خيمة أم كامل : غطاء فلسطين
فجر يعقوب
تنجح السيدة الفلسطينية أم كامل الكرد بجعل خيمتها مصدرا مهما في ازعاج السلطات الاسرائيلية في حي الشيخ جرّاح في القدس الشرقية ، لابل وسوف تحظى بدعوة لتشرح معاناتها أمام مجلس العموم البريطاني . عدم حصولها على تأشيرة دخول المملكة المتحدة لايعني أن أم كامل قد أخفقت تماما ، فهي تواصل نضالها من أجل العودة إلى بيتها المسلوب منها ، منذ أن صدر قرار اخلائها له نهائيا في 4 تموز 2008 .
يخبرنا فيلم ( خيمة أم كامل الكرد ) ، وقد بثته مؤخرا فضائية الجزيرة ، أن أم كامل تعرضت لابتزاز منظم ومبرمج لتغادر بيتها ، فحتى ترميمه كان يخضع لغرامات تصل إلى 28 الف شيكل ، واسكان أولادها فيه أيضا ، ناهيك عن اقتحام قطعان المستوطنين له انطلاقا من ” ثغرة ” تستغلها الهيئات اليمينية اليهودية المتطرفة للاستيلاء على بيوت حي الشيخ جرّاح ، وهو ماأدى على مرأى من أبصار العالم إلى الاستيلاء على بيوتات عائلات الكرد والغاوي وحنون بنفس الطريقة ، والأدوات المنسوبة إلى عنصرية كريهة يعكسه تحالف هذه الهيئات مع المال المتوحش الذي يمثله رجال أعمال يهود كبار مقيمون في الولايات المتحدة مثل ارفيمون موسكفيتش على سبيل المثال لاالحصر .
خيمة أم كامل لاتعود هنا ملجأ لهذه السيدة الصابرة ، المتعللة ببصيرة لاتتعب ، فنحن سوف نتابع عبر الفيلم المعدّ عنها أجانب من جنسيات مختلفة يتعاطفون معها ، حتى حين يتعرضون للضرب أمام الكاميرات ، نجدهم يزدادون تشبثا ، بأعمدة الخيمة ومكوناتها ، وكأنها أصبحت بالفعل رمزا اضافيا في معركتهم ( الكونية ) مع عدو شرس لايوفر سانحة إلا ويقوم من خلالها بفرض العقوبات ، كأن يطالب أم كامل بغرامة قدرها 3500 شيكل مقابل أتعاب من قاموا برمي أمتعتها من بيتها إلى الشارع . ولن تتوقف معركة أم كامل مع هذا العدو عند هذا الحدّ ، حتى من بعد وفاة زوجها متأثرا بعدة جلطات قلبية متتالية ، فبعد رحيله بشهر ونصف قاموا بمطالبتها بدفع غرامة أخرى مهددين اياها بحبس أولادها في حال رفضت ذلك . ومع ذلك تضيف أم كامل إنها صممت على البقاء ، فقامت في 11/11/ 2001 ببناء خيمة مطلة على شمالي الأقصى ، وأقسمت أنها لن تخرج من حي الشيخ جرّاح إلا على جثتها كما تقول ، وبعد ذلك بنيت خيمات كثيرة في كل المناطق المحيطة بخيمتها ، ونام فيها أجانب من مختلف الجنسيات .
![]() |
ام كامل امام خيمتها |
صاحب الأرض التي بنيت عليها الخيمة يقول من جهته أنه تعرض للابتزاز والتضييق عليه مقابل ازالة الخيمة ، ولكنه يشير إلى أن أم كامل ليس لها مكان تذهب إليه سوى هذه الخيمة ، فالخيمة أصبحت منذ أيام النكبة الأولى ، ملازمة للفلسطيني في ترحاله ، وأم كامل نفسها اعتادت اللجوء ، فهي من سكان ال48 أصلا ، واستبدال بيتها بخيمة ليس شيئا جديدا عليها ، فأم كامل تعي جيدا ، أن اسرائيل في معاركها الاستيطانية مع الشعب الفلسطيني ” لاتريد له أن يصيح من الألم ” . ولكن أم كامل تقول إنها لن تستسلم ، ولن تسكت ، ولن تيأس ، لأنها في مثل هذه الحالة سوف تنتهي .
