في «السينما المستقلة» 2

بشار إبراهيم

للسينما المستقلة، على صعيد الاستقلال الانتاجي، أن تبحث دائماً عن أساليب جديدة، ومجدية، في مجال التمويل، وعمليات العرض، والتسويق، والتوزيع، بحيث تمتلك منظومة، أو آلية، تحقق الدورة الانتاجية لها، دون الخضوع لشروط المال، أو من يقدمه، سواء أكانت هذه الآليات من طراز التكافل بين السينمائيين المستقلين أنفسهم، من أجل تأمين الموارد المالية، أو التعاون مع جهات قادرة على التعامل معهم، بتأمين المواد المالية والمادية، بنزاهة، حتى لو كان التعاون دائماً بسبب التقاء مصالح، ولكن ينبغي أن يكون دائماً، دونما فرض شروط خارجة عن العمل، وجوهره. أو لنقل: دائماً في الحد الأدنى من الشروط، وبما هو مقبول.
على المستوى الفكري، يمكن للسينما المستقلة أن تكون تعبيراً ذا دلالات على أكثر من صعيد، بدءاً من محاولات الانعتاق من هيمنة الأفكار السائدة، من العادات والتقاليد، ومن قبضة السلطات المتمكِّنة، في السياسة والثقافة والاقتصاد والاجتماع.. إذ سنلاحظ أن السينمائي المستقل، غالباً، ما يعبِّر في أعماله عن تجربته الفردية، وهو يحاول الانعتاق من سيطرة السلطة، أو من سطوة «المهام القومية الكبرى» . وسنرى أن الانتقال من نقاش القضايا القومية الكبرى، إلى التفاصيل الصغيرة، ومن الرؤى العامة إلى الرؤى الذاتية، هو سمة السينما المستقلة عموماً. فباتت هذه السينما تهتم بالتفاصيل الهامشية، التي تكاد تدور في مجال المسكوت عنه، المخفي والمتواري، وما يمكن أن يثير الاشكاليات والارتيابات، بقدر ما يبدو جوهرياً، وأساسياً، في حياة الناس البسطاء العاديين، بعيداً عن حضور النجوم، ومفردات الإثارة واللعب على العواطف، وإثارة الغرائز..
وتذهب داليا شمس، فيما ترى في هذا الصدد، إلى أنه «لم يعد الحسُّ القومي عاملاً موحداً، كما لم يعد بإمكانه إسكات الصيحات الفردية. فإذا كان هدف كل سلطة هو الحفاظ على الاستقرار وضبط الأمور, وإذا كان هدف الثقافة هو مواكبة الحياة في تدفُّقها وتغيُّرها، فإن التعارض بين الثقافة والسلطة، إنما يندرج تحت إطار الاعتيادي» . وهذا يعني، كما عند داليا، أن محاولات الانعتاق هذه، إنما هي تعبير، بشكل أو بآخر، عن صراع أجيال سينمائية: (آباء، أبناء)، وهو صراع ثقافي، سياسي، إبداعي، ومؤسساتي.. فمن الناحية الثقافية يبدو كأنه صراع بين تيار حداثي «عولمي»، يركز على الفرد وذاتيته وهمومه وشؤونه، من جهة أولى، وتيار آخر قومي، يركز على الهوية، والقضايا الكبرى، الوطنية والقومية، من جهة ثانية..
كما يبدو، مؤسساتياً، وكأنه صراع بين ثقافة رسمية، وأخرى غير رسمية، حيث أن «جيل الآباء» السينمائيين، تشكَّل غالباً بالقرب من السلطة، من خلال مؤسساتها الحكومية، وعبر العمل فيها. ولقد أزهق هذا الجيل أكثر من أربعين عاماً، من عمره، يدافع عن مكانته وإنجازاته وحصانته في هذه المؤسسات، وهو ما زال يتحصَّن خلف أسوارها، مما دفع «جيل الأبناء» إلى محاولات الخروج من عباءة «الكبار»، ليس فقط برؤيته وطريقته، ولكن أيضاً بحثاً عن فسحة لقول ما يريد، طالما أن المؤسسة الرسمية تمَّ احتكارها لصالح «جيل الآباء»، وربما لا سبيل لمنافستهم عليها!..

