وثائقيان عن مزابل القاهرة وبؤس عيش زباليها!
قيس قاسم
عن مزابل القاهرة وزباليها شاهدنا، في وقت متقارب جدا! فيلمين وثائقيين. الأول أنجزته مي اسكندر والثاني الدنماركية ميكالا كروغ . الأول حمل عنوان “أحلام الزبالين”* والثاني جاء ضمن سلسلة أفلام وثائقية انتجتها شركة “دانيش دوكمنتري برودكشين، 2009” عن أربعة مدن هي: بومباي، شنغهاي، بوغوتا والقاهرة وعنونت هذه السلسلة ب “مدن في سرعة”. ولأن الفيلمين يعالجان نفس الموضوع فرضت القراءة المتوازية والمقارنة نفسها موضوعيا. فالمخرجتان ذهبتا الى ذات الأمكنة حيث يعيش ألاف من المصريين في مدن “زبالة”. مدن يقيمون فيها ويعملون على جمع وتدوير قمامة العاصمة، على مدار الوقت، وعنوان فيلم الدنماركية “القاهرة- مزبلة” يعبر بدرجة كبيرة عن حالتهم. لقد اختارتا مبدأ المعايشة الحية لهؤلاء البشر، الذين يزيد عددهم على 60 ألف مواطن، لتعطيا لعملهن حيوية ومصداقية أكثر، وان أختلفتا في طريقة تناول الموضوع. فميكالا حرصت كثيرا على بناء ما يسمى ب”الصورة المتكاملة” ولهذا وفرت لأغلب المعنيين بالمشكلة فرصة الادلاء بأرائهم، وأخذت نماذج متفرقة، ومختلفة منهم، لتشكل من خلالها صورة الواقع المطروح للبحث. على عكسها لجأت مي اسكندر الى الأسلوب “الدرامي” عبر اختيارها لنماذج من الزبالين ومرافقتهم لمدة زمنية، طويلة نسبيا، وثقت خلالها المتغيرات التي جرت على حياتهم، فأدخلت بهذا عناصر التشويق والحيوية على عملها. والجيد بالنسبة للمتلقي ان الفيلمين يشكلان تكاملا للموضوع في بعض جوانبه. “فالقاهرة- مزبلة” يركز على الموظف المصري طاهر حنفي، في شركة (آما أرب) الايطالية، والتي كلفت من بين شركات أجنبية أخرى بمعالجة مزابل القاهرة بدلا عن الزبالين المصريين لتزيد الدولة بهذا الاجراء معانات جديدة لمعاناتهم، فيما تدخل هذة الخطوة في “أحلام الزبالين” ضمن سياق تعرض فيه المشكلات والتعقيدات بشكل أوسع فتغدو جزءا بسيطا من الكل. لقد تابعت الدنماركية ميكالا كروغ من خلال الموظف المصري أصل المشلكة. فالتخلص من 10 ألاف طن زبالة يوميا يحتاج الى أنظمة عمل متقنة مصحوبة بتوفر شروط صحية والى وعي وشعور بالمسؤلية الجماعية الى جانب سياسات اقتصادية واضحة. وكل هذا مغيب في مصر الآن مما تسبب في اغراق القاهرة بفيض من المزابل. وفي ظل اختلال العلاقة السوية بين المواطن والدولة يغدو كل مطلب بالتعاون مع الأخيرة شبه مستحيل. ولذلك كانت مساعي طاهر “التوعوية” تصطدم دائما برفض تعاون الناس معه ومع موظفي شركته. وما زاد مهمته تعقيدا ان عمل الشركات الاجنبية التي يمثلها لم يحدث تغييرا في هذا المجال. فالقمامة أمام بيوتهم في ازدياد والطرق الحديثة التي أرادوا بها ابهار الناس؛ من سيارات حديثة لجمع القمامة ومراكز استلام الشكاوى تلفونيا لم تغير حال الأوساخ المتراكمة في أحيائهم.
