“كلب أندلسي”.. قراءة دموية في فيلم سوريالي
“سينما الدماء” (Cinéma gore) هي نوع فرعي من أفلام الرعب والهلع تتسم بالمشاهد الدموية المروعة، والصريحة للغاية، وفيها تخرج الأحشاء من البطون، وتتقطع أجزاء الجسد. (1)
وعلى عكس الهدف الذي اعتمدته “موسوعة ويكيبيديا” باللغة الفرنسية، لا يتأتى الإعجاب بها من مشاهدتها أو إدمانها أو من الرغبة بالضحك والتسلية أو حتى الاشمئزاز منها، وإنما من دراية مسبقة بطبيعتها وغاياتها وكرمها في تقديم وجبة شهية مكونة من حساء دماء ساخنة، مختلطة بقطع عظام متكسرة، وبجانبها كمية وافرة من اللحوم البشرية الطازجة.
وتتشارك بعض اللغات الأوروبية القديمة في تفسير كلمة “غور” (Gore)، حيث يحوم معناها حول مادة لزجة فيها وساخة وقرف وبؤس وازدراء وقذارة وتقزز.
وفي اللغة الإنجليزية، كانت حتى وقت قريب تعني الدماء المتفجرة من أجساد الجنود في ساحات المعارك، وهي تشير اليوم إلى دم متفجر ومتعفن ومتخثر.
“تعصب”.. أول محاولة لسينما الدم وقِطَع اللحم البشري
على الأرجح، يعود تاريخ قطع اللحم البشري في السينما إلى عام 1916 مع الفيلم الأمريكي “تعصب” لمخرجه “ديفيد وارك غريفيث” (1875-1948)، حيث تضمن بعض المشاهد الدموية، ومنها حالتان من قطع الرؤوس، ورمح يخترق ببطء البطن العارية لأحد الجنود ليسيل الدم من الجرح بغزارة. ولاحقا أظهر “غريفيث” ومعاصره “سيسيل دو ميل” (1881-1959) مجازر واقعية. (2)
وبسبب الرقابة التي فرضت على هذه المشاهد في بداية العشرينيات، توجّب على السينما الانتظار طويلا قبل أن تظهر الدماء والمذابح على الشاشة من جديد.

اختيرت كلمة “السوريالية” تكريما للشاعر الفرنسي “غيوم أبو لينير” (1880-1918) الذي كتب قبل موته “دراما سوريالية” بعنوان “أثداء تريسياس”. وفي بيانه الأول اقترح الشاعر الفرنسي “أندريه بروتون” (1896-1966) تعريفا للسوريالية على النحو التالي:
هي تلقائية عقلية صافية، نقترح من خلالها أن نجسد -لفظا أو كتابة أو بأي وسيلة أخرى- الأداء الفعلي للتفكير، بإملاء الفكرة في غياب أي رقابة يمارسها العقل، وبصرف النظر عن أي عقبات وموانع جمالية أو أخلاقية. (3)
السوريالية.. لغة اللا حدود
ويمكن اعتبار “كلب أندلسي” واحدا من أوائل الأفلام السوريالية في تاريخ السينما، وقد حظي بشهرة كافية غطت على فيلمين آخرين أُنجزا في الفترة نفسها تقريبا هما “نجمة البحر” لمخرجه الأمريكي “مان ري” (1890-1976)، و”القوقعة ورجل الدين” لمخرجته الفرنسية “جيرمين دولاك” (1883-1942)، وجعلنا ننسى كذلك الأفلام الفانتازية للفرنسي “جورج ميلييس” (1861-1938) التي أنجزها في بدايات اكتشاف السينماتوغراف.

