“في انتظار أبو زيد”…في مهرجان مرسيليا

من اللحظات المهمة التي سجلناها في المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي بمرسيليا (فرنسا) المعروف اختصارا ب “الفيد” (FIDMarseille) والذي واكبه موقع الجزيرة الوثائقية كمنبر عربي وحيد في التظاهرة من لدن كاتب هذا النص، هو الاستقبال الاستثنائي الذي حظي به الفيلم السوري اللبناني المشترك في المسابقة الرسمية الدولية بعنوان “في انتظار أبو زيد” للسوري محمد علي الأتاسي خاصة وأن عرضه جاء بعد أيام قليلة من وفاة الباحث المصري نصر حامد أبو زيد وما أثاره هذا المفكر المُجدد من أفكار سببت له مشاكل في بلده بمصر فهجره نحو المنفى.

لقد كان الجميع ينتظر الفيلم، ولم يخب ظنهم، لأن المفكر الراحل كان كعادته مثار جدل في خطابه وردوده وأيضا يدرك كيف “يلعب” لعبته الجماهيرية من خلال التلفزيون حتى يمرر أفكاره ويستهزئ بخصومه ويجادلهم ويظهرهم في صورة الذين لا يفقهون في ما يقولونه ماداموا يرددون المواقف والنصوص عن ظهر قلب بدون فهم واستيعاب ما يتفوهون به.

المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد

 
وبما أنه – أي المفكر نصر حامد أبو زيد – مقتنعا بفكره والبحوث التي أجراها والاستنتاجات التي خلُص إليها فلم يكن يجد بالتالي حرجا في المواجهة المباشرة معهم. وبذلك حاول تقريب الجمهور إليه معتقدا أنه يفكر بعيدا عن المُسلمَات وأنه تقدم بالجديد انطلاقا من مراجع أساسية في الفكر العربي والإسلامي. ولم يبخل بنقده على الغرب أيضا الذي لا يرى في الإسلام إلا ظواهر سطحية وليس عمقه بحيث تحدث عن المناقشات في الأوساط السياسية العُليا بأوروبا عن الحجاب والبرقع وترك الجوهر الفكري والسياسي.
كما أن “قصة” تطليقه في مصر من زوجته ابتهال يونس عُنوة ودون موافقتها وهي الأستاذة الجامعية الواعية والمسؤولة والراشدة على نفسها، أعطت بدورها للفيلم قوة درامية لم يستغلها “المخرج” جيدا بل ترك الميكرفون للسيدة ابتهال التي عبرت عن فكرها وتشبثها بزوجها واستهزأت بمن تجرأ عليها. وهذه الصورة الناطقة وجدت تضامنا وتعاطفا من لدن المشاهد الغربي في المهرجان الذي تتعدد فيه الفئات الجماهيرية أغلبها واعية بدور الفيلم الوثائقي.  

وعليه، فإن نجاح الفيلم يرجع أساسا وبالدرجة الأولى للراحل نصر أبو زيد إذ هذا الأخير هو الذي شحنه بقوته المعرفية وما ذكره بلسانه حول تعامله مع وسائل الإعلام، خاصة المرئية (التلفزيون)، وبالضبط المحافِظة والتقليدية إذ لا يمانع من المرور منها لنسفها ثقافيا من الداخل ردا على موقف المخرج الذي كان يحاول إقناعه بالعدول عن المشاركة في إحدى تلك القنوات، لأن “المخرج” يعتقد نفسه أكثر ذكاء و”جذرية” و”نضالية” لكن في الواقع يريد “سرقة” النجومية التي يتمتع بها المفكر الراحل. لقد كان “المخرج” يظهر ويختفي لأنه كان له دور الصحفي المُستجْوِب للعلامة كما لم يكن “المخرج” محايدا في علاقته بنصر حامد أبو زيد أو بالموضوع عامة.
كان الراحل نصر حامد أبو زيد هو المبتدأ والخبر في الفيلم. ليس كموضوع رئيسي فحسب أو كمُستَجوَب فقط وإنما نجازف بأنه هو “المخرج” الحقيقي إذ نبحث، عند تعمُقنا في المحتويات السينمائية للفيلم، عن المخرج المفترض الذي قد يضيف شيئا في اجتهاده الفني لنصل إلى نتيجة يؤكدها لنا الفيلم بأن المخرج لم يكن أكثر من شخص يجري استجوابا ويلقي أسئلة ليس إلا. فلو لم يكن المفكر الراحل يدرك – كما قلنا سلفا – دور الكاميرا في إشاعة مواقفه لما عرف الفيلم ذلك النجاح الذي شحنه بقوة شخصيته وأفكاره بل كنا سنكون أمام برنامج تلفزيوني حواري عاد جدا لصحفي مبتدئ. وعليه فلا يمكننا القول بوجود “مخرج” فعلا لهذا الفيلم فالانتماء الحقيقي هو للمفكر الراحل الذي سحب البساط من صحفي أراد أن يصبح مخرجا فلم يفلح.

تعاطف الجمهور الفرنسي مع ناصر أبو زيد وأفكاره وتصريحاته ومع زوجته ابتهال يونس وليس مع “الفيلم” الذي يفتقد لمقومات “الإخراج” السينمائي بعيدا عن الصورة التقليدية للتلفزيون لذا فإن المضمون انتصر على الشكل وغطى على مختلف العيوب التقنية وأنقذ “المخرج” ومنتوجه الذي هو في بورتريه تلفزيوني فقط. إن حسن النية وحدها لا تصنع أفلاما جيدة. وتبنّي أفكار المفكر نصر أبو زيد الغنية بالبحث والتجديد غير كاف لتعطي المشروعية السينمائية لكل من أخذ كاميرا ثم التقط بعض “الصور” لأبي زيد فنقول له “أمين”. إن مفكرنا يستحق أكثر من ذلك بكثير.

المخرج أثناء تسلمه للجائزة

إن محتوى الفيلم – وليس غيره – هو الذي أهله لكي يحصد جائزتين أساسيتين من المهرجان المذكور (الفيد بمرسيليا) وهما الجائزة الدولية التي تحمل اسم “جورج بوريكراد” في فقرة المسابقة الدولية وكذا جائزة “ميدياتيك”. وقد ترأس اللجنة الدولية المخرج الموريتاني عبد الرحمن سيساكو بينما لجنة ميدياتيك تتكون من 5 أعضاء من ممثلي المكتبات العمومية المحلية. 


إعلان