![]() |
| طاهر حنفي |
لقد وجد طاهر نفسه بين مطرقة الناس العاديين المتضررين وبين مدراء الشركة العامل فيها، فهؤلاء لا يهمهم سوى الربح فيما الدولة تحاول الضغط عليهم ب “لين” يقترب من الخجل، بعد أن جاءت بهم بديلا عن الزبالين التقليديين. وفوق كل هذا كشفت كروغ ان هذة الشركات وبدلا من تدوير الزبالة كما كان يفعل سكان مدن المزابل المصرية فانها لجأت الى دفنها في باطن الأرض. لقد تسببت في كارثة بيئية ستظهر نتائجها المخيفة على الاجيال القادمة من المصريين دون شك! وعلى مستوى الدولة فأن اللقاءات التي أجرتها المخرجة مع ممثليها لم تخرج عن اطار التبريرات. فمصالح المستفيدين من العقود المبرمة مع الشركات الاجنبية أقوى من أي نقد يوجه الى عملها. والمفارقة التي يكشفها “القاهرة- مزبلة” ان الدولة تستقطع مع فاتورة الكهرباء مبالغ ثابتة مقابل تقديمها بعض الخدمات للمواطنين، منها؛ تنظيف الشوارع ونقل النفايات. ومع انعدامها الملحوظ يتولد على الدوام شعور عند الناس بان الدولة “حرامية وبتسرقهم”. وعلى هذا الخط يظهر حراك اجتماعي، جديد ومحدود، يتمثل بظهور أشخاص يقومون طوعا بتثقف الناس بحقوقهم وواجباتهم، ومنها رمي أكياس الزبالة في الحاويات المخصصة لها وسط الأزقة والحارات. وهنا تظهر أكثر تجليلات العلاقة المختلة بين المواطن والدولة، حين يرفضأكثر الناس القيام بهذة الخطوة السهلة، بل ويذهبون بعيدا في رفضهم حين يعارضون وضع أي من الحاويات بالقرب من منازلهم. فالروح الانتقامية واللاأبالية نجدها بوضوح حين يتعلق الأمر بالتخلص من النفايات، ناهيك عن استحالة قبول فكرة فرزها أصلا داخل بيوتهم. ان الوعي البيئي والصحي المتدني يظهر بجلاء في عمل “القاهرة ـ مزبلة” فطيلة عرضه نجد أنفسنا أمام حالة ميؤس من معالجتها مهما ارتفعت الأصوات المطالبة بها، فأذان الدولة والمستفيدين من “خيراتها” لا تسمع شكاوى الناس ولا تريد الاعتراف بالضرر الكبير الذي لحق بالزبالين المصريين حين منعوهم من جمع النفايات وتدويرها في مدنهم. انها مفارقة مدهشة، فعلى بؤس عيش هؤلاء يثمر عملهم فائدة للمجتمع لاتقدر بثمن، والتي تأتي غالبا على حساب صحتهم وحتى أعمارهم، كما جاء في نهاية شريط كروغ حين عرض حقائق مرعبة منها: أرتفاع معدل وفيات الأطفال حديثي الولادة بين الزبالين مقابل انخفاض حاد في معدلات اعمارهم. وبدلا من الاهتمام بهم وتثمين عملهم فان النظرة الاجتماعية للزبالين في مصر ما زالت متدنية ويشوبها الاحتقار المبطن وهذا ما ذهبت اليه مي اسكندر خلال معاشرتها لهم وقدمته فيما بعد بشكل مؤثر في “أحلام الزبالين” .
اتسم عملها بالحميمية والقرب من روح الوسط الذي صورته، وتجلى هذا بشكل واضح من خلال الموسيقى التصويرية لفيلمها وانتقائها الموفق للشخصيات، التي راحت تتابع تطورها بروية مدهشة. فالموسيقى حملت روحا فرحة عكست والى حد بعيد المناخ الشعبي المصري. ومن خلالها عكست شعورا بالايجابية في التعامل مع مادتها الوثائقية. ف”أحلام الزبالين” فيه جرعة من التفاؤل يفتقدها العمل الدنماركي، وفيه أيضا فهما عميقا لطبيعة وجوانيات الشخصية المصرية، ولهذا لمسنا عفوية الناس وهم يتحركون أمام كامرتها. لقد كانوا يتصرفون على سجيتهم فسهلوا بذلك وصول الفيلم الى مشاهديه. ولأن الشخصيات الرئيسية في عمل مي هم ثلاثة مراهقين يعيشون في حي المقطم مع عوائلهم ويعتمدون في عيشهم على تدوير الزبالة فقد أعطوا حيوية استثناية للفيلم. لقد كانوا يعبرون عن مشاعرهم بسهولة وصدق ويعكسون نظرتهم لأنفسهم وللمجتمع الخارجي الذي يستمدون خامة عملهم منه. ولهذا كانت أحاديث هؤلاء الشبان وغيرهم من أبناء الحي تجري غالبا حول نظرة الناس اليهم والكيفية التي يتخلصون بها من هذا العمل الشاق أو الإرتقاء به في أحسن الأحوال، ولهذا ظهرت حركة شعبية، وهذة المرة منظمة، لتحسين واقع هؤلاء تمثلت في تأسيس مدارس خاصة لتعليمهم أصول اعادة “تدوير الزبالة” و”فصل المنبع” وكلها عمليات تصب في خدمة البيئة. فالزبالون في مدنهم يدورون حوالي 80% من مزابل القاهرة. لا يطمرون شيئا في الأرض بل يعيدون صناعته.
