“عبر الموانيء”.. ذاكرة عامرة بمشقة الاغتراب

سعيد أبو معلا

في المعرض الفني المقام في متحف المقتنيات التراثية في جامعة بيرزيت يشد الزائر فيلما وثائقيا مختلفا، الصوت الدافئ باللغة الانجليزية لذلك الفلسطيني المتعب برفقة صور لم تراها العين مطلقا تدفعاك للوقوف أمام الشاشة الصغيرة التي تعرض الفيلم بشكل يومي، تجعلاك تتسمر محاولا فهم سر هذا الفيلم الذي هو أحد مكونات معرض فني عن مدينة رام الله يحمل عنوانا على شكل سؤال وبرفقته علامة تعجب.
هنا تحديدا سيكون حديثنا عن المعرض أحد عتبات دخول عالم فيلم الفنان الفلسطيني –الأمريكي راجي كوك Rajie Cook  الذي يحمل اسم “عبر الموانيء” Pastports.

رام الله.. الأكثر فُتنة؟!
معرض “رام الله.. الأكثر فتنة؟!” هو عبارة عن نقد ذاتي لصراع رام الله على لقب “الأكثر فتنة” من بين المدن الفلسطينية الأخرى، فهو بحث وتساؤل عن التناقض الذي تعيشه المدينة بين الماضي والحاضر، وحالة من التحاور في التاريخ الاجتماعي والحداثة التي تعيشها مدينة رام الله حالياً .
فرام الله اليوم هي مزيج من شعور النقمة والنعمة في آن واحد، هكذا يشعر الكثير من سكان المدينة الاصليين الذين هاجر أغلبهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية خلال المئة سنة الماضية، والمعرض يأتي ليحكي حالة التشويش الذي تعيشها الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية في القرية/ المدينة، أي “القرية” التي تركوها وراءهم بفعل التغير الكبير الذي تعرضت له المدينة في العقود الأخيرة.
رام الله اليوم هي أشبه بمدينة معولمة، دبي صغيرة كما يحلو للبعض أن يصفها، تختبر في لحظاتها الراهنة تغيرات سريعة في تعدادها السكاني واقتصادها وفي الطفرة العمرانية التي لم يسبق لها مثيل، رام الله اليوم تشهد هذا التغير في المكان والمشهد والبيئة الطبيعية، في نمط اللباس، في أساليب المعيشة، في السلوك وفي طرق المخاطبة… وماضي هذه المدينة القريب والبعيد هو سبب رئيسي في صورة واقعها اليوم، وهو ماضي كان لموضوع فيلم “راجي كوك” سببا في مستقبلها الحالي وان كان المستقبل أمرا لا يتعرض له الفيلم لكنه ينقل لنا صور ذلك الماضي البعيد الذي قارب الجميع على نسيانه.
“عبر الموانئ”، الشريط الوثائقي، يأتي في سياق ذلك/ حالة تذكر، محاولة جادة وطموحة لتقديم تجربة ممن لم يستمر في العيش في رام الله القرية وآثر الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وهي هجرة تستمر منذ أكثر من مئة عام، وهو ما أثمر أن أصبح سكان رام الله يشكلون المجتمع الأكثر عدداً من بين مجموعات المهاجرين العرب في أمريكا الشمالية.
في العمل يروي المخرج بحميمية وعبر سرد يعتمد على الصورة الفوتوغرافية والتذكر الذي يقوم به الراوي الابن/ المخرج في عملية استرجاع لرحلة طويلة مليئة بالأحداث والأماكن والأشخاص بتفاصيل مذهلة وقيمة بصور مؤثرة تقدم مشقة الهجرة والأغتراب، حيث توثيق رحلة والد المخرج راجي كوك من رام الله وإلى الولايات المتحدة الأمريكية في العام 1906.

