“الفهد”.. ثائر في الريف يكسر جبروت المحتل وظلم الآغا

 

لم يكن عرض فيلم “الفهد” لمخرجه نبيل المالح يوم الخميس 13 يناير/ كانون الثاني 2011 في دمشق ضمن النادي السينمائي في المركز الثقافي الفرنسي، إلا مصادفة محضة مع ما يجري في تونس من حيث التوقيت، في ذلك اليوم بالتحديد واليوم الذي تلاه.

ولكنه بكل تأكيد أضاء وأوهج مشاعر وعقول الذين حضروا بالربط الذي حققه العرض، بين مراحل مختلفة موزعة على أكثر من ستين سنة من تاريخ العرب الحديث، وصولاً إلى اللحظة الراهنة.

“من غير الجائز تقديم قاطع طريق على أنه بطل”

فيلم “الفهد” باكورة أعمال المالح في المؤسسة العامة للسينما في سوريا، وقد أنجز في العام 1972 بعد أن رفضت المؤسسة إنتاجه في العام 1969. وكان سبب الرفض رسميا كما ذكر نبيل المالح في تقديمه للفيلم “أنه من غير الجائز تقديم قاطع طريق على أنه بطل”.

أما قاطع الطريق فهو أبو علي “شاهين” الذي أصبح اسمه بعيد الاستقلال رمزا شعبيا، خصوصا في الريف السوري، فما إن تنعت أحدهم باسم “أبو علي” حتى تتبادر إلى الذهن شتى ضروب التحدي والتمرد، والثورة على التجبر وطغيان الظلم الاجتماعي، والعين التي تقاوم “المخرز” الذي هو السلطة بعينها، ولا يستثنى من كل ما يخطر على الذهن التفرد الذي يعاند العام المتخاذل.

وردا على قضية أثارها المخرج أسامة محمد بتساؤله حول الأسباب التي دفعت مخرج الفيلم في تلك السنوات، قبل أربعة عقود، للتفكير في إنجاز الفيلم بموضوعه ذاك، قال المالح في تقديمه للفيلم إن النكسة كانت “الصدمة التي أفاق الجميع على وقعها”. وقال إنه لو رأى في تلك الأيام ما يجري الآن في تونس لما أقدم ربما على إنجاز هذا الفيلم.

“الفهد”.. اقتباس من رواية تجسد واقع الريف السوري

بالنسبة إلى جيل عُني بانشغالاته السياسية في غمرة غليان عام وتساؤلات سابقة ولاحقة على هزيمة حزيران، كان لا بد من الإشارة بجرأة إلى مواقع الخلل، بعيدا عن الشعارات التي تغنت بها “السلطة الرسمية العربية”، وصوغ منظومات فكر وخطاب تؤكد الاختلاف عن تلك السلطة والخلاف معها، بالغوص عميقا وراء التحليل في البنية الاجتماعية والتاريخية والسياسية، للكشف والتعرية، لمن استطاع إليها سبيلا.

وكما حاول صادق جلال العظم وغسان كنفاني ويوسف إدريس وسعد الله ونوس وكثيرون غيرهم، كان لنبيل المالح أن يدلي بإسهامه السينمائي، فاتجه بعد بحث إلى شخصية بطل من أبطال الريف السوري، سُردت قصته روايةً بعنوان “الفهد” للكاتب حيدر حيدر.

وكانت النتيجة هذا الفيلم الذي يعتبر الوثيقة الفنية الوحيدة حتى الآن التي ترصد حالة فريدة في المنطقة برمتها، حياة ثائر على ظلم حاق بشعوب ما بعد الاستقلال، إذا جاز لنا (وقد جاز) أن نفصل، فنقول ما قبل وما بعد في هذا الموضع.

مشهد من الفيلم

إعادة تعريف البطل.. مفاهيم ما بعد الاستعمار

كان لظلم ما قبل الاستقلال من يثور عليه، وكان لذلك العصر أبطاله، بوصفهم مناهضين لعدو غريب واضح المعالم مستعمر محتل مستغل. أما في مرحلة ما بعد الاستقلال، فقد انسحب تعريف البطل الثائر في المرحلة السابقة على المرحلة الجديدة، وبقي رهن حالتين؛ إما بطل من الزمن الماضي زمن مقارعة استعمار ولى، أو بطل جديد ارتبطت بطولته بمقارعة الغريب الواضح متجلياً بالاحتلال الإسرائيلي، أو المموه المخفي وراء مصطلحات ومسميات ليس آخرها الإمبريالية والإرهاب، والقوميات الأخرى المجاورة لحدودنا، أو الأقليات “الدخيلة” بيننا، وهو مؤشر لمدى تطور تجربة شعوبنا، من المحيط إلى الخليج، المدنية والديمقراطية والإنسانية.

