وثائقي يكشف أسرار الرقابة السينمائية البريطانية

يكشف فيلم تسجيلي بريطاني عرض مؤخرا على شاشة قناة (بي بي سي) الرابعة، عن المراسلات التي تبادلتها مؤسسة الرقابة السينمائية البريطانية (The British Board of Film Censorship) مع مخرجين واستوديوهات إنتاج سينمائية بريطانية وأمريكية لفترة تقترب من الأربعين عاما. فتغطي المراسلات فترة زمنية تمتد من بداية الخمسينات من القرن الماضي الى بداية عقد التسعينات منه. وهي السنوات التي شهدت التغيرات الكبيرة في السينما، من تحولها من وسيلة ترفيه للعامة، تجذب الجمهور الواسع من الطبقة العاملة، إلى فن أكثر خصوصية في علاقته مع صانعيه، والى مرآة تعكس هواجس العصر ومخاوفه.

وهذه هي المرة الأولى التي تفتح فيها المؤسسة السينمائية البريطانية أرشيفها لجهة إعلامية، في إشارة إلى أن التغيير لم يتسلل فقط إلى طبيعة المفاهيم التي تحيط ب (الرقابة) في بريطانيا في العقود الأربعة الأخيرة، ولكن أيضا إلى المؤسسة ذاتها (غيرت اسمها قبل سنوات من رقابة إلى تصنيف)، والتي أيقنت أن دورها الحيوي الراهن، يمكن أن يتواصل بشفافية إعلامية مستمدة من وضوح الأهداف والمنهج. رغم إن المؤسسة امتنعت عن كشف أرشيفها لفترة العشرين عاما الماضية، لأسباب تتعلق بحماية العاملين فيها، والذين لازالوا يشغلون مناصب في المؤسسة نفسها أو في أمكنة أخرى، وما يمكن أن تثيره وثائق معينة بإثارة مشاكل، ارتأت المؤسسة أن لا تغامر في التورط فيها.

وإذا كان كثير من وقت فيلم (عزيزي الرقيب: زمن التحول) اتجه إلى أفلام إشكالية شهيرة، كأفلام المخرج البريطاني كين رسيل أو فيلم المخرج الأمريكي ستنالي كوبريك (البرتقالة الآلية)، إلا أن الفيلم الذي سجل لقاءات مع نقاد ومؤرخين سينمائيين بريطانين، كشف عن مفاجآت، كالجدل الذي أثاره فيلم (متمرد بلا قضية) للنجم جيمس دين. والذي اعتبرته الرقابة البريطانية وقتها ( عرض الفيلم في عام 1955) مسيئا للقيم العائلية، باعتبار  أن صورة الأب في الفيلم غير لائقة وان بعض المشاهد الخاصة به يجب حذفها قبل عرض الفيلم في بريطانيا. الأمر الذي أزعج مخرج الفيلم نيكولاس راي والذي رد برسالة طويلة للرقابة، بان المشاهد الخاصة بإفلاس الأب وانهياره المريع، أساسية لفيلم أراد أن يلامس انتهاء حقبة زمنية معينة في نهاية الخمسينات من القرن الماضي، وان أزمة الشخصية التي لعبها جميس دين، ترتبط بتهرؤ “المثال” في حياته.

مارلون براندو في فيلم “البري”

الفيلم يكشف أزمة أخرى أثارها فيلم (البرّي) للمخرج لاسلو بيندوك والذي لعب بطولته الممثل الكبير مارلون براندو. فالرقابة البريطانية اعتبرت أن وسامة براندو ستزيد من “تمجيد” السلوك المتمرد للشخصية التي يلعبها في الفيلم، والتي تسخر في مشاهد عديدة من السلطات، كالبوليس وإدارة المعمل الذي يعمل فيه. الرقابة بررت خوفها مما يمكن أن يثيره الفيلم من مشاعر مشابهة في بريطانيا التي كانت تشهد وقتها ( أنتج الفيلم عام 1953) اضطرابات عمالية.

