في «السينما المستقلة»
بشار إبراهيم
يحيل عنوان «السينما المستقلة» إلى البحث في المُسمَّيين المُتضمَّنين فيه، فهي «سينما» أولاً، وهي «مستقلة» ثانياً.. وفي الوقت الذي يشير كونها «سينما» إلى اشتراطات فنية تتعلق بطبيعة البناء والسرد، ومن ثم الجدارة بالانتساب إلى هذا النسق الفني، الذي راكم عبر أكثر من قرن من الزمان، مضى على اختراع الأخوين لوميير (1895)، خبرات وتجارب، وانفتح على نظريات واقتراحات ومساهمات.. فإن كونها «مستقلة» يقود إلى اشتراطات فنية تقنية وفكرية، على السواء، إذ أن «الاستقلال» هو: «مصطلح ينتمي في الأصل إلى القاموس السياسي»، وهذا يصحّ كما في السينما، كذلك في سائر أنماط الفن، والأدب، ومختلف الفعاليات، باعتبار أن الاستقلال إنما يدلّ على «التمرُّد، والرغبة في التفرد، وتأكيد الذات» .
والربط ما بين المُسمَّيين (السينما، الاستقلال) لا يُفضي وحده إلى معطيات ناجزة، إذ من المنطق أن لا يكفي للفيلم أن يكون مستقلاً، حتى يكون فيلماً جيداً، بل إن هذا يُعتبر معياراً خارجياً بالنسبة للفن، لا يجوز نقدياً الاعتماد عليه، فالفيلم أصلاً هو فن سينمائي، وينبغي له أن يحقق شروط هذا الفن من حيث البنية الفنية، التصوير والمونتاج والموسيقى والمؤثرات.. وبالتالي لابد أن يكون لـ «الاستقلال» معنى في هذه الحالة، إذ ليس كلَّ رفض أو تمرّد، يؤدي آلياً إلى مفهوم «الاستقلال»، بل لابد لهذا أن يكون في سياق واعٍ ومُدرِك، نابعاً من الحاجة.. فأن تكون مستقلاً يقتضي أن تكون على معرفة بما هي الدوافع لهذا الاستقلال؟.. وعمَّن تستقل؟.. وفي أي اتجاه؟.. ولماذا؟..
![]() |
من فيلم البشرة المالحة بضع من ايام أخر |
مبدئياً، يشير مصطلح «السينما المستقلة» إلى تلك الحركة التي نشأت في الولايات المتحدة الأمريكية، في أوائل السبعينيات من القرن العشرين، لتتمرد على سلطان نظام الأستوديوهات الأمريكي، بما يمثله من قواعد وتقاليد فنية وفكرية سائدة، لا تسمح بتقديم المختلف، ولتقدم أعمالاً فنية خارجة عن السائد، متمردة، سواء على العلاقات الإنتاجية والظروف الاقتصادية لإنتاج الفن السينمائي .
ويعتبر الناقد العراقي عدنان حسين أحمد، أن «الفيلم المستقل» هو نواة «السينما المستقلة»، ويرى أن الضرورة تستدعي أولاً تعريفه، فيرى أن «الفيلم المستقل»: «هو أي فيلمٍ يُنتج بشكل كامل بواسطة كاميرا رقمية ديجيتال، ومن دون تمويل، أو توزيع، من قبل أستوديو سينمائي كبير، وبتكاليف رخيصة جداً، لا يمكن مقارنتها إطلاقاً بكلف وأثمان الأفلام التي تنتجها الشركات الكبرى، وبرؤية ذاتية متحررة تماماً من قيود وضوابط الشركات الكبرى التقليدية التي لا تميل إلى الأساليب التجريبية التي يعتمد عليها الفيلم المستقل» .
وعلى الرغم من أن هوية السينما، والحديث عن وجودها، ليس حاصل وجود مجموع أفلام، مهما تكاثرت بشكل حسابي، أو عددي، وعلى الرغم من أن السينما ليست تجميعاً بطريقة ميكانيكية لعدد من الأفلام، إلا أن خصائص تلك الأفلام، التي تتحوَّل في استمرارية إنتاجها، ونتيجة تملُّكها لآليات وسياقات وطقوس عمل، إلى تيار أو ظاهرة فنية وإنتاجية، ومن ثم إلى هوية، هي السينما.. نقول إن تلك الخصائص سوف تتسرَّب من الأفلام لتضفي سماتها على هذه السينما، وتحدِّد ملامحها، وتخومها، وطبيعتها..
