مفروزة … وثائقي يمتد على 12 ساعة

يزيح الروائي في القاعات التونسية
عبد الكريم قابوس

“مفروزة “ فيلم حدث وثائقي طويل … طويل جدّا لكنه مرّ كأجمل لحظة أمام عيون الجماهير المتعطشة لرؤية حياتها حتى وإن كانت مآس… هي لحظة خلاص كما عند فرويد، ولحظة إعادة اكتشاف واقع “يريد الشعب” أن يقول لماضيه “ديغاج” (ارحل)  بلا رجعة.
“مفروزة” فيلم صور في مصر بالإسكندرية بالذّات، بالصدقة وعن طريق مخرجة كان لها من الصدق والحس حتى أنه�� لما كانت تصور الفيلم دخلت في المشهد كتلك الأسطورة الصينية عندما كان أحد الرسامين يرسم لوحة للملك ولما رأى جمال الأبعاد والأفق وشعر أن الملك لا يستحقها غاب في اللوحة.
المكان الإسكندرية… الجبل بالتحديد قرب الميناء… حيّ شعبي إلى جانب مصب النفايات المسمى بالمفروزة .
المؤلف : مخرجة فرنسية امانويل دي موريس Emmanuelle DEMORIS برزت بفيلم عرض على قناة بلانيت اكشفت بالصدفة حي مفروزة بعد أن تحصلت على منحة من فيلا مدسيس وهو مركز ثقافي دولي بروما والذي كان يريده وزير الثقافة الحالي فردريك ميتران.
كانت المخرجة تريد تصوير علاقة الأموات بالأحياء في مصر وهي التي صدر فيها منذ الفراعنة كتاب الأموات غير أنها بعد أن تعرفت على المتخصص في الآثار والعالم الكبير “جان ـ إيف أو برور” وهو مكتشف آثار فنار الإسكندرية تحت الماء في البحر قررت أن تصور الأحياء فقط لا الأموات.
كانت تحمل كاميرا “ميني ديفي دي” وصورت وصورت ثم عاشت في الحي وسكنت بجانبه ودخلت ذلك المجتمع وكانت مرّة تلاقي الرفض ومرّة أخرى الدعم ومرة أخرى تُرمي بالجوسسة كشأن كل عالم انتربولوجيا من الغرب يعمل في محيط العالم الثالث.
وبعد أن صورت مدّة سنتين كان لها من المادّة ما يؤثث أسبوعا تلفزيونيا والمعروف في الوثائقي خاصة بعد الفديو الرقمي الذي يجعل من العدسة حنفية صور هو ليس التصوير لكن ما تقدر على رميه والتخلي عنه أسوة بمقولة المخرج السويسري انغمار برغمان في تعريف للفيلم هو  “أن تقدر على رمي لقطات تعزّ عليك أثناء التركيب حتى يكون الفيلم فيلما”
وكما حالفها الحظ في لقاء عالم الآثار بالإسكندرية حالفها كذلك الحظ مرة أخرى عندما شاهد “جان غرورلت “Jean Grault وهو السيناريست وكاتب الحوار، والممثل، والكاتب المسرحي والمنتج المعروف الذي كان وراء الموجة الجديدة في السينما الفرنسية  وهو الآن في سن التسعين وقد كان كتب سيناريو رائعة فرنسوا تروفو “جول وجيم وجل أفلامه والذي كان قد أسس شركة في منزله سماها” أفلام الفيلا” وقد ساعد المخرجة في التركيب فقد كان الفيلم أوّلا يدوم 25 ساعة حتى أصبح يتكون من 11 ساعة و 45 دقيقة في 5 أجزاء.