مشاكل عقد الخمسينات السينمائية في بريطانيا لن تقارن بالعقدين القادمين بعده، والذين سيكونان بداية عقد “التحرر” من كل تقاليد ونظم السنوات الطويلة التي سبقته، كذلك سيكونان بداية لسينما المؤلف في بريطانيا وأوربا. وهو الأمر الذي سيعني تحديات جديدة للرقابة في بريطانيا. خاصة مع بداية وصول “التحرر الجنسي” إلى السينما، والذي حاولت الرقابة البريطانية إقصاءه بإعطاء تصنيف للكبار فقط لأفلام تضمنت مشاهد جنسية أو عري، الأمر الذي كان يعني  في بداية الستينات من القرن الماضي، القضاء على أي نجاح تجاري للفيلم. فأفلام “الكبار فقط” كانت تعرض في صالات معدودة جدا، وفي المدن الكبيرة فقط، بسبب رفض اغلب مالكي الصالات السينمائية، تخصيص  أوقات وصالات سينمائية لعرض أفلام الراشدين، لاعتبارات تجارية وقتها، ارتبطت بطبيعة الجمهور الذي كان يتوجه إلى السينما في سنوات الخمسينات.

أفكار عقد الستينات الثورية وصلت إلى جهاز الرقابة السينمائية البريطانية نفسه، والذي خضع لإدارة جون ترافيلين بين أعوام 1958 و 1971. تميزت إدارة ترافيلين برغبتها بفتح حوار بدون شروط ويحمل الاحترام لمخرجي السينما الجدد السينما. فالفيلم يعرض رسائل من تلك الفترة بين جهاز الرقابة والمخرج الانكليزي كين رسيل حول فيلمه ( امرأة عاشقة). تكشف تلك الرسائل على المفاوضات التي استمرت لأشهر بين الرقابة والمخرج، والتي كانت مفصلة للغاية، وكانت أحيانا تجري على هذا النحو: “إذا حذفت المشهد الفلاني، ممكن أن نسمح لك بمشهد آخر أثار حفيظتنا، لكن يمكننا إغضاء الطرف عنه”.

ومن المفاجآت التي يكشفها الفيلم التسجيلي البريطاني، والتي يمكن أن تكون مجهولة للكثيرين، بأن الرقابة البريطانية لم تمنع فيلم (البرتقالة الآلية) للمخرج ستنالي كوبريك، بل المخرج نفسه اختار أن يسحب فيلمه من الصالات السينمائية البريطانية بعد تعرضه لتهديد من مجهولين. ليغيب الفيلم عن العرض السينمائي في بريطانيا لأكثر من ثلاثين عاما، قبل أن يعرض مجددا قبل أعوام في الصالات هناك.

وحمل عقد الثمانينات من القرن الماضي تحديا جديدا للرقابة البريطانية، فشيوع أجهزة الفيديو، ضاعف من تعقيد مهمات جهاز الرقابة. صحيح أن  جهاز الرقابة نفسه مارس بعد أعوام من انتشار أشرطة الفيديو، القوانين نفسها التي فرضها على عروض الأفلام في الصالات التجارية على توزيع أفلام الفيديو في الأسواق البريطانية. لكن انتشار الفيديو دفع الرقابة إلى مراجعة بنيتها ومهماتها انعكاسا للتغييرات الجديدة.

وإذا كانت السنوات الأخيرة حملت مجددا كثير من التغييرات في علاقة المشاهد بالسينما، وخاصة مع شيوع تحميل الأفلام عبر شبكة الانترنيت. فان الرقابة في الدول الأوربية مازالت تحتفظ بنفوذ لا يمكن تجاوز أهميته، وخاصة في حسابات العائدات المالية للأفلام. فالرقابة التي مازلت تتحكم في تصنيف الأفلام، يمكن أن تحرم شركات إنتاج سينمائية من مكاسب العرض الواسع للجمهور بتحديدها عمر مشاهدي فيلم معين، وخاصة مع الأفلام الهوليويدية. التي تأثرت أفلام العنف التي تنتجها من تصنيفات أجهزة الرقابة، حيث حرمتها من مشاهدي الأعمار تحت السادسة عشرة. الأمر الذي يمكن أن يكون أحد محاسن الرقابة. فالفيلم التسجيلي يعرض في هذا السياق أحد مشاهد سلسلة أفلام (رامبو) والتي قام ببطولتها نجم أفلام العنف سلفستر ستالون، والذي أثار مشكلة بين الرقابة البريطانية والشركة المنتجة. بسبب ما تضمنه من “تطبيع” لعلاقة تكاد تكون محرمة اجتماعيا بين الأطفال والأسلحة النارية.


إعلان