راجي ركوك

يجعلنا لفيلم نشاهد قصة والد المخرج “نجيب عيسى كوك” المولود في فلسطين في العام 1886 حيث يأخذنا الشريط في رحلته والتي استغرقت في مرحلتها الأولى ثلاثة عشر سنة عمل فيها بائعاً متجوالا في كل من فيلاديلفيا، وبنسلفانيا، وشيكاغو، وإلينوي، ومن ثم عاملا في منجم في ولاية ميسوري، وعامل في دائرة تخزين الأوراق المالية في شيكاغو، وموظف سكة حديد، وفي بناء سكك الحديد في إلينوي ومن ثم عودته إلى رام الله مع أخيه بولص في العام 1919، وزواجه حينذاك من جليلة طوطح، ومن ثم عودته برفقة زوجته للولايات المتحدة في العام 1927، حيث يربيان عائلتهما المكونة من خمسة أطفال: ليليان، راجي،جوليا، وديع، إدوارد.
إنها النتيجة لكن الطريق كان عامرا بالتعب ومشقة الاغتراب التي يجود بها صوت الراوي والصور التي يستثمرها بنى الفيلم لتصبح فيلما بطول 45 دقيقة.

“خدني ع بلادي”
يبدأ شريط الصور من جواز سفر (بسبور) قديم يحمل المعلومات الشخصية لنجيب كوك وذلك على أنغام أغنية فيروز “نسم علينا الهوا” التي دوما في حضرت في أعمال فنية غالبا ما تستمد منها معاني مكثفة من الشوق والرغبة بالعودة للديار، ومن ثم نذهب إلى القدس عام 1886 حيث ولد “نجيب كوك” حيث تأخذنا الصور الفوتوغرافية (بالأبيض والأسود) إلى حيث تربى وعاش في رام الله إلى أن قرر الذهاب إلى أمريكا عام 1906.
يخبرنا الصوت الدافء (لراجي/ المخرج/ الرواي) أن الأب عمل تاجرا حيث كان يتعامل مع البدو الذين يقصدون مدينة القدس للبيع والشراء حيث كان يقرضهم نقودا ويردون له بدلا منها القمح والماشية، ومن ثم يخبرنا أنه كان لجدته مخزنا بالقرب من رام الله حيث كان الأهالي يشترون منها المواد الغذائية ويدفعون لها بيض الدجاج، وان والده كان يذهب مع جده على الحمار لبيع البيض هناك، لكنه ما لبث أن غادر الى القدس ليعيش هناك مع أخته بعد موت جده (عام 1898) حيث عمل دليلا سياحيا لمبشرين مسيحيين إلى أن قرر الذهاب إلى أمريكا.
انطلق الأب نجيب مع مجموعة من أصدقائه بنقود قليلة من ميناء يافا على متن يخت أقلهم الى ميناء مارسيل الفرنسي، ثم انتقلوا إلى باريس، وقرروا قطع القناة الانجليزية للوصول الى ميناء دوفر، فلندن وميناء ليفربول ثم هيلوفاكس في كندا، وبعد ذلك الى مدينة نيويورك ثم فيلادلفيا وبافلو، وبعد ذلك شيكاغو وبطرس بيرغ في بنسلفانيا وسانت لويس في ولاية ميزوري بينمورا، حيث مرض الأب في بطرس بيرغ ببنسلفانيا ونام في المستشفى ثلاثة أسابيع، ليعود بعد ذلك إلى شيكاغو ومن ثم ينتقل إلى الينوي حيث عمل في سكة الحديد.
ومن ثم عاد الأب إلى شيكاغو مرة أخرى حيث عمل في مخزن “مارشال فيلد”، ثم فتح مطعما لمدة ثلاث سنوات كان قد اشتراه من صينيين، ثم إنتقل بعدها لبيع الملابس والأغراض المنزلية ثم استقر به المطاف في نيويورك.
وبعد سنوات من التعب والتنقل والعمل المليء بالصعوبات وعدم الاستقرار قرر الأب وأصدقاءه الزواج في رام الله، حيث يضعنا الفيلم في طريق العودة الأولى إلى أن وصلوا من يافا إلى القدس إلى رام الله حيث قرروا الزواج فجأة وأقاموا حفلا جماعيا ضم 13 عريسا تخلله الرقص والغناء والدبكات والولائم المكلفة، حيث تزوج الأب من “جليلة طوطح”.
بعد الزواج عثر الأب على عمل في دائرة الصحة برام الله مفتشا في دائرة المياه براتب قدره 10 دولارات شهريا، لكنه لم يستمر فيه حيث قرر العودة الى أمريكا في عام 1920، فاقترض 30 جنيها من اخته هيلين وغادر بمفرده تاركا زوجته مع أهلها إلى أن عاد وأخذ زوجته معه 1927 حيث عاش فترة في بروكلين ثم انتقل إلى نيوجرسي حيث أنجبا  خمسة أبناء كان أحدهم “راجي”.