وقد حصل “كلب أندلسي” على كافة التفسيرات النفسية، وكُتب عنه بكل اللغات صفحات تستغرق قراءتها أضعافا مضاعفة من مدته الزمنية (16 دقيقة)، وأخذه المؤرخون والنقاد والمحللون النفسانيون على محمل الجد أكثر بكثير من مخرجه الإسباني “لوي بونويل” (1900-1983) وشريكه في كتابة السيناريو الرسام “سلفادور دالي” (1904-1989)، فلم يكن الفيلم -بالنسبة لهما- أكثر من لعبة متبادلة مولتها والدة المخرج نفسه. ولم يدرك العبقريان –وقتذاك- بأنهما يضعان اللبنات الأولى لحركة جمالية وفكرية سوف تؤثر على كافة الفنون والآداب والمعارف الإنسانية.
وفي الحقيقة، تضمّن الفيلم كل شيء، ولا شيء على الإطلاق، ويحتمل كل التحليلات الممكنة وأضدادها، وإحداها تلك التي أشار إليها الناقد السينمائي الفرنسي “فيليب روييه” صاحب كتاب “السينما الدموية.. جمالية الدم” (Le Cinéma gore.. Une esthétique du sang)، حيث يعتبر روييه –تندّرا ومبالغة وتحريضا لطيفا- بأن “كلب أندلسي” أول فيلم دموي في تاريخ السينما، لأنه يحتوي على بعض مكوناتها وملامحها.(4)
جريمة في ليلة مقمرة.. أيقونة سينمائية لأفلام الرعب
يخضع البناء المونتاجي في أفلام الدماء إلى عملية متبادلة بين اللقطات العامة والقريبة، كي يشاهد المتفرج عن قرب تفاصيل تتكشف معالمها تدريجيا (وسوف أعفي نفسي ما أمكن من الإشارة إلى أحجام اللقطات).
يبدأ “كلب أندلسي” باليد اليسرى لرجل ضخم (“بونويل” نفسه) تسند مشحذا على المقبض البيضاوي لباب غرفة، واليد اليمنى تشحذ باحترافية موس حلاقة.
الرجل يدخن وينظر إلى الأسفل، وتهتز كتفاه مع حركة يديه، ويكمل مهمته ببرود شديد، ثم يتوقف ويلمس ظفر إبهامه بالموس ليستشعر حدته.

بعد ذلك يخرج إلى الشرفة، ويسند يديه على حافتها ويرفع رأسه ناظرا إلى الأعلى حيث السماء معتمة يضيئها قمر مكتمل وثلاث غيوم طولية نحيفة تتحرك من اليمين إلى اليسار.
يوحي هذا المشهد الافتتاحي بترتيبات التحضير لارتكاب جريمة في ليلة مقمرة، وقد أصبح فيما بعد “أيقونة سينمائية” لأفلام الرعب والهلع.
وسوف أتجاوز التقنية التي لجأ إليها “بونويل” باستخدامه عناوين مكتوبة على الشاشة يحدد فيها أزمنة الأحداث، ولكنه في الحقيقة كان يخلطها موحيا بأنه يقص علينا حكاية مسلية على طريقة الجدّات، وقصص الأطفال. وحالما يستسلم المتفرج لهذه الخدعة ويرتخي في مقعده، سينتفض فعليا ومجازيا عندما يقدم له لقطة كبيرة لوجه امرأة هي “سيمون مارويل” (Simone Mareuil) وهي هادئة ومستسلمة تماما لقدرها السوريالي، حيث يقف الرجل خلفها ويلف يده اليسرى حول رأسها، ويفتح جفني إحدى عينيها، لتظهر يده اليمنى، وتمرر الموس الحادة أمام عينها المفتوحة.
ومع هذا المشهد، تُكمل الغيوم الثلاث حركتها، لتتموقع الأولى في أعلى إطار الصورة، والثانية أقل طولا منها في وسطها، والثالثة بنفس طول الأولى في أسفلها، ويتوافق التكوين التشكيلي مع الرموش العلوية والسفلية لعين بشرية، لنتعرف على جمالها الدموي في لقطة تالية أكبر حجما من سابقتها عندما تشرطها الموس بتمهل مرضي.
لقطة مرجعية.. مشاهدة العنف بطريقة مختلفة
يجب التذكير بأن المتفرجين الأوائل للسينماتوغراف أصابهم الهلع عندما شاهدوا على الشاشة -ولأول مرة في حياتهم- قطارا يدخل إلى محطة “لاسيوتا”(5) ويتقدم باتجاههم. فكيف يكون الحال مع جمهور نهاية العشرينيات أمام سكين تذبح عينا؟! حتى وإن اكتشف المتفرج الصامد -الذي لم يغمَ عليه بعد- بأنها تخص رأس عجل استخدمه “بونويل” لهذا الغرض. ومهما كانت الخدعة المونتاجية متقنة أو مصطنعة، فإن أصحاب القلوب الضعيفة والمشاعر المرهفة لن يتحملوا ذلك الاعتداء البصري.

