لين وكوبولا ورحلتهما في أدب جوزيف كونراد
الحاجة لنقل الأدب عرفت طريقها إلى السينما منذ العقد الأول من القرن التاسع عشر. كانت السينما بدأت صوراً متلاحقة، ثم صوراً متواصلة مازجة بين الروائي والتسجيلي فيلم الأخوين لوميير «خروج العمّال من مصنع لوميير« (1895) ليس ككونه أوّل فيلم، بل ككونه أشهر فيلم أوّل، هو تدبير حال خروج عشرات العمّال لحظة فتح بوابة المصنع وتدفّقهم خارجه ذلك الفيلم لم يكن تسجيلياً (أو وثائقياً) كما هو مُشاع ولو اتخذ هذا الشكل، بل هو ترتيب غير تلقائي ودليل ذلك وجود عدّة نسخ من الفيلم تختلف كل منها عن الأخرى في تفاصيل مختلفة الفيلم الأول الفعلي، «مشاهد حديقة غراوندهاي» للويس أوغوستين لوبرينس (1888)
تم أيضاً التدخل في تحريك شخصياته التي توهمنا بأنها تقوم بالسير في حديقة لكن الحقيقة أن هؤلاء تحرّكوا بامتثال لتعليمات مخرج. لا يعني ذلك أن النحو التسجيلي للسينما لم يكن موجوداً فيلم لوميير “فلسطين” (1896) وفيلم «حاشية عربية في جنيف» (1897) مثالان على مفهوم السينما الوثائقية كاملاً: كاميرا هناك لتنقل ما نراه من دون تدخل منها
الحاجة لكي تسرد حكاية بلغة القصّاص تداعت في أواخر العقد الأول من القرن العشرين وسريعاً ما سنجد أن أولى محاولات اقتباس مسرحيات وليام شكسبير وردت في النصف الثاني من ذلك العقد: «كينغ لير« و»ماكبث« و»روميو وجولييت« كلها طُرحت سينمائياً في دقائق يسيرة لا تسل هنا عن كيف يمكن تلخيص العمل كاملاً الى بضعة مشاهد، لأن ذلك مردود عليه بأن سينما آنذاك لم تكن تتوقّع لنفسها أن تتجاوز نطاق الدقيقتين والثلاث دقائق من الصور لذلك كان البذل هو اختيار ما يمثّل بداية ونهاية الرواية الواحدة وليس تجسيد أي شيء منها وهذه الفترة كانت ضرورية للانتقال إلى المرحلة اللاحقة التي وصل طول الفيلم فيها الى عشر دقائق ثم الى عشرين دقيقة وبعد ذلك إلى تأسيس الفيلم كحالة قائمة بذاتها تتناول حكاياتها عبر سبيلين لا ثالث بينهما: التأليف الخاص للسينما والاقتباس من مصدر آخر
الاختلاف يكمن في أن محبّذي العالم الأدبي سيقولون لك: الكتاب هو الأساس، والمتشددون في حب عالم الرواية الأدبي ومناهج التعبير فيه سيؤكدون أنه لا بديل للكتاب وأن الفيلم عاجز عن نقل إبداعه الى صور في الجانب الآخر هناك أولئك الذين يعتبرون السينما هاضمة كل العوالم الأخرى في تجارب عدّة حاولت السينما التعبير عن حركة الضوء وفي مرّات مماثلة حاولت أن تجد صورة للصوت، كيف لا يمن لها أن تجد صوراً للمعنى الأدبي؟
على ذلك، هناك تحدّيات كبيرة تواجه السينما إذا ما أرادت تحويل أعمال أدبية معيّنة وكان المخرج ديفيد لين طالما منّى نفسه بعمل بصري كبير من تلك التي اشتهر بها (“لورنس العرب”، “دكتور زيفاغو” و”جسر نهر كواي”) يقتبسه عن رواية جوزيف كونراد “نوسترومو” (المنشورة سنة 1904 مشكلة هذه الرواية التي تم بالفعل نقلها إلى الشاشة عبر مسلسل تلفزيوني ألماني/ بريطاني مشترك سنة 1996 هي أنها، كباقي أعمال كونراد، وصفية السرد وليست قائمة على الأحداث في النهاية توصّل لين إلى قبول سيناريو يقص الحكاية التي تقع في مكان جنوب أميركي خيالي مع شخصيات هي أكثر شخصيات الكاتب اكتمالاً وتبلوراً بين معظم ما كتب لكن لين توفّي قبل أسابيع قليلة قبل بدء التصوير سنة 1991…
![]() |
جوزريف كونراد
رحلة الظلمات
السيناريو ليس متوفّراً للمطالعة، لكن إذا ما كانت “نوسترومو” من أكثر الكتابات صعوبة في التنفيذ، وإذا ما كان ديفيد لين من أكثر المخرجين تحدّياً للصعوبات، فإن هناك أشياء مثلت حلولا ساعدتهما على التعاون..