خيمة أم كامل تتوسع رموزها ، حين يجتمع تحت سقفها مؤسسات اسلامية ومسيحية ويهود ، وقناصل ودول أوروبية وشيوخ وكهنة وحاخامات ، لا بل أن حاخاما يبدو من كلامه أنه متعاطف مع حالتها يخبرها بأن ” حكومة اسرائيل مهزوزة، ولو لم يكن هناك شعب فلسطيني ينشغل به سياسيو هذه الدولة العنصرية ، لأكلوا بعضهم البعض “. بالطبع لايفوت هؤلاء العنصريون مناسبة إلا ويقومون بالتهديد بهدمها ، لأن بقاؤها سيظل يذكر بمحاولات احاطة القدس بمستوطنات مثل حارهوماه وغيرها من المستوطنات السرطانية التي تقوم على أراضي فلسطينيين يقيمون في القدس الشرقية ، وهي لم تتوقف ، فمنذ عام 1972 بدأت مشاكل أهالي هذه الأحياء مع السلطات الاسرائيلية في عمليات عض أصابع متبادلة ، غالبا مايخسر فيها الفلسطينيون ، وإن أبدوا قدرات غير متناهية على الصمود والمقاومة ، وماخيمة أم كامل إلا مثالا ، فنحن سوف نشاهد مجموعة من الشبان يقومون برفع أعمدة الخيمة التي تهدمها الشرطة الاسرائيلية ، وهم يؤكدون في كل مرة أن شغلهم يسير في الطريق الصحيح . فالخيمة تتعدى مأساة أم كامل الشخصية ، وتصبح تدريجيا تحمل معاني الوجود العربي في القدس في معركته ضد الاستيطان ، فالاسرائيليون لايملكون الأرض ، وهم يشيرون إليها بأوراق مزورة ، ولهذا يعتبرون الخيمة مصدر تهديد لهم ، فمحامي عائلة الكرد صالح أبو حسين يؤكد أنه قد توجه إلى الأرشيف العثماني في أنقرة واسطنبول ، وبعد فحص الموضوع من مختلف نواحيه توصل إلى نتيجة تؤكد أن الأوراق اليهودية حول وجود قبر لأحد الأولياء اليهود مزيفة ، وأن الأرض في الواقع تعود في ملكيتها لعائلة فلسطينية تحمل اسم عائلة شمعون ، وأنه لاوجود لولي يهودي اسمه الصديق شمعون .
![]() |
وأم كامل التي تلجأ إلى محكمة الصلح الاسرائيلية تدرك بنباهتها أنها لجأت إليها لأنها تقع تحت سلطة احتلال جائر ، ولأن الوضع الفلسطيني ” ليس قانونيا ” ، وانما هو وضع سياسي قائم على تهجير الشعب الفلسطيني ، وفرض الواقع الديني والديمغرافي اليهودي . ولكن الخيمة تفعل فعلا معاكسا ، فأهم استراتيجية لمواجهة التهديد ، هي استراتيجية تثبيت الهوية والشعب والأرض والسكان المقدسيين للمحافظة على عروبة القدس وهويتها الفلسطينية .
خيمة أم كامل هدمت سبع مرات كما تقول لويزا مورغينتيني ، النائبة السابقة لرئيس البرلمان الأوروبي ، وعرض على أم كامل مبلغ 15 مليون دولار لمغادرة أرضها وبيتها ، ولكنها تحولت إلى رمز لكرامة الشعب الفلسطيني كما تقول مورغينتيني ، التي لم تتمكن من حضور جنازة أبو كامل ، فأرسلت اكليلا من الورد مكتوب عليه ( سامحونا ) . وهذه الخيمة التي بنيت على أرض عبيدات دفعت الشرطة الاسرائيلية إلى محاربة صاحب الأرض الأصلية في كل أماكنه ، فاعتقلوه وهدموا له أملاكا بقيمة 100 ألف دولار . والحق كما تقول عجوز فلسطينية إن أميركا لن تهتم بقطعة أرض طالما انها استولت على العراق بأكمله . وثمة شارع واحد يفصل بين خيمتي أم كامل ، وأم نبيل الكرد . هذا يعني أن ثمة تفاقم للأمور . صحيح أن أم كامل أخفقت بدخول الأراضي البريطانية لتشرح معاناتها هناك أمام مجلس العموم ، إلا أنها نجحت بقوة وثبات في انجاز أهم مايمكن انجازه في معركتها مع هذا العدو الشرس ، حين تحولت الخيمة تدريجيا إلى غطاء لعموم الأراضي الفلسطينية المهددة بالاستيطان ، وثمة تأكيد ، على أن هذا الغطاء ليس خيمة فقط يأوي أم كامل ويحميها شر البرد والقيظ ، بل رمز فلسطيني يتكرر دائما ، ويؤكد أن المعركة المقبلة ستكون من حول الرموز الكبيرة التي يطلقها الشعب الفلسطيني حين يقرر ألايغادر أرضه ، كما تفعل أم كامل في معركتها المتعددة الوجوه مع آخر عدو استيطاني على هذه الأرض . الفيلم من انتاج مؤسسة القدس الدولية ، ومؤسسة طيف الأردنية ، وإن لم نتمكن من معرفة اسم معده ومخرجه ومصوره لعدم وجود تيترات مرافقة له ، إلا أنه يظل يحمل بصمة التوثيق والاعداد الجيدين ، وهو ماساعد على بثه والدعاية المتكررة له عل شاشة الجزيرة عبر الأيام الماضية ، وهو سيساعد أيضا على ابقاء قضية أم كامل مطروحة على وعي ووجدان العالم ، فالمعركة هنا ، ليست فقط على الأرض أو على خيمة من القماش السميك ، بل على الرموز ، والرموز هنا كما تريدها هذه السيدة الفلسطينية كبيرة ومتحولة … وحيّة .