نور                                                 قبل الاحتفاء

وسنلاحظ، سياسياً، أن «جيل الأبناء»، من السينمائيين، لا يسعى إلى الانخراط في المجال السياسي، أو الحزبي، للقيام بدور إيجابي، كما كان الحال عند «جيل الآباء». ولكن غالباً ما تنصبُّ مهمة المثقَّف، لدى «جيل الأبناء»، هذا، على فكِّ الاشتباك بين الحقل الثقافي، من جهة، وحقل السياسة العربية، بكل أنماطها، من جهة أخرى، وعلى تأسيس حقل ثقافي مستقل عنها، ومناهض لها، بشكل أو بآخر، حتى لو كان بمجرد «التمرُّد على رموزها» ، وربما رموزها الثقافية تحديداً، قبل رموزها السياسية. مما يؤكِّد على أهلية مقولات موت المثقف «الرسولي»، أو المثقف «كلب الحراسة»، أو المثقف «الشرطي»، الذي كان ينتدب نفسه، فيما مضى، ودون تكليف من أحد، لمهمة حراسة القيم أو الأفكار، والقضايا والمواقف، والثوابت، والإشارة إلى الصح والخطأ!..
أما على الصعيد الفني، فلابد للسينما المستقلة من تقديم الاقتراحات المتجددة، من حيث تناول الأفكار، وطرائق السرد، والبناء الفني، إذ «إن ما يميز السينما المستقلة، عن غيرها، هو قدرتها على المجازفة الدائمة في التجريب، والبحث عن أساليب سينمائية جديدة» . وبالتالي سيكون من المؤسف، حقاً، أن يأتي فيلم سينمائي ما، مستقلاً على الصعيد الإنتاجي، ومنتمياً إلى نهج الاستقلال الفكري، وما يتضمَّنه من أطروحات، أو رؤى جديدة، ولكنه يأتي تقليدياً، على صعيد البناء الفني. على الرغم من صعوبة ذلك، على الأقل بسبب الترابط الجدلي ما بين الشكل والمضمون، والذي سيفرض نفسه منطقياً، في مجرى العملية الإبداعية ذاتها، ولو كان دون أي قصدية.. فالتجديد في الأفكار والرؤى والمضامين يستدعي، منطقياً، تجديداً في الأشكال الفنية التي تقدم من خلالها.
وفي الجوانب التقنية، يبدو حاسماً أن «السينما المستقلة» تعتمد في التصوير على الكاميرات الرقمية «الديجيتال»، ومن الضروري إدراك أن هذا الاختلاف هذا ليس تقنياً فقط. بل هو أيضاً، وبشكل جوهري، اختلاف في طريقة النظر إلى الموجودات، وفي كيفية رؤية الأشياء، وفي آلية قراءة وجودها وحضورها. إنه اختلاف في التفكير، في التصوُّر، والصورة..