ومنذ تلك اللحظة، التصقت تلك الصورة في الذاكرة السينمائية، وتحولت إلى “لقطة مرجعية”. فقطع العين بهذه الطريقة الجراحية وخروج مادة لزجة منها؛ من أكثر اللقطات بشاعة في السينما، ومن يشاهدها بعينين مفتوحتين على آخرهما وبأعصاب باردة، لن يتخلص من تأثيراتها النفسية والمعنوية.
إنها تتوجه مجازيا إلى عين المتفرج. وفي اللحظة التي تتحرك الموس الحادة على مقربة من عين المرأة، سيغض المشاهد البصر ويكز على أسنانه قرفا. وفي تلك اللحظة بالذات، تخترق سحابة دقيقة القمر المضيء المكتمل متوافقة مع حركة الموس الحادة، وفي اللقطة اللاحقة القريبة جدا تشرط العين، وتحيلنا فورا إلى أفلام الدماء الأكثر بشاعة.
لقد أقدم المخرج نفسه على تلك الفعلة الشنيعة، وربما أراد أن نشاهد الفيلم بطريقة مختلفة، تكون مؤلمة ودامية، فنتخلى قسرا عن مشاهدة المألوف في حياتنا اليومية، ونغوص في اللاوعي ونغرف منه صورا متخيلة أو حُلمية، تحوم في داخلنا، وتعكس رغباتنا وغرائزنا.
كف مقطوعة.. فانتازيا تحيل إلى عالم متخيل
وبعد ثماني سنوات، يظهر رجل آخر هو “بيير باتشيف” (Pierre Batcheff) يقود عجلة هوائية، ويحمل صندوقا مخططا، يقع أمام منزل المرأة، ويرتطم رأسه بالرصيف دون أن تسيل منه الدماء.
تجلس المرأة في غرفتها تتخيل الرجل الذي مات منذ لحظات وهو يبحلق في كفه، فتتطلع إليه بقلق لتنهض من كرسيها وتتوجه نحوه، وينظر الاثنان إلى كفه المثقوبة والمليئة بالنمل، ويتبادلان نظرات الدهشة والاستغراب.

ثم ينتقل “بونويل” من المشهد السابق إلى اللاحق عن طريق لقطة كبيرة لحيوان بحري صغير كروي الشكل يستقر على رمال الشاطئ.
وقد قادني الفضول وحده إلى توقيف الصورة، وكانت المفاجأة رؤية صورتين متداخلتين الواحدة فوق الأخرى، نتج عنهما صورة ثالثة، وفيها نرى رأس الفتاة المخنثة “فانو ميسا” (Fano Messan) (التي سنتعرف عليها فورا) يشبه بؤبؤ العين، بينما، وبفعل تأثير اللقطة المأخوذة من الأعلى؛ تحوّل كتفاها إلى مساحة بيضاء تحيط به، وتبدو أشواك الحيوان البحري مثل الرموش المحيطة بالعين.
وهنا أتساءل، هل هي الصدفة التي قادت “بونويل” لوضع هذه اللقطة الاعتراضية بين مشهدين، أم لاحظها بدوره خلال المونتاج (تأثير يحدث على شاشة أجهزة المونتاج القديمة عندما يتوقف الشريط السينمائي عند الحدود الفاصلة بين لقطتين متعاقبتين).
شهوانية الموت.. مشترك أفلام الدماء والقتل
ينتقل “بونويل” إلى المشهد التالي عن طريق دائرة ضوئية (إحدى الاستخدامات المونتاجية في زمن الأفلام الصامتة)، لتظهر الفتاة المخنثة في لقطة علوية تحرك بعصاها كفا مقطوعة، ويلتف المارة حولها في حلقة تحيلنا بدورها إلى الشكل الدائري للقمر والعين.
ولا تتسع الدائرة الضوئية تدريجيا، ولكنها تتكرر ثلاث مرات: في المرة الأولى صغيرة، وفي اللقطة التالية أكبر من سابقتها، وفي الثالثة صغيرة كحال اللقطة الأولى، وهنا تتوسع، وتظهر معالم الصورة كاملة، حيث نشاهد الفتاة المخنثة في وسط الشارع يحيطها المارة الفضوليون وهم يضعون قبعات دائرية فوق رؤوسهم.. ولا أعرف أيضا إلى أي حد لعبت الصدفة في هذه الاختيارات.
ومع لقطة أكثر قربا وأقل ارتفاعا عن الشخصيات، تظهر الفتاة في الوسط وحولها المارة يحاولون الاقتراب منها، فيمنعهم شرطيان.
تنظر الفتاة إلى الأسفل وتحرك يدها لتلامس الكف المقطوعة، فينظر المارة بفضول، وأحدهم ينظر بخوف إلى الكف (خارج إطار الصورة)، ويتحسس رسغه.