عمل فرعوني و قبر الشعرية
الفيلم هو كما أتي في مواد تقديمه مبادرة سينمائية متفردة تطلب هذا العمل السينمائي ليرى النور 10 سنوات وقد تحصل في شهر أوت/ آب الماضي على الجائزة الأولى في مهرجان لوكارنو بسويسرا.
قالت عنه المجلات المختصة وصفق له النفاد بعبارات مثل تصنيفه “أنطروبولوجيا العالم المعاصر” و”عمل فرعوني” و”فيلم العام” و”فيلم الصدمة” و”الفيلم الوحش” و”بادرة وثائقية” و”قبر الشعرية” وفيلم “سياسته النبوءة”
أتي كقصة حبّ لمجتمع مغلق  في لقاء حكايات متوازية ومتقاطعة تحكي حياة بشريه التقطتها الكاميرا مرواغه بين طول اللقطة / المشهد وحشرجة الكاميرا المحمولة والمرجعية البصرية و حرقة البحث  عن تثبيت الواقع قبل أن يرحل وتتخللها لقطات كانت وكأنها تحفر على البصر جداريّات للتاريخ ووشم على الذاكرة البصرية وهي لقطات تحاول كما تقول المخرجة “أن يمس الحدث والحالة قبل أن تهدف إلى …” وما تيه الكاميرا عبر حي مفروزة إلا لتتحول إلى رواية الحياة اليومية في أعلى ما تصل إليه الوثائقية الشغوفة بدون أن تقفز على حميمية الناس في حلّهم وترحالهم والذين يدخلون الصورة هاربين من الواقع.
والفيلم ليس سنفونية الفقر كما يلذ للبعض محاولة تفكيكه .
وهذا الفيلم يأتي و كأنه اعتراف  ورجوع إلى المدرسة التي تنطلق منها مدرسة سينما البؤساء الهندية، ولا أعرف  هل المخرجة شاهدت ما سوف أقدم أعني أفلام الهندي الشهير “مرينال سان” الذي انحدر من وسط بورجوازي وخصص كل أفلامه للمهمشين والفقراء وهو فيلسوف السينما الهندية وفي المقابل كان “ساتاجيت راي ” الذي ينحدر من أصل متواضع يقدم الأوساط البورجوازية والأرستقراطية.
يطول الحديث حول “مفروزة” على الأقل طول يساوي زمن عرضه وهذا ما لا يتحمله موقع الجزيرة الوثائقية .

المخرجة تتسلم جائزة مهرجان لوكارنو السويسري

العرض في تونس
هذه المبادرة الأولى من نوعها في تاريخ العروض السينمائية بتونس كانت انطلقت من جمعية النهوض بالنقد السينمائي وهي جمعية عريقة لكنها تتخبط في مشاكل افتقار البلاد إلى نفاد ولذلك تحوّلت إلى نادي سينما أكثر منها إلى جمعية نقاد وهذا جميل في حدّ ذاته لأن فيها أعضاء لم يكتبوا كلمة واحدة عن فيلم واحد ومع ذلك فهي تواصل عملها في تؤدة وما هذه العملية إلى دفعة كبيرة نحو دور النقد في الاقتراب من الجمهور.
تم تنظيم التظاهرة أيام 23 – 24 – 25 سبتمبر / أيلول وذلك في 5 قاعات :
قاعة المونديال الشهيرة التي عرضت كل الأجزاء وقاعة ابن رشيق التي تواصل العرض بعد المونديال لمن فاتته حصّة ثمّ قاعة مدار قرطاج التي تنشطها المسرحية رجاء بن عمّار ورفيق دربها المنصف الصايم ثم قاعة الحمراء بالمرسى التي ينشطها المخرج التونسي إبراهيم اللطيف ثم تجربة فريدة من نوعها تمثلت في تنظيم عرض لكامل الفيلم من الساعة الخامسة بعد الظهر إلى الساعة الخامسة صباح الأحد في قاعة الحمراء (قاعة أخرى بالمدينة العتيقة) التي يديرها المسرحي عز الدين قنون.
مبادرة جميلة وحفل مرئي ارتفع بالوثائق إلى درجة أعلى من العروض الروائية.

هذه هي طفرة نوعية لدى جمهور تونس المعروف بولعه بالسينما؟
هل هي انفتاح الثورة على عيون الشباب الغضة… ربما نعم وربما هي بادرة ستجعل  إنتاج الشباب في الوثائقي  يعيش قفزة نوعية في ما لم يستطع القيام به الشيوخ الذين امتصوا ميزانيات السينما ولم يهدوا لنا إلا الانفصام.


إعلان