![]() |
وربما هذا ما جعل الناقد عدنان حسين أحمد ينتهي إلى أن «السينما المستقلة» هي: «غالباً ما تكون ذاتية، أو تسعى لتأكيد الذات، ومعتمدة على ميزانيتها المتواضعة، ومتمردة على شروط السوق، والرقابة، ومتحررة من اللغة القسرية، والأفكار الجاهزة التي تنسجم مع التوجهات الفكرية والتجارية للشركات الكبرى» .
وبالعودة إلى مفهوم «الاستقلال» ذاته، نجد أن المخرج المصري أحمد أبو زيد يرى أن «تكون سينمائياً مستقلاً، لا يعني بالضرورة الرفض التام، لكل ما هو ممثل للكيان السينمائي، أو المؤسسة السائدة، والمسيطرة على عناصر وأطراف عمليات الإنتاج، والتوزيع» ، بل إن التجربة العالمية، في مجال «السينما المستقلة»، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، وأوروبا الغربية، بيَّنت أن «الاستقلال» إنما كان يعني غالباً الخروج على «نُظم العمل، ومنهجية وآلية التفكير التي تفرضها المؤسسة الهوليودية، بكل مشتقاتها السينمائية والتلفزيونية والترفيهية» .
مما يعني أن «الاستقلال» إنما يتم بوعي وإدراك: تمرداً على آليات ونُظم عمل، وخروجاً على آليات ومنظومات تفكير.. ومع ذلك، فهناك من يعتقد، مع أبو زيد، أن «الرغبة، أو الضرورة التي تدفع بالسينمائي إلى العمل بشكل مستقل، لا تعني الوقوف على طرف النقيض من تيارات السينما الجماهيرية، وإن كانت في أغلب الأحيان تعني رفض التهافت والركاكة» . ومع أنه لا يمكن وصم سينما القطاع العام، على الأقل في سورية، بـ «التهافت أو الركاكة»!..
من جهته، يقول المخرج جيم جاراموش، أحد كبار رواد السينما المستقلة في العالم: «إنني مشوش بعض الشيء مما أراه على ساحة السينما المستقلة، ولم أعد أعلم ماذا تعنيه هذه الكلمة!.. بالنسبة لي هي تعني امتلاك السيطرة على عملك، وصنعه بدافع حب السينما» .
وبمقدار هذا التبسُّط في تعريف معنى الاستقلال في السينما، والوضوح في الذهاب إليها، وتحقيقها، فإنه يبين أيضاً حجم التشابك والتعقيد، في مجال تأصيل مفهوم «السينما المستقلة»، عالمياً، ومحدودية القدرة على التوافق في التوصل إلى مفاهيم، أو تعريفات، واضحة المعالم، حتى أن هناك من يرى أن «الأصل في الفن هو الاختلاف.. كل فنان يأتي بفكرة جديدة فنياً، أو إنتاجياً، يُعدُّ فناناً مستقلاً» ، وهذا ما يوسِّع من دائرة «الاستقلال»، لتشمل «التجريب»، و«التجديد»!..
![]() |
بضع من أيام أخر |
بينما يذهب إلى تعويم فكرة «الاستقلال»، ومنحها بنية مطاطية، غير ثابتة، بل متحوِّلة من مكان إلى آخر، أو من زمن إلى غيره، وذلك بالقول إن «فكرة الاستقلال إذا طبقتها في بلد السينما فيه حكومية، يصبح المستقل هو من يصنع فيلماً ليس حكومياً، وإذا طبقتها في بلد تسيطر على السينما أفكار واحدة، يصبح المستقل هو من يصنع فيلماً مختلفاً مع السائد، وإذا طبقتها في بلد تقوم على إنتاج الأفلام في أستوديوهات وشركات ضخمة، يصبح المستقل من يصنع فيلماً فقيراً، أو منخفض التكاليف» .