لقطة من الشريط حيث قبر ركوك الاب

هنا يخبرنا الأبن/ المخرج عن لحظات والده الأخيرة، فينقل لنا قلقه وهو الذي توفي وهو يدق أذنة على المذياع مستمعا بحرص، أملا في أخبار عن تغيير في وطنه ومعاناة شعبة تحت الاحتلال، لكنه الحلم الذي يغلق الفيلم عليه دون أن يتحقق بعد أكثر من 30 سنة على وفاة الأب.

سرد بصري وحميمي
الشريط هو قصة إنسانية عن مهاجر فلسطيني بتفاصيل قيمة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، حيث ينقل لنا الرواي أدق التفاصيل الحياتية من حيث الواقع الاجتماعي والاقتصادي وعلاقات الناس وصعوبات السفر والعلاقات التي تنتج عنها وواقع الهجرة وصعوباتها وتكاليفها الباهظة وأحلامها ومسبباتها، إضافة إلى الحياة في أمريكا قبل مئة عام، وانطباعات الناس هناك وعلاقاتهم المعقدة…الخ.
ونحن نشاهد الفيلم عن عائلة كوك ندرك أن تلك الحكاية الفردية المليئة بالتعب والجهد والغربة تنسحب كثيرا على غالبية المهاجرين الفلسطينيين وغير الفلسطينيين من سوريين ولبنانين إلى بلد الأحلام باختلافات تقل أو تكثرة.
كما أن الصور ذاتها التي نقلها الفيلم تقول أن حضور الفلسطيني في الولايات المتحدة الأمريكية كان قديما وربما مع بدايات بناء بعض المدن الأمريكية، التي كان لليد العربية دورا كبيرا في بنائها والنهوض بها وتعميرها، وما ذاكرة كوك المتعبة إلا دليلا حيا عليها، حيث كان أولئك المهاجرين مصرين على البقاء ومتنقلين من مدينة لأخرى رغم الظروف الاقتصادية الصعبة والانهيارات ومسلسل الخسارات الكثيرة التي كانت تعيش أمريكا في ظلها قبل مئة عام ويزيد.
الشريط اعتمد طريقة فنية مناسبة لتوصيل رسالته ونيل هدفه التوثيقي المهم، وهي طريقة جاءت ربما لتتناسب مع ظروفه الانتاجي، الصور بالأبيض والأسود التي اتكأ عليها الفيلم حققت هدفه ودفعتنا لنرى أمريكا اليوم قبل مئة عام بشوارعها وساحاتها وسكك حديدها ومطاعمها ومقاهيها، فيما السرد الذي استرسل به المخرج كان حيا ونابضا بالمعلومات والتفاصيل وهو ما يدلل على ذاكرة بلاتينية تمكنت من تذكر تفاصيل ربما لا يمكن ان توجد في كتاب أو شريط أخر.
إنها ذاكرة الابن الذي شارف على الـ 80 عاما التي حملها عوضا عن الأب الذي رحل عام 1980، ومع ذلك نسمع في الفيلم صوتا ثانيا يطارد الراوي ويحثه على التذكر والانتاه والانعطاف والتأكيد، أنه صوت المحاور الذي غاب في الفيلم وكأنه لم يكن موجودا في جلسة الاعتراف والتذكر بكل ما تحفل من تعب وخوف ووجع ونجاحات.
والصور التي تم استقائها من أرشيف كثير من المكتبات الأمريكية  كانت تظهر لتؤكد ما يقوله هذا العجور/ الفنان/ المتذكر بالإنابة.. إنها صور تقول الكثير وتنقل تاريخا بأكلمه، وهي مع كلام راجي تدفعنا لفعل التخيل الذي يمنحها حيوية وثراء، حيوية تتجاوز حكاية مهاجر لبلد الأحلام لتكون وثيقة بصرية تؤرخ لمرحلة مهمة من تاريخ رام الله بناسها وعائلاتها بمقدار ما تؤرخ لمرحلة موازية من تاريخ أقوى دولة في العالم.


إعلان