المسألة ليست كيفية تحويل عبارات تتحدّث عن دواخل أحد بطليهما الرئيسيين بقدر ما هي فك طلسم أبعاد شخصياتها جميعاً هذه الشخصيات حملت متاهات النفس الخائفة من خطواتها ومواقفها من مراجعة أفعالها ومواجهة نتائجها يركبها الخيال والهوس وتحاول أن تجد طريقها من دون أن تمد يدها إلى شمعة تنير لها دربها ليس فقط أنها صعبة النقل إلى صور، بل هي صعبة القراءة بقدر ما هي صعبة الكتابة الجمل طويلة وما تصفه لا يخلو من التعميم ما يجعل التخصيص تحديّاً لكنها تتميّز بجماليات لغتها وقوّة مدلولاتها وشعرية أبعادها وعمق ما يجول داخل تلك الشخصيات التي تحويها في مراجعته النقدية، يصف روي مكميلان ذلك العمق قائلاً: “مدى العمق الذي تتمتع به الرواية مثير للدهشة وبالغة التميّز بسبب القوّة الرمزية التي تحتويها”..
لكن إذا ما كان لين وجد الوسيلة لمعالجة هذا الموضوع كاسراً صلابة الأسلوب الذي كُتبت به (بعض المراجع تذكر أن كونراد وجد نفسه في مأزق حين كتب هذه الرواية بسبب السقف الإبداعي المرتفع الذي وضعه لنفسه ونظراً لحجمها وما حفلت به من صور شعرية ونثرية للعالم الذي أنشأته) فإن المخرج فرنسيس فورد كوبولا طوّع رواية وصفية أخرى كتبها كونراد بعنوان “قلب من الظلام “إلى فيلم شامخ بعنوان” سفر الرؤيا الآن” (1979)..
إنها ليست رواية طويلة تلك التي نشرها المؤلّف كتاباً سنة 1902 بعد نشرها على ثلاث حلقات في مجلة قبل ذلك التاريخ بثلاثة أعوام في الرواية هناك البريطاني الذي يأخذ على عاتقه قبول مهمّة استكشاف في الكونغو الظلام الذي في العنوان ليس واحداً بل على ثلاثة مستويات تعبّر الرواية عنها تعبيراً رائعاً: هناك الظلام الذي يشمل الرحلة بأسرها ظلام الغابة التي يشقّها المركب الذي يحمل فوقه الرحالة تشارلز مارلو، كما هو اسم الشخصية الأصلية، ثم الظلام الذي يعيش داخل تشارلز مارلو والثالث هو ظلام المهمّة التي يقوم بها كظل لواقع الاحتلال الأبيض للكونغو وبل للقارة الأفريقية بأسرها…
في اقتباسه، وجدنا كوبولا يحافظ على تلك المستويات الثلاثة حتى من بعد التحريف في المهمّة المسنودة إلى بطله الكابتن بن ويلارد (مارتن شين) لقد طلبت منه الإدارة العسكرية الأميركية الانتقال إلى موقع الكولونيل وولتر كورتز الكامن في أعماق فيتنام عند الحدود الكمبودية لتنفيذ مهمّة قتله بن ويلارد عليه أن يتعامل خلال ذلك مع شخصيّته ونظرته إلى الأمور يبحث في نفسه وفي تاريخه الشخصي والعسكري بلا ثقة وحين يلتقي والكولونيل (لاحظ أن الكابتن ولارد أصغر رتبة من الكولونيل كورتز ما يجعل تنفيذ المهمّة أكثر صعوبة واستدعاءاً للخروج من الزي العسكري الى الشخصية المدنية واستحالة ذلك في الوقت ذاته) فإن ثقته غير المعول عليها أساساً تنزلق إلى حيث لا قرار طريقته الوحيدة في تنفيذ المهمّة سوف لن تكون تنفيذ الأمر المناط بعملية قتل أو اغتيال بمنهج عسكري أو حتى سياسي، بل تنفيذ المهمّة باللجوء تماماً إلى حس القاتل في ذات كل شخص منا