تضع الفتاة الكف في صندوق، وينفض المارة من حولها، وتبقى وحيدة في منتصف الشارع، فتصدمها سيارة وتقع على الأرض دون أن تسيل منها نقطة دم واحدة. ومع ذلك، هناك رجل ينظر إليها من نافذته، ولا تخفي تعبيرات وجهه إحساسه بنشوة شهوانية، وهي إحدى العناصر المشتركة مع أفلام الدماء.
المرأة -التي من المفترض بأن تكون عوراء بعد المذبحة التي ارتكبها “بونويل” في بداية الفيلم- تقفل الباب بتلذذ مرضي على كف الشاب الممتلئة بالنمل، ويتوهم المتفرج بأنها سوف تنقطع، وتذكرنا بالكف المقطوعة التي شاهدناها في اللقطات السابقة.
وعلى الرغم من البناء السردي المتشظي للفيلم، فإن الموت يستحضر الشهوانية، وهي إحدى المحركات الرئيسية لأفلام الدماء. فالقتلة يعانون من ضعف جنسي، ويحققون رغباتهم وغرائزهم بتعذيب ضحاياهم -من النساء غالبا- وقتلهم بطريقة حيوانية.

والمتفرج ليس بريئا من هذه النوازع السادية أو المازوخية، فهناك تواطؤ معلن أو خفي مع صانع الفيلم وأبطاله، وإلا لما عرفت هذه النوعية من الأفلام إقبالا جماهيريا ولما حقق “كلب أندلسي” كل هذه الشهرة.
وكما تعكس هذه العلاقات المتبادلة جوانب سلبية، يكشف “بونويل” عن خصلة إيجابية تتجسد بـ”فعل التطهير”؛ أن يشاهد المتفرج هذه الأهوال على الشاشة أفضل بكثير من تحوله إلى وحش مسعور (مع أن السينما لم تمنع المجرمين من ارتكاب جرائمهم).
فلسفة غامضة.. هل هي دعوة للاغتصاب والجريمة؟
لم تنته سلسلة الجرائم في الفيلم، ولم يتوقف “بونويل” عن خداع المتفرج بلوحاته المكتوبة على الشاشة. فعند الساعة الثالثة صباحا، قبل 16 سنة في الماضي، وفي فصل الربيع، ثمة لقطة ثابتة. لقد توقف الزمن تماما، والمرأة نفسها، ورجل التقت به قرب الشاطئ، مدفونان في الرمال حتى وسطهما، ربما كانا ضحية جريمة بشعة لم نرها على الشاشة، وعلينا أن نتخيلها، أو نحلم بها، أو ربما توقفت أحلام “بونويل” و”دالي” عند تلك اللقطة أو الصورة الفوتوغرافية.

ووفق ما يقوله الناقد الفرنسي “دومينيك رابوردا” (Dominique Rabourdin) في نهاية العرض الأول للفيلم، وبعد أن أضيئت الصالة، نهض أحد المتفرجين، وتوجه نحو المخرج متسائلا: ما هذا؟ لم نفهم شيئا. ما معنى كل هذه الصور؟
فأجابه “بونويل” محتدا: بكل بساطة، إنها دعوة إلى الاغتصاب والجريمة.(6)
تغير كل شيء، الآن نشاهد صحراء من دون أفق، وهما (المرأة والرجل) مزروعان في الوسط ومدفونان في الرمال حتى الصدر.
نشاهد الشخصية الرئيسية والفتاة الشابة أعميان، وملابسهما ممزقة، وقد التهمتهما أشعة الشمس الحارقة، وسرب من الحشرات.(7)
الهوامش:
(1) ـ “موسوعة ويكيبيديا” باللغة الفرنسية.
(2) ـ نفس المصدر (1) بعد التحقق من المعلومات بمشاهدة الأفلام المشار إليها.
(3) ـ فقرة منتشرة في معظم الكتابات التي تتحدث عن السوريالية، وبدوري استعرتها من موقع
http://www.site-magister.com/surrealis.htm
(4) ـ من التحقيق المصور مع الناقد السينمائي الفرنسي “Philippe Rouyer” في أحد الملحقات الأرشيفية التي يتضمنها القرص المدمج لفيلم “كلب أندلسي”، إصدارات (Édition Collector 2 DVD).
(5) ـ إشارة إلى شريط “دخول القطار إلى محطة لا سيوتا” للأخوين لوميير الذي تم تصويره في عام 1895، وعرض لأول مرة في يناير 1896.
(6) ـ من التحقيق المصور مع الناقد السينمائي الفرنسي “Dominique Rabourdin”، ونفس المصدر رقم (4).
(7) ـ المشهد الأخير كما جاء في السيناريو الأصلي للفيلم.