“ريستريبو”..جنود غرباء يطاردون أشباحا في كورانجال!
قيس قاسم
معايشة الأحداث والإقتراب، قدر المستطاع، من صناعها والمشاركين فيها، اسلوب عمل اتخذه الكثير من المخرجين، لما فيه من مزايا حرفية كثيرة تعود على أعمالهم بالنفع وتضفي عليها مصداقية أكبر، خاصة في الأفلام الوثائقية التي لها علاقة مباشرة بالحروب أو الأحداث الدراماتيكية الخطرة، ففيها تتجلى بصورة أوضح أهمية المعايشة الحية على ما فيها من خطورة كبيرة على حياة العاملين فيها، وتجربة حربي العراق وأفغانستان بينت ذلك بسطوع. ولكن وفي مثل تلك الحالات صارت المغامرة جزءا ملازما لصانعة أي فيلم يذهب الى تسجيل تفاصيلها اليومية، لأن النتائج النهائية، والغنية في الغالب، تغريهم لخوضها، كما في تجربة الأمريكيان تيم هيذرنغتون وسيبستيان جونغر، الجديدة، وفيها بررا وبشكل مقنع أسباب مرافقتهما للكتيبة الثانية التابعة للجيش الأمريكي في منطقة وادي كورانجال لأكثر من 15 شهرا، صورا خلالها جنودها وسجلا تفاصيل حياتهم في هذة المنطقة الخطرة من أفغانستان، ويكفي للدلالة على خطورتها ان الكتيبة الهندسية، التي شيدت موقعا عسكريا سريعا، أعطته نفس اسم الجندي الذي سقط قربه؛ المسعف الطبي، خوان س. ريستريبو، ومن هنا جاء اسم الفيلم، الذي جمع بين الموقع والجندي، الذي رافقته كاميرتهم منذ صعوده الطائرة العسكرية المتجهة الى أفغانستان مرورا بكورانجال والجو المرح الذي كان يخلقه، خلال أوقات أستراحتهم القليلة فيها، وصولا الى اللحظة التي سقط فيها صريعا وترك موته أثرا نفسيا سيئا على زملائه في موقعهم المعزول بين الجبال الشاهقة الوعرة.
اشتغل المخرجان الأمريكيان في “ريستريبو” على مستويين: في الأول سجلا تفاصيل حياة الجنود ومعاركهم مع مقاتلي طالبان، أثناء تنفيذهم للمهمة التي أوكلت اليهم، في اقامة الموقع العسكري الوحيد في منطقة كورانجال ليصبح فيما بعد نقطة ارتكاز حيوية للقوات الأمريكية، تكسر هيمنة طالبان من جهة، وتنشأ قاعدة توصل بين سلاسل الجبال الشاهقة هناك، والمغطاة بسطح نباتي يجعل مراقبة تحركات الأفغان من الجو أمرا مستحيلا، من جهة أخرى، لهذا كان الرهان كبيرا على دور جنود الوحدة في بنائه. وعلى المستوى الثاني أجريا مقابلات مع بعض جنودها وطرحوا عليهم أسئلة تتعلق بوجودهم هناك ومشاعرهم وما يعانون منه جراء معاركهم اليومية الساخنة مع “أشباح طالبان”.
بجمعهما صور الحياة اليومية خلال أكثر من عام كامل والمقابلات الصحفية مع الجنود، صنعا الأمريكيان تيم هيذرنغتون وسيبستيان جونغر فيلما وثائقيا غاية في الأهمية، أعطى وبقدر عال من السلاسة صورة عن حالة الجنود الأمريكان تختلف الى حد كبير عن تلك الصورة التي قدمها الدنمركي يانوس ميتس في فيلمه “أرماديلو” عن تجربة الجنود الدنمركين في أفغانستان، أيضا مع شدة تقاربهما من حيث الاسلوب والموضوع (راجع ما كتبناه في هذا الموقع). فعلى الجانب النفسي وجدنا الجنود الأمريكان أكثر انشغالا في البحث عن معنى وجودهم في هذا المكان الغريب، العدائي والمنفر في كل شيء، فنراهم يتذمرون من شدة برد الجبال شتاءا ومن قسوة حرها صيفا، وأكثر ما كان يحيرهم هو ذلك الغموض الذي كان يحيط بهم، لدرجة صار يخيل لهم فيها انهم في مواجهة كائنات غريبة لا يعرفون عنها شيئا، وكل قوة الشحن التي كانت تحلت بها خطابات قائدهم لم ترفع من هممهم كثيرا، لأنها لم تلامس وجدانهم فضاعت في الهواء.
