دور السينما فى غزة : ذكريات من الزمن الجميل

لا تزال ُ لافتة  ” سينما النصر ” معلّقة على ما تبقي من مبني دار العرض القديمة ، التى تحتفظ ُ برونقها الجميل، مرتكزة ً رصيف أحد الشوارع الرئيسية فى مدينة غزة، رغم مرور ثلاثين عاما ً على إغلاقها.
فسينما النصر هي واحدة من سبعة دور عرض سينمائية، أنشِأتْ في أوائل خمسينيات القرن الماضي، ويرتبط تاريخ إقامتها برئيس البلدية  آنذاك، الحاج رشاد الشوا، حيث كان قطاع غزة تحت الإدارة المصرية.
سينما ( الخضراء ) والتى صارتْ فيما بعد (سينما السامر) كانت أول سينما فى القطاع، ومن ثَمّ تعددتْ الأسماء، حتى نهاية السبعينات ، فكانتْ ( سينما الجلاء، سينما النصر، سينما عامر الصيفية، إضافةً إلى سينما الحمراء فى محافظة خان يونس الجنوبية، وسينما السلام وصابرين في رفح ) .

بدايات  السينما الفلسطينية

و عن حكاية السينما الفلسطينية ، تؤكد الوثائق التاريخية ، أنّ بداية السينما الفلسطينية تعود إلى الأخوين “لاما” (بدر وإبراهيم ) ، فقد هاجرت أسرتهم إلى تشيلي ، ليدرسا هناك الإخراج والفنون السينمائية، ويقرروا العودة إلى يافا قبل عام 1920، بآلاتهم و أفلامهم التجريبية، حيث كانتْ فلسطين واقعة تحت الانتداب البريطاني.
غير أنّ رحلة الأخوين “لاما”، توقفتْ على شواطئ مدينة الإسكندرية، و لمْ يُعرف على وجه التحديد الأسباب الحقيقية التى منعتهما للعودة إلى الوطن، لكنها تُرجح بالأحداث السياسية، و الثورات الفلسطينية التي اجتاحتْ البلاد آنذاك .

ابراهيم لاما

و يَذكرُ العديد من المخرجين الفلسطينيين، أن فيلم الأخوين لاما ” قُبلة في الصحراء”عام 1927  يُعتبر أول فيلم في تاريخ السينما العربية، لولا أن الفيلم المصري “ليلى” سبقه في العَرض بعّدة ِ أشهر.
إلا أنّ السينما الفلسطينية لم تنتشر بشكل كبير، و قد ذكر تاريخ السينما الفلسطينية أسماء المخرجين و المصورين المبتدئين الذين كان لهم أثر مهم فى الصورة السينمائية الفلسطينية، قبل نكبة 1948، و تهجير القرى و المدن الفلسطينية، ولم توجد تواريخ دقيقة تؤرخ للتجارب السينمائية الأولي لتلك البدايات .
أما دور العرض التي انتشرت فى يافا وعكا و القدس والضفة الغربية، وصولا إلى غزة، فكانت تستورد الأفلام المتنوعة لعرضها ، غير أن حرب النكسة 1967 ، أوقفت عمل السينمات مؤقتا بعدما انقطعت أوصال قطاع غزة مع مصر، حيث كانت الأفلام تصل إلى غزة عبر شركات توزيع مصرية .
لتعود دور العرض إلى العمل فى أوائل السبعينات، ولكن .. بعد الاحتلال الإسرائيلي للقطاع، ييتواصل عرض الأفلام السينمائية الآتية من الخارج ، مع خضوعها للرقابة الإسرائيلية، أو ما كان يُسمي بـ (الحاكم العسكري الإسرائيلي ) .
هكذا بقيت السينمات تعمل بشكل طبيعي ، حتى انفجار الانتفاضة الأولي عام 1987 .

مغلقة .. دون إشعار آخر !

