“اللفيف”.. راقص التنورة يحتفي بالكون وبدورة الحياة
أمـل الجمل
“اللَفيف” في الشريط التسجيلي الذي يحمل نفس الاسم للمخرج المصري “عز الدين سعيد” يُقصد به راقص التنورة، ضمن الرقصة الشعبية المصرية المشهورة عالمياً، والتي يلف فيها المرء ويدور حول نفسه كأنه يحتفي بالكون، وبدورة الحياة، كأنما يهمس من أعماقه: “أنت كعبة الأرواح فلأقم بالطواف حولك فأنا كالفلك عملي ليل نهار هو الطواف.. ولا ترتعد في جواد الجسد وترَّجل سريعاً فالله يهب جناحاً لمن لا يمتطي الجسد.”
يستمد فيلم “اللفيف” أهميته من قيمة موضوعه وجاذبيته، فطوال ستة عشر دقيقة هى مدة الفيلم تُخرجنا المعلومات المتدفقة، تُؤازرها الموسيقى والصورة البصرية وأشعار جلال الدين الرومي، من حياتنا العادية إلى التفكير في أبعاد الكون اللانهائية. إنه عمل لا يخلو من ممتعة رغم أن مخرجه يتبع أسلوباً فنياً بسيطاً ومباشراً يرتكز على لقاءات قصيرة، ومشاهد حيَّة من رقصة التنورة الشعبية.
أصول دينية
يتحدث “اللفيف” عن الصوفية وفكرة الدوران والرقص وعلاقتهما بحركة الكون، عن الرموز الكثيرة التي تحتضنها، المستوحاة والمستمدة من أصول دينية. إذا كانت فكرة الدوران في الأصل تنبع مما يحدث في الكون والأرض، فالذرة تدور في دوائر، والأجرام السماوية تدور حول نفسها وتدور حول الشمس، فها هم البشر أيضاً يدورون حول الكعبة، فما السر في حركة الدوران؟
يكشف صانع الفيلم، عبر الإجابات المتقاطعة السريعة جداً لضيوفه المتخصصين بكلماتهم المكملة لبعضها البعض، أن أصل تلك الحركة في رقصة التنورة مستوحاة من الحركة المعمول بها في الطرق الصوفية، وخاصة الطريقة المعروفة باسم “المولاوية”. فالطقوس الدينية في الصوفية تعتمد بشكل عام على الحركة القائمة على الذِكر، أي تلك الحركة “البندولية” والتي تختلف باختلاف الطرق الصوفية.
الصوفية
حاول البعض تفسير معنى أهل التصوف على أنهم مًنْ كانوا يجلسون في الصف الأول في مجالس الرسول عليه الصلاة والسلام، في حين أرجعها البعض الآخر إلى أهل الصفوة في المجتمع، ورأي ثالث أرجعها إلى أهل الزُهد وهى أقرب المعاني إلى الصوفية التي لا تختص بدين مُعين، فقد ظهرت الصوفية في جميع الأديان، اليهودية، والمسيحية، والبوذية، ويُقصد بها حالة التخلص من شرور النفس والإرتباط بالعالم والتخلص من الإهتمام بالمادة، وأن يعيش الإنسان في حالة من الصفاء النفسي والروحي يجعله أقرب إلى أهل السماء منه إلى أهل الأرض. فإذا تأملنا راقص التنورة الذي يدور على القدم اليمنى كأنه يُحاول تخفيف أحمال الجسد والصعود بالروح للتواصل مع الذات الإلهية، في حين تكشف حركة يد اللفيف أن يده اليمنى مرفوعة لأعلى ويده اليسرى لأسفل كما لو أنه يعقد صلة ما بين السماء والأرض إلى أن يتحد الأثنين.
