تحت الضوء، مُستجدات سوق السينما العالمية
صلاح سرميني ـ باريس
من بين المطبوعات النادرة التي يُصدرها مهرجان دبيّ السينمائي الدولي كتابٌ، كتيّبٌ، أو تقريرٌ سنويّ على قدرٍ من الأهمية، أتفحصه بعنايةٍ على الرغم من ارتكازه على معلوماتٍ بيانية، أرقام، وإحصائياتٍ تحتاج إلى الكثير من اليقظة في متابعتها، وهي حصيلة وقتٍ، وجهدٍ لا يستطيع أحدنا بمفرده، مهما طال صبره، العثور عليها في أدبيّات عشرات المُؤسّسات السينمائية في العالم، ومن ثمّ تجميعها، تكثيفها، وتحليلها.
يصدر الكتيّب/التقرير سنوياً عن “سوق الفيلم” لمهرجان كان السينمائي الدولي، ويعود تاريخ إصداره إلى عام 1998، ومنذ ثلاث سنواتٍ يُعيد مهرجان دبي السينمائي الدولي طباعته باللغة العربية، والإنكليزية، ويُضيف إليه ملحقاً هاماً، ومفيداً عن العالم العربي (تقديرية في معظمها).
ويتحمّل “سوق الفيلم”، و”المرصد الأوروبيّ للمواد السمعية/البصرية” مسئولية المعلومات الواردة في الكتيّب، بينما يتحمّل مهرجان دبي السينمائي الدولي مسئولية المُلحق الخاصّ بالدول العربية (تحرير “مؤيد. م. خيتي”).
وُفق الكلمة الافتتاحية التي كتبها “جيرم بيلارد” المدير التنفيذيّ ل”سوق الفيلم” لمهرجان كان، و”ولفغانغ كلوس” المدير التنفيذيّ لـ”المرصد الأوروبيّ للمواد السمعية/البصرية”، يسعى الكتيّب إلى تأسيس “معايير جديدة فيما يتعلق بالمحتوى المعلوماتي، ويقدم إطلالة بانورامية شاملة على الأسواق العربية، …ونظرة لا غنى عنها على صناعة السينما التي تشهد تغيرات كبيرة، ومستمرة”.
بينما يُشير المدير الفنيّ لمهرجان دبي السينمائي الدولي في مقدمة الكتيّب، بأنّ المطبوعة “تهدف إلى ترسيخ التزامنا ببناء قاعدة دقيقة، ومتفحصة عن صناعة السينما، وخاصة في العالم العربي الذي يفتقر إلى أساليب التوثيق الملائمة، ناهيك عن كونه سوقاً صغيرة نسبياً مقارنة بأسواق السينما الأخرى في العالم”.
وهي نقطةٌ تحتاج إلى النقاش، صحيحٌ بأنّ العالم العربي “يفتقرُ إلى أساليب التوثيق المُلائمة”، ولكنه ليس “سوقاً صغيرة نسبياً مقارنة بأسواق السينما الأخرى في العالم” من الناحية الجغرافية، وأعداد الجمهور”المُحتملة” الذي تخلى مُجبراً، أو طواعيةً عن المُشاهدة الجماعية في صالات السينما لحساب المُشاهدة الفردية، أو العائلية للمُنتجات التلفزيونية.
يمكن أن تكون البلدان العربية سوقاً/أسواقاً ضخمة للسينما إذا افترضنا جمهوراً يشاهد الأفلام في الصالات، أو حتى عن طريق وسائل أخرى، ومنها الأقراص المُدمجة (المُقرصنة غالباً).
في بلدٍ ما، عندما يوجد جمهور، فإنّه من الطبيعيّ بأن يزداد عدد الصالات السينمائية، وينتعش الإنتاج الوطنيّ عن طريق آلياتٍ أثبتت فعاليّاتها في الدول المُتقدمة سينمائياً، ومنها كمثالٍ، استقطاع نسبة بسيطة من ثمن كلّ تذكرة مُباعة، وتحويلها إلى صناديق الدعمّ المحلية التي يمكن أن تُنشئ لهذا الغرض، بالإضافة لتنويع مصادر التمويل الحكومية، والخاصة : وزارة الثقافة، السياحة، الإعلام، التربية، التراث، ….البلديات، اليانصيب الوطني، والمُحفزات الضريبية،….
وإذا تفحصنا البيانات الإحصائية في الكتيّب، سوف يتضحُ لنا بأنّ أعداد الجمهور في أمريكا الشمالية، الإتحاد الأوروبي، الصين، واليابان في ارتفاع متزايدٍ خلال الأعوام 2005-2009، وهذا يعني حتماً ارتفاع إيرادات شباك التذاكر، وخاصةً في أمريكا الشمالية، والإتحاد الأوروبي، وفي نفس المنطقة الجغرافية، يزداد عدد صالات السينما بفضل الإقبال على مشاهدة الأفلام، واحتياج الأسواق إلى صالاتٍ جديدة، وفي الوقت الذي يزداد معدل إنتاج الأفلام الطويلة في الإتحاد الأوروبي، حيث يرتفع الرقم من 920 فيلماً في عا�� 2005 ويصل إلى 1168 فيلماً في عام 2009، ينخفضُ العدد في الولايات المتحدة من911 فيلماً في عام 2005 إلى 677 فيلماً في عام 2009.
