذريعة للابتعاد عن الصالات، والبقاء في المقاهي، وفناء الفندق، في المرة الأولى لم أصدق أحداً، ولكن، في لحظةٍ ما اصطحبني مخرجٌ شابٌ موهوب إلى أحد المحلات المعروفة في دمشق القديمة، كنتُ أرغب اقتناء أفلاماً لن يتوفر لي مشاهدتها في باريس، أدهشت طلباتي الباعة :
ـ هل تبحث حقاً عن أفلام هرقل، ماشستي، شمشوم الجبار، سميرة توفيق، دريد لحام، نهاد قلعي، وإغراء،…
ـ نعم، كل ما لديكم من أفلام فلليني، أنطونيوني، برغمان، تاركوفسكسي،…متوفرةٌ في باريس بطريقةٍ شرعية، ماعدا هذه الأفلام المنسية، والتي أرغب مشاهدتها من جديدٍ بهدف دراستها.
لم أعثر في دمشق على تلك الأفلام الخارقة، ولكن، كانت المُفاجأة، بأنني عثرتُ على 75 بالمائة من الأفلام المعروضة في الدورة السابعة عشر لمهرجان دمشق، ومُترجمة إلى اللغة العربية، والأكثر طرافة، تساءل صديقي عن وصول فيلم ” Antichrist” لمُخرجه الدانمركي “لارس فون ترير” (إنتاج ألمانيا، الدانمرك، فرنسا عام 2009)، وفي الزيارة الثانية ـ بعد يومين فقط ـ تصدرت نسخة مُقرصنة من الفيلم واجهة “الحانوت”.
هذا الأمر الطريف حقاً، والذي تعتبره الغالبية إيجابياً، أجده يشكلُ خطراً كامناً تعاني وسوف تعاني منه  البلدان العربية، وتدفع ثمنه غالياً جداً في صناعتها، وثقافتها السينمائية، فإذا تحدثنا عن المتفرج السوري فقط، نعرف بأنه هجر صالات السينما منذ زمن بعيد، ولأسبابٍ كثيرة منها، بأنها غير صالحة للمُشاهدة الآدمية، ومن ثمّ الاكتفاء بما تقدمه قنوات التلفزيون العربية الكثيرة جداً، وأيضاً إمكانية توفر الأفلام المُقرصنة، وقد تسبب هذا الأمر في تضخيم حالةٍ من التخلف البصريّ، فاستغنى المتفرج المحلي عن طقوس الفرجة الجماعية في صالات العرض لحساب المُشاهدة المنزلية لأفلام مسروقة، ومغشوشة بآنٍ واحد، وإذا تبيّن بأنه يستطيع اليوم شراء 75 بالمائة من أفلام كل دورة من مهرجان دمشق السينمائي الدولي، ومشاهدتها في أي وقت يشاء، سُرعان ما يتخلى عن المهرجان نفسه، وإن لم تتخذ السلطات المحلية في عموم البلدان العربية قوانين صارمة ضدّ القرصنة، سوف تصبح المهرجانات العربية بلا فائدة، وقتذاكَ، لا حاجة لنا للبحث عن الأسباب التي هجر المتفرج من أجلها صالات العروض التجارية.


إعلان