في علاقة الدين والسينما وكليهما مع الجمهور

محمد رُضـــا

في “أفروديتي العظيمة” لوودي ألن (1995) مشهد يدور بين وودي ألن، في دور  الصحافي لَني، وشقيقته اليهودية المتديّنة مع زوجها المحافظ. يدور بينهما الحديث التالي:
هي:  ينقصك أن تتعبّد. تفعل مثل زوجي
هو: لا أستطيع. لا أؤمن بذلك
هي: كيف لا تؤمن بذلك؟
هو: فكّري، لو أن والدينا اعتنقا المسيحية قبل ولادتك بنصف ساعة لنشأت مسيحية. المسألة كلها تبعية.
وهي الى حد كبير علي هذا النحو.
يصل الدين الينا كسلالة. إذا ما سمح المرء لنفسه بالتعمّق بتاريخه العائلي فإنه سيبلغ الحد الذي لا يستطيع  بعده الذهاب الى ما هو أبعد. ربما يستطيع أن يتأكّد من أن جدّ أبيه كان على دينه هو اليوم، لذلك وُلد مسلماً او مسيحياً او يهودياً او منتم، لا بخياره أساساً، الى أي من التديّنات الأخرى، لكن هل يستطيع الذهاب بذات الثقة الى جد الجد؟ على نحو عام من حقّه، غالباً، إعتبار نفسه من سلالة لم تغيّر دينها منذ أن وُجد هذا الدين، لكنه لا يمكن أن يثق بذلك مئة بالمئة. ربما واحد في تلك السلالة اختلف، كان يهودياً وأسلم او مسلماً وتحوّل الى المسيحية او العكس. ربما أي شيء وكل شيء.
المعنى البسيط الذي ورد في فيلم ألن ذاك ليس نتيجة حوار وجده مناسباً، بل نتيجة موقف من الدين اتّخذه ألن وعبّر عنه أكثر من مرّة. في نهاية فيلمه المبكر “سليبر” (1973) تسأله دايان كيتون: “أنت لا تؤمن بالله، أليس كذلك؟” يرد عليها: “لا. لكني أؤمن بالحب والموت”
لابد من القول أن الدين شكّل في أفلام ألن مادّة مهمّة وإذا ما أراد المرء اختزالها جميعاً في فيلم واحد فسيكون هذا الفيلم هو “زَليغ”  (1983). هناك استعار المخرج شكلاً وثائقياً مفبركاً (بوضوح المخرج واختياره) ليسرد حكاية رجل  أسمه ليونارد زَليغ (والكلمة الثانية مستوحاة من الحرباء، ولو أن أصولها اللغوية جرمانية وتعني “مبارك”) ينتقل بين الأديان محاولاً البحث عن الذات الإلهية في كل منها. إذ ينتقل بطلاقة بين الأديان نابذاً اليهودية الى المسيحية والمسيحية الى البوذية، يدرك في النهاية أنه على حق إذا لم يكن يؤمن بأي منها. وهو كان أفضل من صنع الضحك الناتج عن الضياع والحيرة: في “موز” (1971) شاهدناه النيويوركي الذي تجده صديقته الملتزمة يسارياً غير معني بما تؤمن فيه تتركه. ردّاً عليها يتظاهر بتبنيه قضية سياسية ليجد نفسه وقد أصبح قائد دولة موز لاتينية متمرّداً على اليمين، لكن من دون إيمان لا بمنطلقه ذاك ولا باليمين ذاته.
لامست أفلام أخرى كثيرة جوهر الإيمان من عدمه وفي مجتمعات تنتمي سينماها الى الترفيه أساساً، كما الحال في السينمات الهندية والمصرية والأميركية، فإن الالتزام الديني مُصاغ حسب التعددية الشعبية لإتباع الدين الواحد. الفيلم الهندي سيتعامل واللغة الهندوسية غالباً وما تحمله من تعاليم او شخصيات او ميثالوجيات. السينما المصرية ستقدم علي التعامل مع الشيفرات التي ترضي وتنال إعجاب الغالبية المسلمة، ليس في مصر وحدها بل في أرجاء العالم العربي بأسره. أما الأميركية فستتعامل مع  الغالبية المسيحية التي كانت ولا تزال منشقّة على نفسها بين ليبرالية ومحافظة.

الاهتمام بالجمهور السائد عدداً نتج عنه   كل تلك الأفلام التي استنبطت من الإنجيل او دارت بوحي من ولادة المسيحية واليهودية من “بن حور” الصامت الأول (سيدني أولكوت- 1907) الى “كو?اديس” (إنريكو غوازوني- 1913) ومن “ملك الملوك” (سيسيل ب. د ميل- 1927) حتى  “الإنجيل” (جون هيوستون- 1966) و”العشاء الأخير” (مل غيبسون- 2004)
حيال الكتاب المقدّس يظهر المحك الحقيقي للهوية التي سيحملها الفيلم ولأي غاية.  فالأفلام التقت مع الكنيسة حين أرادت وناقضتها حين رغبت. في الحالتين كان الدافع مزيجاً من التجارة والموقف حيال الدين او الكنيسة (حالتان منفصلتان). فالأفلام التوراتية الأولى مثل “الوصايا العشر” لسيسيل ب. دميل، سنة 1956  و”أعظم قصّة مروية”  الذي حققه جان نيغيلسكو وديفيد لين وجورج ستيفنز  “ملك الملوك” لنيكولاس راي، لا تعرض نقداً للتوراة بل تروّج له. في حين أن أفلاماً مثل “تيوريما” لبيير باولو بازوليني (1968) و”عشاء المسيح الأخير” لمارتن سكورسيزي (1988) و”شيفرة دافنشي” لرون هوارد (2006) بحثت في أوجه غير كنسية بما يتعلّق بالدين حتى ولو طرحت الكنيسة موضوعاً كما في الفيلم الثالث من هذه النماذج. الفوارق ليست محض مواقف حيال الدين (مع او ضد) بل هي في جوانب غالبة سياسية. الفيلم الديني الملتزم بروايات التوراة والإنجيل يدعو للإقتداء بها وقبولها والبحث عن المحبّة من خلالها وإيصال رسالة إيجابية تدفع المشاهد للإيمان بها، إن لم يكن مؤمناً بها من قبل، او الحرص على إيمانه. في هذا الشأن الحكمة الغالبة هي وقوف الدين ضد التيارات  الأيديولوجية السياسية ليست الملحدة وحدها فقط، كالشيوعية، بل ضد سواها على امتداد ثقافات الشعوب الأخرى.

في علاقة السينما مع الدين وعلاقتهما معاً مع الشعوب يمكن الحديث مطوّلاً عن المنهج الذي يتّبعه كل جانب مع الجانبين الآخرين. السينما بحاجة الى جمهور وذاك يقوده الى موضوع الإيمان الذي هو الأكثر انتشاراً بين مختلف شعوب الأرض. في الوقت ذاته يحتاج الدين الى مساعدة السينما لكي يعزز تلك العلاقة كما يحتاج المؤمن لكليهما لكي يشعر بتفوّقه وبأنه مُبارك ومنتقى. الأمر الوحيد غير المشترك هو أن الدين (مبدئيا وسابقاً قبل وجود الكنائس الأميركية المنشقّة) لم يدخل في محراب التجارة، والشعوب لا تحقق في غالبيّتها أي مردود مادي من الإيمان، لكن السينما، كما كل النتاجات السمعبصرية والإعلامية، هذا ضروري سواء أكان ضرورياً لمواصلة رسالة او ضرورياً للاستفادة من الرسالة.


إعلان