![]() |
هناك مفارقاتٌ إحصائية تستحقُّ التوقف عندها، حيث تُعتبر فرنسا (230 فيلماً)، ألمانيا (220 فيلماً)، إسبانيا (186 فيلماً)، إيطاليا (133 فيلماً)، المملكة المتحدة (116) في طليعة الدول الأوروبية المُنتجة للأفلام الروائية الطويلة، بينما يُثير عدد الأفلام(78 فيلماً في عام 2009) المُنتجة في الإتحاد الروسي بعض التساؤلات عن أسباب انخفاضه بالمُقارنة مع حجم الإنتاج في دول أوروبية صغيرة مثل :
سويسرا (76 فيلماً)، بلجيكا (74 فيلماً)، هولندة (52 فيلماً)، السويد (36 فيلماً)، ايرلندة (34 فيلماً)، النمسا (33 فيلماً)، الدانمرك (30 فيلماً)، النرويج (27 فيلماً)، فنلندة (25 فيلماً)، البرتغال (23 فيلماً)، وحتى أيسلندة التي يبلغ عدد سكانها حولي 300 ألف نسمة، وتنتجُ حوالي 8 أفلام في العام، وفي أوروبا الشرقية “سابقاً” تتصدّر جمهورية التشيك القائمة (45 فيلماً)، هنغاريا (27 فيلماً)، رومانيا (19 فيلماً)، سلوفاكيا(18 فيلماً)، كرواتيا (13 فيلماً)، بلغاريا (11 فيلماً)، سلوفينيا (6 أفلام).
فرنسا تحت الضوء
رُبما من المُفيد في هذه القراءة التركيز على الإحصائيات الواردة في الكتيّب الخاصة بفرنسا تحديداً، والتي وصل عدد سكانها 64.7 مليون نسمة، وفي عام 2009 بلغ عدد صالات السينما 5522 صالة (مُقابل 5418 في عام 2008)، وهذا يعني، بأنّ الصالات تندثرُ في بلادنا، بينما يزداد عددها في فرنسا (وقد تبين أعلاه بأنها زيادةٌ عالمية).
ووُفق إحصائية خاصة جمعتها من الدليل الأسبوعيّ “l’Officiel des spectacles”، هناك في باريس وحدها، بتقسيماتها الإدارية العشرين، 356 صالة سينمائية (ماعدا الضواحي القريبة، والبعيدة).
وفي الكتيّب، تُشير الإحصائيات إلى أكثر من 200.9 مليون تذكرة مُباعة، وصل إجمالي إيراداتها إلى 1.23 مليار يورو.
متوسط سعر التذكرة 6.14 يورو (ويمكن أن يصل إلى حدٍّ أدنى بكثير بفضل الاشتراكات السنوية)، وإذا عرفنا بأنّ الأفلام الصادرة في أقراصٍ مدمجة تتراوح أسعارها ما بين 5 و25 يورو، فهو على الأقلّ سبب ماديّ يمنع الفرنسيّ من شراء الأفلام المُقرصنة الممنوعة، والغير متوفرة في الأسواق أصلاً (ماعدا بداية انتشار ظاهرة جديدة، ومحدودة يقودها مهاجرون من الهند، باكستان، وبنغلاديش يبيعون الأفلام في ممرات، ومخارج محطات المترو، والأسواق الشعبية).
من جهةٍ أخرى، تُسجل البيانات تراجعاً طفيفاً في الإنتاج الفرنسيّ للأفلام الروائية الطويلة عن مستواه في عام 2008، حيث وصل العدد إلى 230 فيلماً (مقابل 240 فيلماً في عام 2009).
جديرٌ بالذكر أيضاً، بأنّ حصة الأفلام المحلية في دورة التوزيع التجارية وصلت في عام 2009 إلى 36.8 %، بينما حصلت السينمات الأجنبية على نسبة 63.2% ذهب النصيب الأكبر منها إلى السينما الأمريكية وحدها (ولكنها في نفس الوقت تضخُ نسبةً مئويةً من الإيرادات في صناديق الدعم الوطنية).
ويتراوح الإنتاج الفرنسيّ للأفلام الروائية الطويلة خلال السنوات الخمس الماضية بين 200 و 240 فيلماً سنوياً، ويتضمّن هذه الأرقام الأفلام الفرنسية الخالصة الإنتاج، وتلك التي تمتلكُ الحصة الأقلّ، والأكبر في حالة الإنتاج المُشترك.
ولكنّ، تشير هذه النسبة فقط إلى الأفلام التي حصلت على تأشيرة التوزيع (Le visa d’exploitation) التي يُصدرها “المركز الوطني للسينما”، بينما تظهر قائمة تصلني عن طريق “النقابة الفرنسية لنقاد السينما” حوالي 350- 400 فيلماً فرنسياً يُعرض في العام (تاريخ الحصول على تأشيرة الاستثمار التجاريّ لا يتفقُ بالضرورة مع تاريخ عرض الفيلم في الصالات التجارية).