![]() |
| أدهم |
وللحق فأن المشاهد سيصاب بدهشة من مهارتهم وقدرتهم على اعادة تصنيع النفايات. ويشترك في هذا العمل متطوعون من أبناء هذة المدن وأكثريتهم من المسيحيين، مثل الشابة “ليلى” التي تقوم بدور موظفة شؤون اجتماعية وممرضة في آن. لقد تعلم هؤلاء درسا حياتيا فحواه؛ انه وفي ظل غياب الدولة يغدو الاعتماد على النفس حلا لازما، ومن هذة الحاجة يظهر لنا الشريط بروز ما يسمى بجمعيات المجتمع المدني، وهي نقلة لا تقل أهمية عن أهمية الوعي البيئي الذي يظهر وأحيانا كثيرة عفويا من خلال عمل الزبالين أنفسهم. وعلى المستوى الاجتماعي يواجه سكان هذة المدن موقفا مسبقا وسلبيا من سكان المدن الأخرى، موقفا يفرض عليهم الانكماش والعيش في “غيتوات” هامشية. كل ذلك تعرضه مي أسكندر من خلال متابعتها الدقيقة للحياة اليومية للشبان الثلاثة، وعندما توفرت لها الفرصة النادرة، لمرافقة أثنين منهم حصلا على منحة مشاهدة وعمل في مدينة ويلز قدمتها أحدى المنظمات العالمية لمدرستهم، لم تفوتها. في هذه الرحلة تعرف الشابان على عالم أخر مختلف ؛ نظيف تتوفر للزبالين فيه كل أسباب العيش الكريم، عكس ما كانوا يحصلون عليه في بلادهم تماما! وحتى زمن طويل، وبعد نهاية الرحلة، سيظل أحدهم يتذكر تلك التجربة. لقد أنفتحت عيناه على عالم أخر؛ الزبالون فيه بشر حقيقيون. ربما أفادت هذة الرحلة مي اسكندر كثيرا ونقلت فيلمها الى مستوى أخر كانت المقارنة فيها عنوانا بارزا وصار الصوت المعترض على الواقع أعلى صدى من ذي قبل. لقد ساعدت عفوية الحوارات في عكس المناخ السياسي والاجتماعي الذي تعيشه مصر. وأفضل ما فيها انها جاءت منهم، ودون تدخل متعمد منها. فالناس في هذة الأحوال تشتكي أحوالها وبؤسها دون المصارحة في المسبب الحقيقي!. وتغدو أحلامهم البسيطة أكثر صراحة في التعبير عن واقعهم بل وتغدو معادلا موضوعيا لمطالبتهم بالعيش الكريم. فأحلام الزبال أسامة، 16 عاما، لم تتعدى حصوله على بدلة زبال كالتي يرتديها زبالو الشركات الأجنبية وأدهم 17 سنة، يحلم في ترك العمل يوما والحصول على بديل عنه يخرجه من هم هذة المدن. انها أحلام بسيطة، تكشف خلل الواقع وتبوح بسوء ادارة البلاد السياسية والاقتصادية وتدق في نهاية المطاف جرس الخطر عاليا، فأغنية “ديما مرزوقين نحنا الزبالين” لم تعد تكفي لاسكاتهم وقبول بؤسهم، وحتى لو قبلوا فالفساد وما يمسى بالخصخصة والانفتاح كلها سياسيات تذكر الناس يوميا ببؤسهم وتنغص عليهم عيشهم المر أصلا، وهذا ما عبر عنه الشباب، في أكثر من مرة، احتجاجا على اجراءات نقل مهمة جمع الزبالة وتدويرها الى شركات أجنبية معتبرينها تهديدا بقطع أرزاقهم. لهذا، ومع كل الروح الايجابية لعمل “أحلام الزبالين” فأن صرخته الداخلية كانت أعلى من موسيقاه وأغنياته الجميلة.
* أخذنا بهذا العنوان كما ورد في نشرات مهرجان دبي السينمائي أثناء عرض الفيلم في دورته الأخيرة وحصل خلالها على جائزة لجنة التحكيم الخاصة، أخذناه بدلا من “زبالون” كما جاء في الترجمة السويدية: “أحلام الزبالين” مسابقة المهر العربي – الأفلام الوثائقية.

