“في قلبي الظلام” البحث عن البراءة المفقودة
في الأزمات الشديدة، مثل الحروب، تضيق الحدود بين الخير والشر إلى درجة يمكن لأي كائن، يقع تحت ضغوطها، أن يَعبر من هذه الضفة إلى الضفة الأخرى!. من وحي عبارة فيليب زمبرادو، لما فيها من مرونة وقبول لتحولات الكائن البشري وانتقاله من موقف لآخر، اتخذ الجنوب أفريقي –الأبيض-

قراره للبدء في رحلة البحث عن ماضيه، لا من أجل التعرف عليه، قدر محاولته التخلص منه ومن أعبائه التي أرهقته قرابة ثلاثين عاما قضاها مختبئا في السويد، لا شيء فيها يذكره به سوى علبة كارتونية صغيرة، احتوت صورا قديمة وسكينا وأدوات أخرى، فرشها كلها أمام الكاميرا، كما فرش روحه وخاطبها: ما الذي يحتاجه المرء حتى يستطيع النظر إلى ماضيه، وإعادة احترام ذاته، بعد فقدانها؟ كما فقدت أنا أشياء كثيرة من بينها عائلتي، والتي لم يبق عندي منها سوى طفلتين جميلتين، سأفقدهما، حتما، إذا لم أسارع في تعديل ذلك الماضي المدفون في داخلي وداخل هذه العلبة الصغيرة..
بهذه المقدمة الشعرية، الملتبسة، شرع ماريوس فان نيكريك، صاحب الماضي الأسود في أفريقيا، رحلة بحثه عن براءته المفقودة، وطلب المغفرة من الذين قتل يوما أحبتهم بدم بارد! سترافقه في تلك الرحلة كاميرا المخرج السويدي ستافان جولن، لتسجل مجريات تجربة تجاوزت حدودها الشخصية، لتصل إلى السؤال عن حدود فكرة التسامح، نفسها، ومقدار قبولها على أرض شهدت مجازر بشرية مروعة؟
“في قلبي الظلام”
اقتراح جولن وفان نيكريك اسم “في قلبي الظلام” على فيلمهما الوثائقي، فيه شيء من المقاربة مع عنوان رواية جوزريف كونراد الشهيرة “قلب الظلام” والتي اعتبرت واحدة من الأعمال العالمية الطليعية في كشف علاقة المستغِل الأبيض لثروات ومواطني “القارة السوداء” والقريبة إلى حد كبير من علاقة فان نيكريك نفسه بأفريقيا، فهو أبيض من جنوب أفريقيا شارك في الحرب الأهلية الأنغولية (1975 ـ 2002) ضمن وحدة القنص الجوي، وكله إيمان بأنه يقاتل الثوار الأنغولين و”يقتنصهم” خدمة لوطنه وحماية لأهله من هؤلاء الذين يريدون قتلهم و”أكلهم أحياء”!. لكنه وبعد سنوات طويلة أدرك رعب هذه الكلمات أو “الايمان” الذي غُذي عليه منذ طفولته، ولهذا السبب يعود اليوم باحثا عن بعض من الرجال الذين حاربهم يوما، وتحاربوا هم فيما بينهم، ليجتمع بهم ويستمع إلى قصصهم وتجاربهم في تلك الحرب التي دامت قرابة ثلاثة عقود.