في المُقابل، يحتوي الكتيّب على معلوماتٍ تتعلقُ بالمشهد السينمائي العربيّ، ومقارنته مع حال السينما العربية يُثير الأوجاع، ويستحقُ الدراسة المُعمّقة أكثر من الرصد الإحصائيّ، أو البيانيّ، ومن بين هذه المعلومات، فقرة تحت عنوان “الفرص، والتحديات” :
“تكمن فرص المزيد من التطور في أسواق السينما العربية بشكلٍ رئيس في المناطق التي تبذل فيها جهود لتحقيق إنتاج محلي، أو مشترك، وتتجه نحو رقمنة صالات السينما إلى جانب التوزيع المُوازي للإصدارات العالمية الكبرى، بيّد أن التحديات الرئيسة التي تواجه هذه الأسواق، تتضمن الكساد العالمي المتواصل، والذي يؤثر على أعداد الحضور، وتحوّل الاستهلاك الإعلامي الذي قد يجعل رواد السينما يفضلون مشاهدة الأفلام على أقراص د.ف. د، أو عبر الانترنت، والقرصنة التي تُثير المخاوف على مستوياتٍ عالمية”.
![]() |
إذا افترضنا ـ كما الفقرة أعلاه ـ بأنّ “الكساد العالميّ المُتواصل يؤثر على أعداد الحضور….” في الدول العربية، وبالتدقيق بإمعانٍ في الأرقام، والبيانات، سوف نلاحظ بأنه خلال الأعوام 2004-2008 تضاعف عدد الجمهور بشكلٍ ملحوظ في الإمارات العربية المتحدة، وارتفع من 4.5 مليون في عام 2004 إلى 8.8 مليون في عام 2008.
وارتفع العدد قليلاً في لبنان من 1.6 مليون في عام 2004 إلى 2 مليون في عام 2008.
بالتوازي، ارتفع عدد الصالات بشكلٍ ملحوظ في الإمارات العربية المتحدة من 185 صالة في عام 2005 إلى 236 صالة في عام 2009 (191 وُفق المُلحق العربي ؟).
بينما انخفض الرقم قليلاً في لبنان من 84 صالة في عام 2005 إلى 80 صالة في عام 2009.
وكان ارتفاع عدد الجمهور في مصر طفيفاً خلال الأعوام 2004-2008، وتُشير الأرقام التقديرية إلى 24.5 مليون في عام 2004 وصل إلى 25.6 مليون في عام 2008.
الأرقام المُتعلقة بالمغرب مُرعبة حقاً بسبب تدهور أعداد المُتفرجين، والصالات معاً، فقد وصل عدد الجمهور في عام 2004 إلى 6.79 مليون، وهبط في عام 2008 إلى 2.96 مليون، بالمُقابل، انخفض عدد الصالات من 127 صالة في عام 2004 إلى 70 صالة في عام 2008.
وإذا دققنا في بياناتٍ بلدانٍ أخرى، سوف نلاحظ بأنّ أعداد الجمهور ارتفعت خلال الأعوام 2005- 2009 في أمريكا الشمالية، دول الإتحاد الأوروبي الـ 27، الصين، واليابان (بدون أن نذكر الأرقام كي لا يتوه القارئ فيها).
وبالتوازي، ارتفع إجمالي إيرادات شباك التذاكر خلال نفس الفترة (في الصين ارتفع الرقم من 244 مليون دولار عام 2005 إلى 908 دولار عام 2009).
وإذا أضفنا بأنّ أعداد صالات السينما قد ارتفعت أيضاً في المناطق الجغرافية المُشار إليها أعلاه (في الصين ارتفع العدد من 2979 صالة في عام 2005 إلى 4723 صالة في عام 2009).
وبدون الدخول في تفاصيل كلّ بلدٍ أوروبيّ، أو أمريكيّ على حدة، يؤكد ارتفاع أعداد الجماهير، بأنّ الاستنتاج المُشار إليه في تلك الفقرة خاطئٌ تماماً، فإذا كان “الكساد عالمياً”، فلماذا لم تتأثر الأسواق العالمية الأكثر عرضةً للتأثر، بينما تأثرت بعض البلدان العربية فقط، إلاّ إذا كانت الأسباب “كلّ شيءٍ” ماعدا “الكساد العالميّ”، وسوف أوضح هذه الـ “كلّ شيءٍ” في قراءةٍ لاحقة.
مع أنّ الفقرة نفسها تستدركُ هذا التعميم، وتشير إلى الأسباب الأكثر إقناعاً، وهي:
“تحوّل الاستهلاك الإعلامي الذي قد يجعل روّاد السينما يفضلون مشاهدة الأفلام على أقراص د.ف. د، أو عبر الانترنت، والقرصنة التي تثير المخاوف على مستوياتٍ عالمية”.