وهذا أيضاً مما يزيد تشويش مفهوم «الاستقلال»، بشكل يحدُّ من التوافق على حدود واضحة له، محلياً أو عالمياً. حيث أننا ننتبه الآن، إلى من يبقول إن ما يمكن أن نعتبره مستقلاً في بلد ما، لا يمكن اعتباره مستقلاً في بلد آخر، على الأقل بسبب طبيعة الدعم أو التمويل، وفي هذا الإطار مثلاً، سنجد فيلماً يُعتبر مستقلاً في مصر أو تونس أو سوريا أو فلسطين أو لبنان أو العراق، ولكنه لن يُعتبر مستقلاً في فرنسا أو ألمانيا أو بلجيكا، بسبب حضور إنتاجي من قبل مؤسسات، أو من قبل جهات، حكومية أو غير حكومية، من تلك الدول.
كل هذا مما يشجعنا على القول إن مفهوم «السينما المستقلة» ما زال مفهوماً قلقاً، غير ناجز، وغير منته، وبالتالي لابد من المساهمة في تحديد تخومه، وتوضيحه، ومن ثم تأصيله، وفضّ الخلافات حوله. وإذا رأى البعض أن «منبع الخلاف على معنى السينما المستقلة يرجع لكون هذا المصطلح ما زال يحبو حثيثاً في وطننا العربي، وأن نشأتها في الولايات المتحدة أواخر الستينات والسبعينات، تكفَّل للمصطلح استقراره هناك، وتأرجحه هنا» ، فهذا الكلام صحيح في جزء منه، ولكن ما هو من الصحيح أيضاً، وفضلاً عن ذلك، أهمية الانتباه إلى ضرورة الانتقال من مفهوم الاستقلال الانتاجي المحض، إلى مفهوم الاستقلال الفكري، ومن ثم إلى مفهوم الاستقلال الفني، وكما في الإبداع كذلك على صعيد التلقي، وفي مجال تنمية الذائقة الفنية للمتلقين… يتبع
هوامش
1 – ضياء أبو اليزيد: «السينما المستقلة.. وضرورة البحث عن مشروع جماعي»، ضمن كتاب: «السينما المستقلة في الوطن العربي»، تحرير: أحمد رشوان، حسام علوان، إصدارات وزارة الثقافة، المركز القومي للسينما، مطبوعات مهرجان الاسماعيلية الدولي السادس للأفلام التسجيلية والقصيرة، 2002، ص8.
2 – http://www.islamonline.net/arabic/arts/2006/03/article17.shtml
3- عدنان حسين أحمد: الحوار المتمدن، العدد: 1336 تاريخ 3/10/2005.
4 – عدنان حسين أحمد: الحوار المتمدن، العدد: 1336 تاريخ 3/10/2005.
5 – أحمد أبو زيد: «السينما المستقلة.. بين الجماهيرية والتجارية»، السينما المستقلة في الوطن العربي، تحرير أحمد رشوان، حسام علوان، إصدارات وزارة الثقافة، المركز القومي للسينما، مطبوعات مهرجان الاسماعيلية الدولي السادس للأفلام التسجيلية والقصيرة، 2002، ص10.
6- أحمد أبو زيد: المصدر السابق.. ص10.
7 – أحمد أبو زيد: المصدر السابق.. ص11.
8 – أحمد رشوان: «السينما المستقلة.. ومأزق التسميات»، السينما المستقلة في الوطن العربي، تحرير أحمد رشوان، حسام علوان، إصدارات وزارة الثقافة، المركز القومي للسينما، مطبوعات مهرجان الاسماعيلية الدولي السادس للأفلام التسجيلية والقصيرة، 2002، ص4.
9 – سعد هنداوي: «سمات.. الأفكار الطموحة تتحول إلى أشرطة»، في كتاب: «السينما المستقلة في الوطن العربي»، تحرير أحمد رشوان، حسام علوان، إصدارات وزارة الثقافة، المركز القومي للسينما، مطبوعات مهرجان الاسماعيلية الدولي السادس للأفلام التسجيلية والقصيرة، 2002، ص14.
10 – سعد هنداوي: المصدر السابق.. ص14