![]() |
من الفيلم |
عدم ظهور طالبان في أي لقطة زاد من هذا الغموض وعمقه داخل الجنود وعند المشاهد، الذي ربما وبسببه قد يطرح سؤالا، عن طبيعة هذا التغييب وما إذا كان متعمدا من قبل صناع الفيلم، أم أنه كان نقلا صادقا لحقيقة ما كان يجري هناك؟ وفي كل الأحوال فقد وَصَل هذا الغياب حالة الجنود النفسية الى أدنى مستوياتها، وأضعف معنويات جنود الكتيبة الثانية كثيرا، فكان سقوط أحدهم، في معاركهم مع العدو اللامرئي، يضخم عندهم الإحساس بدنو شبح الموت منهم، ولهذا كان وجود ريستريبو بينهم له كبير معنى، ولحضوره المرح وحبه للموسيقى أثرا كبيرا في رفع معنوياتهم. لقد كان الشاب ذو ال20 عاما مليئا بالطاقة وقادرا على نقل مفعولها الى الآخرين. لقد كان، بإختصار، عنصرا ايجابيا في مناخ كلي السلبية ولهذا وحين قتل صرخ الكثير منهم بعبارة واحدة: “لا. إلا ريستريبو!”. لقد جسد موته لحظة المواجهة الحقيقة التي كان على الجنود مواجهتها منذ اللحظة التي وصلوا فيها الى أفغانستان، وما منحهم أسمه للموقع الذي كان يقيمون فيه سوى محاولة منهم لإبعاد هذة اللحظة والتشبث بقوة بالحياة على حساب الأفغان، وهذا ما أتضح من خلال العلاقة بينهم وبين أهالي المنطقة، المقيمين في بيوت أقرب الى الكهوف منها الى السكن الآدمي. فالفقر كان عنوانا لهيئاتهم وأجسادهم النحيلة وأرواحهم الحزينة، والتي زادت عليها قساوة الأمريكان حزنا حين قتلوا الكثير من أبنائهم وماشيتهم القليلة، ومشهد مقايضة صاحب بقرة قُتلت بنيران الأمريكان يوجع القلب. فمالكها العجوز كان يريد تعويضا ماليا، يشتري به بقرة بدلا عن تلك التي خسرها، لكن الضباط رفضوا ذلك واقترحوا عليه بدلا عنها مواد غذائية تساوي وزنها، متناسين ان بقرته، ومثل كل الفلاحين الفقراء في العالم، تعني له ربما المصدر الوحيد للعيش، خاصة في هذة الجبال القاسية التكوين. كانت العلاقة المتنافرة مع الخصم تؤجل وبإستمرار بوح الجنود بما كانوا يشعرون، لهذا كانوا تواقيّن لإقتناص اللحظة التي يجلوسون فيها أمام عدسة الكاميرا، ليُبيحوا بما يحسون به من ألم وعدم رضى. كانوا يفشون أسرارهم أمام عدسة الكاميرا كما لو أنهم يجلسون أمام راهب كنيسة، يقولون ما في سريرتهم بسهولة وصدق. كانوا يعلنون صراحة عن خوفهم وانتظارهم للحظة التي ينهون فيها مهمتم. ولهذا كانت اجاباتهم شبه موحدة على السؤال الذي طرح عليهم:
– بعد هذة التجربة، هل تريدون العود الى هنا ثانية؟
– لا. نريد ذلك!.
لقد مثل جوابهم اعترافا ضمنيا بخوفهم ومرارة تجربتهم الطويلة في هذا المكان الموحش، فكانت رغبتهم في العودة الى وطنهم لا تعادلها إلا رغبة الخروج، وفي الحال، من هذا الوادي المرعب، أحياء سالمين، لا أكثر!