تزامنت انتفاضة 1987 مع تغيّر اجتماعي كبير ، خلفته طبيعة الأحداث والأحزاب التي بدأت تتكوّر وتنمو مع الانتفاضة ، خاصة ظهور التيارات السياسية والدينية النَشِطة ، حيث تشكّل المجمع الإسلامي ، و بدأ توجهاته الوطنية بطريقة دينية محافظة، وقد اعتبرت السينما بأنها شكل من أشكال الترفيه الغير مناسب لوضع الانتفاضة، لكن ّ بعض الجماعات رأت أنّ السينمات ” فساد أخلاقي” ، حيث كان يُشاع بأنها تعرض أفلام إباحية فى بعض الأحيان. الأمر الذي جعل دور السينما فى مهب الريح، فتم إغلاق بعضها وإحراق بعضها الآخر .
المسرحي و الناشط الفنّي جمال أبو القمصان ، يؤكد انعدام الرقابة على الأفلام فى بداية الثمانينات ، خاصة وأن ارتياد السينمات لم يعد عائليا ً كما كان، فصارت تقتصر فقط على الشباب، كما أنّ التوجه العالمي للجنس و تناوله بانفتاح، أثّر على نوعية  الأفلام التي كانت تصل القطاع،  عبر الرقابة الإسرائيلية .
أما المخرج خليل المزيّن، فيجد أن طريقة معالجة الأمر بإغلاق السينمات وإحراقها ليس منطقيا، و كان الأجدر هو وضع رقابة لتحديد ما يعرض، دون أن يجزم المخرج المزين بحقيقة عرض أفلام إباحية فى السينمات .

و لم يخل الأمر من محاولة إحياء دور العرض بعد إغلاقها بالقوة فى الانتفاضة، حيث فكرّت مجموعة من الشبان المهتمين بالفنون المسرحية فى ترميم سينما ( الجلاء ) عام 1993، باتفاق مع الوريث الأخير للمبني، وبالفعل تم إعادة افتتاح سينما الجلاء لتقديم العروض المسرحية، وأقيمت حفلات غنائية وعروض مسرحية كثيرة، شارك فيها فنانون فلسطينيون من الضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 48، كان منهم : المغنية  ريم البنا، و الممثل والمخرج محمد البكري، و سهيل خوري والمغنية ريم تلحمي، كما عرضت بعض الأفلام السورية و الفلسطينية ، كأفلام المخرج ميشيل خليفة و رشيد مشهراوي .
يذكر المسرحي أبو القمصان الذي كان ضمن الجماعة التي افتتحت سينما الجلاء من جديد ، أن أحلامهم لم تلبث أن تبددت بعد عام واحد فقط ، حيث أعيد إغلاقها للمرة الأخيرة بضغط من الأحزاب الدينية ، إضافة إلى الديون التي تراكمت على المجموعة ، و قد كان الحديث وقتها عن اتفاق أوسلو و عودة السلطة الوطنية الفلسطينية إلى القطاع .
أما المخرج المزين ، فقد ارتبط بالسينما منذ كان صبيّا ً صغيرا ، يجمع المسامير القديمة بالقرب من الحدود المصرية في رفح، ليعدلها و يبيعها في سوق “الخردة ” ويوفر سعر التذكرة لحضور السينما ، و يشير المزين إلى أن الأفلام التى تعرض كانت أفلام مصرية وهندية، إضافة إلى الأفلام الصينية وأفلام ” موسليني “، الذي كانوا دوما يحاولون تقليد تسريحة شعره في ذلك الوقت، يتذكر المزين تلك الأيام بحنين جارف ، قائلا :
” لا أزال اذكر ذلك اليوم … عندما اكتشف أبي أنني في السينما مع أخي ، فغضب كثيرا، وجاء لسينما السلام، واخذ يصرخ، فهربنا وهو يركض وراءنا متنقلا بين الكراسي التي كنا نختبئ تحتها، لكن أبي شكا لصاحب السينما، مما اضطره لتوقيف الفيلم للبحث عنا، أما عقابنا كان في عدم الذهاب مرة أخري إليها … لكننا كررناها كثيرا ! “


إعلان