وهذه النقطة بالذات هي التي تمحور حولها فيلم “الفهد” وكشفها بشكل غير مباشر، لقد ركز الفيلم على محورين بدا أحدهما في طرف، والآخر في الطرف المقابل؛ الأول أبو علي شاهين، أما الثاني فهم الناس بالمعنى الواسع للكلمة.

أولاد البلد.. ظلم أشد وطأة على الثائر من جبروت المحتل

كان أبو علي يجمع الاحتمالين الصعبين، فهو ثائر ناضل مع ثورة الشيخ صالح العلي ضد الاستعمار الفرنسي، لكنه أيضا بمفهومه الشخصي ثائر على سلطة ما بعد الاستقلال، تلك السلطة المنتجة محليا، والمشكلة من “أولاد البلد”، فالظلم عنده أخذ شكلا أكثر تجريدا وأكثر وعيا، فهو مستقل عن نوع الظالم، بل ربما كانت لهذا الظلم الجديد وصاحبه المحلي وطأة أشد على كاهل الثائر الذي قارع جبروت الفرنسيين الغرباء.

إنها الغصة التي سرعان ما تجاوزها “قاطع الطريق”، وحسم أمره بعفوية بأن أعلن العصيان والمجابهة المباشرة، استمرارا لثورة ما قبل الاستقلال، وبدأ بقتل جنود الدرك معاندا الآغا “الإقطاعي” كارًّا وفارا إلى الجبال وحيدا من دون رفيق، وقد بدأت أسطورته بالتشكل مع تخييلات أبناء مجتمعه، وما يرغبون من الثائر القيام به، مما ينقلنا إلى الطرف الثاني من الفيلم، أي الناس.

ثورة الفلاحين.. قلة تتخلى عن القائد في ليلة مظلمة

لم يكن الفلاحون (وقد وثقهم المالح مباشرة في فيلمه) بثيابهم الرثة وملامحهم الكالحة ووجوههم المجعدة أقل تعرضا للظلم من شاهين، وقد حاول قليل منهم مجاراة رغبته في المقاومة والنزال، لكن القلة القليلة التي حاولت العيش معه في أحراجه ووديانه وجباله، سرعان ما فترت عزائمهم.

كان الشك بادياً على وجوههم ونظراتهم المختلسة، وإدراك الجدوى مما يقومون به لم يكن ناضجا، الهدف غائم، ولسان حالهم يقول: إذا كنا ناضلنا ضد الفرنسيين كي يخرجوا، فما نحن فاعلون الآن، ومن نريد أن نُخرج، ومن أين؟

حتى أبو علي ذاته نصحهم بأن لا يضيعوا حياتهم كما أضاع حياته هو، مرارا وتكرارا، لقد تخلوا عنه أخيرا متسللين في ليلة باردة مظلمة.

مؤامرة الأقربين.. نهاية مأساوية قاسية أمام الجماهير

شنق أبو علي شاهين في العام 1946 بعد اعتقاله بمؤامرة حاكها عليه أحد أقاربه، ويروي شهود عيان لم يزل بعضهم على قيد الحياة حتى تاريخ 13 يناير/ كانون الثاني 2011 أن الشرطة المحلية بعد القبض عليه قلعت أظافره وكسّرت أسنانه، ثم ربطوه وضربوه بأكعاب البنادق، وألقوه على الأشواك ودحرجوه في الوديان.

أما الناس (أناسه) فقد احتشدوا ينظرون إلى ذلك المشهد بأسى، فمنهم من بكى، ومنهم من أغمض عينيه، ومنهم ربما من قال في سره: نجونا من هذا المصير، وآخرون لم يفهموا ما جرى. أما الآغا ورجاله فقد فكروا -ولا ريب- أنهم أخمدوا بذلك جذوة تمرد لسنوات طويلة قادمة.

لكن الجميع قد انتكسوا في هزيمة 67 بعد مقارعة مريرة مع “الغريب العدو” في زمن لم يعد فيه أبطال.


إعلان