بعد عناء طويل استجاب ثلاثة رجال لطلبه، كل واحد منهم انتمى إلى جبهة مختلفة، وفي رحلة وسط النهر قادمهم القارب إلى بقعة أرض وسط الغابة الشاسعة اجتمعوا فوقها في الماضي وتحاربوا ولهذا اقترح عليهم فان نيكريك أن يخيموا فيها ويشعلوا نارا يتبادلون الحديث حولها. كانت أحاديثم تثير في نفوسهم الحزن والخيبة من سنوات قضوها هنا ولم يعرفوا فيها سوى الحقد والكراهية للآخر الخصم الغامض المجهول الذي صُور لهم وكأنه وحش كاسر، لهذا ودون دراية منهم تحولوا هم أنفسهم إلى وحوش بشرية، دخلوا حروبا لم يقرروا بحريتهم دخولها، كانت حروبهم بالإنابة عن مستفيدين وتجار جنوا أرباحها وسلطات، أما هم فلم يجنوا سوى الندم والإخفاق. وحتى اللحظة ما زال الخوف كامننا فيهم، والحذر من الآخر قائما في دواخلهم، لهذا لم يتصارحوا في البدء، فكان كلامهم عموميا ولكن مع الوقت صار يأخذ طابع الاعتراف فتحول إلى شهادات حية عن سنوات زجت أفريقيا كلها تقريبا في حروب خاسرة، كانت لدول خارجية ومصالح دولية اليد الطولى في تحريكها وتغذيتها، من كوبا والأتحاد السوفيتي إلى بريطانيا والبرتغال وقسمت البلاد وفق انتماء كل واحد من أبنائها إلى جبهة ما.

فمقاتلو “أونيتا” صاروا أعداء ل “مبلا” والدول (ناميبيا، أنغولا وجنوب افريقيا) تتصارع فيما بينها في تعقيد يصعب فهمه ومعرفة سره، ولإدراكهما لهذه الحقيقة حاولا المخرجان ( وهنا يبرز تعقيد فني جديد يتعلق بدخول الشخصية الرئيسية، ماريوس فان نيكريك، في هذا الوثائقي كصانع له) وضع عناوين عامة، تحت كل واحد منها، كانا يجمعان أحاديث المقاتلين الأربعة: كعلاقتهم بعوائلهم وبأزواجهم خاصة، تجربة اليوم الأول في الحرب، أول مواجهة مع الموت.. الخ. بهذا الإسلوب الدرامي توزعت قصص الفيلم، دون فصل حاد بينها، فجاء الوثائقي سلسلا، وما زاد من سلاسته لجوء صناعه إلى الطبيعة كعامل مساعد في إكمال النسيج الدرامي للعمل كله. فقد أضافت طبيعة أفريقيا وجمالها بعدا نفسيا للمقاتلين وللمشاهد، حين أجبرت بعض عناصرها على قطع أحاديثهم، كما حدث أثناء مرور قطيع من الفيلة بالقرب منهم، وصمتهم خوفا عند سماعهم لزأير أسد، كل هذا ساعد في خلق مناخ عفوي كانوا بحاجة اليه خاصة والخوف ما زال فيهم.
كما منحت هذه العناصر المضافة المتحدثين والكاميرا حرية الذهاب إلى تفاصيل بعيدة عن الموضوع الرئيس وبهذا إنكسرت قتامته وأضفت عليه بعدا إنسانيا يتوافق مع الغاية النهائية في رحلة بحث عن آثام الماضي والتخلص منها، والتي نجحت الكاميرا في الوصول اليها حين قرر الرجال الأربعة، وبعد طول سرد للذكريات، الذهاب إلى قرية أحدهم والمشاركة في احتفالاتها الموسمية لطرد الأرواح الشريرة منها. كانت هذه مناسبة لمعرفة ردود فعل الناس العاديين لتجربة هؤلاء المقاتلين وكيف سيتعاملون معهم؟. في نهاية الرحلة أَحرق فان نيكريك صور قتلاه، والتي احتفظ بها في علبته الكارتونية طوال تلك المدة، كما أحرق بقية الرجال وأهل القرية طواطم الخوف ليبدأوا من جديد، وأن بأروح كسيرة، مسيرة حياتهم، متخلصين من بعض أثقال الماضي وكلهم رغبة في تجاوز مرارة تجاربهم الماضية.
لكن الحياة نفسها لا تدع الأمور تمشي كما تهوى كاميرات السينما فأصيب بعد نهاية التصوير أحد الرجال الأربعة بنوبة دماغية مات إثرها، ولهذا السبب أُهدي “في قلبي الظلام” إلى روحه، إلى روح ذلك الأنغولي البسيط باتريك جوهانسون، وإلى كل ضحايا العنف والحروب الأفريقية المخيفة.