     صمت                                                            قبل الاختفاء                                 

صحيح أن التصوير الرقمي «الديجيتال»، هو عتبة تطوُّر مذهلة على الصعيد التقني، وهو يأتي مع امتداد ثقافة العولمة، وتقدمها الكاسح، وما يرتبط بها من شيوع ثقافة الصورة، إلا أن الصحيح أيضاً أن هذا التطور لم يكن، ولا يمكن أن يكون، على الصعيد التقني فقط، بل لا بد أن يرتبط بمجمل آليات التفكير البشري، ونظرة الإنسان لذاته، وللكون المحيط به، وإعادة قراءة كل ذلك بطريقة جديدة، توفِّرها التقنيات المذهلة التطور.
الآن، بات على السينمائيين أن يتمكَّنوا من أبجديات هذه المنجزات التقنية، بدءاً من إتقان التعامل مع الكاميرا الرقمية، ومعرفة إمكانياتها، وخصائصها، مروراً بالتعامل مع الكومبيوتر، خاصة في مجال التصميم «الغرافيك»، وصولاً إلى برامج المونتاج الإلكترونية، ومعرفة الخيارات المتكاثرة، التي يتيحها كل جيل من أجيال هذه البرامج. فهذه المعارف باتت تتدخل بشكل جوهري في صلب العملية الإبداعية، ولا يمكن لأي سينمائي أن يعمل دون معرفة أو دراية، أو إلمام بها، على الأقل.
ويمكن الانتباه، هنا، إلى أن الشرط التقني هذا، يأتي متناسباً تماماً مع الشرط الإنتاجي، حيث أن «الكاميرات الرقمية»، وفضلاً عن السهولة في التعامل معها: حملها، ونقلها، والتصوير بها. أعطت السينمائيين المستقلين «مزيداً من الحرية في خوض تجاربهم الخاصة إلى النهاية. فقد أصبح بإمكان الشخص العادي أن يصنع سينما قليلة التكلفة، بفضل كاميرات الديجيتال، حيث أن تصوير ساعة واحدة على شريط فيديو ديجيتال يتكلف حوالي 5 دولارات، بينما يتكلف حوالي 4 آلاف دولار، لو تمَّ التصوير بكاميرا 35 مم» .
أما على الصعيد البشري، فيبقى الإنسان المبدع هو الأهم، سواء على مستوى الإنتاج، أو على مستوى التلقي، فلتحقيق «السينما المستقلة»، وتطورها، لا شك في أن «الشرط الأول هو وجود عدد غير قليل من المخرجين المتمكِّنين من فنهم، والمطوِّرين لأدواتهم الفنية، والذين يتوفَّرون على روح المجازفة، ويخاطرون في اقتحام هذا الفضاء الجديد، الذي يوفِّر لهم حرية مطلقة في كل شيء، سواء في اختيار السيناريو، أو في انتقاء الممثلين الهواة، أو المحترفين، أو عدم التقيد بالرؤى الإخراجية القديمة، التي تراعي الضوابط المحافظة» .
إن «السينما المستقلة»، على مستوى التلقي، معنية بأن تسعى «لأن تحطّم آلية التلقي القديمة، القائمة على أسس المشاهدة التقليدية المعروفة، من خلال فتح كوة جديدة لما هو غير مألوف من قبل». حيث أن من أكبر المشكلات التي تواجهها «السينما المستقلة»، تأتي مشكلة الكسل في التلقي، ومشكلة الاعتياد على التلقي التقليدي، الذي تكوَّن عبر العشرات من سنوات المشاهدة، وبسبب التربية المحددة التي قامت بها السينما التقليدية، فأسست لذائقة معينة، ولثقافة بصرية محددة، وأنشات مرجعيات في هذا الصدد، ليست سوى منجزها الذي قدمته، وفرضته على السوق، والمشاهدين، حتى غدا معياراً لدى البعض، يعتدون به، ويقارنون بالنسبة إليه.
هل ترانا ننتبه الآن، إلى أن البعض، ممَّن تربى على آلية التلقي التقليدية، حتى في أوساط السينمائيين والنقاد أنفسهم، من يحرص دائماً على أن يثير السؤال على نحو المقارنة بين مستوى السينما السورية، وما وصلت إليه السينما الهوليوودية، الأمر الذي يدلُّ، صراحةً أو ضمناً، على قناعة لدى هؤلاء، مفادها أن السينما الهوليوودية هي النموذج والمثال، الذي ينبغي للسينما، هنا أو هناك، أن تحذو حذوها، أو تقتدي بها!..
من المُؤكَّد أن على كلِّ سينما، السعي للاستفادة مما وصلت إليه التقنيات والتطورات والفنيات العالية، التي وصلت إليها السينما في العالم، وخاصة السينما في هوليود، ولكن الحق والواجب في مجال امتلاك التقنيات شيء، والاقتداء بتلك السينما باعتبارها النموذج أو المثال، شيء آخر!.. وعلينا أن ندرك الفارق بينهما.


إعلان