![]() |
المخرج عزالدين سعيد ولقطة من فيلمه |
الجذر الأصلي
يستعيد الشريط التسجيلي بداية نشأة “المولاوية”، الجذر الأصلي لفكرة التنورة، في بلاد “الأناضول” و”تركيا” امتداداً لآراء “جلال الدين الرومي”. إذن فكرة الدوران قديمة، وكان لها واقعة شهيرة حدثت لـ”جلال الدين الرومي”، الشاعر الفارسي الكبير الذي ظهر في القرن الثالث عشر الميلادي، عندما كان يُدَِرس علوم الشريعة والفقه، كان يسير في أحد مواكبه فاعترضه درويش جوال اسمه “شمس الدين التبريزي” وهمس في أذنه ومنذ ذلك اليوم صارا صديقين حميمين، فأنشد “الرومي” قائلاً: “يا أيتها الشمس هذا هو فلكي، تعلمته من هذا القمري الوجه، وأنا ذرة للشمس تعلمت منها هذا الرقص”.
ظل رباط الصداقة قائماً بقوة بين الرجلين مما أوغر صدور تلاميذ “جلال الدين الرومي” خشية أن ينفرد هذا الدرويش بمعلمهم فقتلوا “شمس الدين التبريزي”، وحزن “الرومي” حزناً كبيراً وكان يخرج إلى ساحة داره وينظر إلى الشمس ويظل يدور ويدور ويدور إلى أن يسقط مغشياً عليه. كان “الرومي” بعد هذا الطقس يشعر بالارتياح، فكتب يقول: “وكما يقوم الحاج العاقل بالطواف، يقوم به سبعة، وأنا حاج مجنون فلا أحصي الطواف”.. “كل ذرة في الأعالي، ولماذا لايرقص الصُوفي كأنه الذرة في شمس البقاء حتى تُحرره من الزوال.”
يُؤكد فيلم “اللفيف” على وجود صراع أزلي بين الجسد والروح لذلك فإن استخدام هذا الدوران هو لإجهاد الجسد. نُجهد الجسد فتسمو الروح، لذلك أدخل “المولاوية” فكرة الرقص وأبدعوا فكرة الدروايش الدوارة، فكانوا يرتدون الثوب الأسود، وتحته لباس أبيض. كانوا يشبهوا الثوب الأبيض بالكفن والغطاء الأسود هو القبر والقلنسوة الطويلة هى الشاهد الموجود على القبر. كان كل الطقس في “المولاوية” يرمز إلى ما بعد الموت، لكن عندما استلهم الفنان المصري رقصته أجرى عليها تعديلات وإضافات.
![]() |
إرضاءاً للجميع
أما زي التنورة في الرقصة المصرية فأخذ الجزء الأبيض وقام بتلوينه بالألوان التي اشتهرت بها الطرق الصوفية في مصر، فـ”الرفاعية” لها لون، و”الأحمدية” لها لون، “الشاذلية” لها لون، لكن لأن التنورة لا تنتمي إلى طريقة معينة، وفي محاولة لإرضاءاً كل الطرق الصوفية حتى عقائدياً فاستحضر الفنان المصري كل هذه الألوان وجمعها ووضعها على تلك التنورة، وبذلك فإن راقص التنورة عندما يُؤدي يحمل في طيات هذا الطقس كل رموز الطرق الصوفية الموجودة في “مصر”. تطور آخر على زي راقص التنورة أنها في البداية كانت تنورة واحدة فجعلها اثنتين، اخترع التنورة الثانية وجعلها عندما تنفصل عن الأولى تجعل الراقص يبدو خلالها وكأنه كالفانوس، كأنه هو الشمعة التي تحترق داخل الفانوس. كأن الجسد يحترق فتسمو الروح.
مخرج الفيلم “عز الدين سعيد” أخرج ما يزيد على ثمانية عشر عملاً تسجيلياً منها “القدس”، و”العلمين.. لحظة حياة”، و”بيكاسو مصر.. صلاح حسونة”، كما أخرج نحو تسعة أفلام روائية قصيرة حصدت العديد من الجوائز. كذلك خاض “عز” تجربة إخراج الدراما الغنائية للتليفزيون الليبي، وقام بتصميم وإخراج الخدع والجرافيك في حلقات (ألف ليلة و ليلة) في رمضان 1999.