وهلأ لوين؟” لنادين لبكي يغزو الصالات

 صدق تعبير واستباحة اللامعقول

نقولا طعمة – بيروت

“وهلأ لوين؟” فيلم لنادين لبكي. احتل حيزا واسعا من اهتمام السينما، وجمهورها، ونقادها في لبنان، وضربت نسبة حضوره أرقاما قياسية، في الوقت الذي تشهد الكثير من الصالات بطء حركة، وتراجع إقبال.
الدعاية التي رافقت الفيلم لعبت دورا في إقبال المشاهدين عليه، لكن الدعاية وحدها لا تكفي لذلك.
 عدة عوامل تضافرت جعلت الفيلم اللبناني كفيلم روائي طويل -ساعة ونصف- متقدما في ميدان السينما العالمية، وقد حاز جائزة جمهور مهرجان “تورنتو” العالمي.
ليست مصادفة أن ينال الفيلم جائزة جمهور غربي المذاق، لمخرجة لبنانية مزجت عناصر متعارضة، وأبعادا متناقضة في الفيلم، بروحية، هي أيضا، شرقية المزاج، والحس، والتجربة.
ويمكن القول، بداية، أن لبكي “عرفت الداء فأعطت الدواء” على خط الحصول على جائزة عالمية في العالم الغربي، فاقتحمت آلياته، ودخلت في تحدي التقنية الحديثة، أو ما بعد الحديثة، واعتمدت جموح المخيلة السينمائية الرائجة، متجاوزة المعقول بكل جرأة، فخرقت قلوب الجمهور الغربي الذي تعود على سينما اللامعقول المبنية من عناصر واقعية لكنها محمولة على أجنحة الخيال الأشبه بالميتافيزيقي أو السحري، دون أن تخرج من الصور الواقعية، والحقيقية لما شاءت أن تعالجه.
فالقصة قصة قرية لبنانية افتراضية لا تمت للقرية التقليدية بصلة، لكنها ال”قرية”. تجمُع من السكان في مكان معزول،  يفترض أنه يعود لعصر قروي ماض، لكنه حديث في كل أموره، شكلا ومضمونا: الناس، اللغة، التصرفات، البيوت، المعايير.. يعتاش فيها الناس بكل طمأنينة، وهدوء، رغم انتماء السكان إلى بيئات دينية متباينة. يتقاسمون السراء، والضراء، وتدخل عناصر توتير في العلاقات بين الأطراف ليحول القرية من قرية طوباوية جميلة إلى قرية متصارعة طائفيا تعبيرا عن الحالة اللبنانية، تصل إلى حساسية مفرطة كلما تقدم الحراك، وتطورت عقدة الرواية.
وهي القرية التي لا تصلها السيارات لوعورة الطريق، ومن يتنقل من السكان، فعلى “موتور بايك” يجر حمالة متع هي البديل المابعد الحداثي للعربة، أو “الطمبر”.
وهي قرية تقليدية محافظة يفترض أن رجالها أسياد المجتمع بكل سطوة، لكن النساء يدرن حركة الصراع، ويوجهن مجريات الأحداث.
ولم تمنع “تقليديتها” استضافتها لمجموعة من الفنانات الروسيات الجميلات، وتوزيع الزوجات لهن على غرف الرجال، ولو كانت الغاية مجرد إيوائهن، والسبب أن حكمة النساء جعلتهن يتعالين على ذواتهن من أجل تخفيف توتر الرجال لصالح وحدة البيئة الاجتماعية.

مخيلة لمخرجة جريئة في طرح أفكار قد لا تكون محبذة في المجتمعات التلقيدية، لكن “الغاية تبرر الوسيلة” لدى لبكي، ولم لا؟ فالسينما حمالة وجوه، وصور، واجتهادات بحسب أسيادها، وما هو غير معقول في الواقع، هو مقبول فيها.
وبساطة معالجة لبعض الأمور، لا تمنع من واقعيتها، فالأم الثكلى تعاقب السيدة العذراء بسبب فقدانها لابنها. تبرير للكفر أمام الهنات الكبيرة في الحياة. ليست أمرا غريبا طالما نعايش أمثاله مع سيدة تعاقب تمثال العذراء بإدارة وجهه إلى الحائط عندما تطلب مساعدتها في صلاة لها، لكن ما ترغبه لا يتحقق. ورغم ذلك، فكل شيء يبدو
مقبول الطرح في مجالات الفن، والإبداع، ولا يحتاج إلا لبعض جرأة، ووضوح موقف.
مقامرة أم مغامرة؟ لا فرق.. فقد لعبت لبكي كل أوراقها في الفيلم حتى أقصى درجات التعبيرات المتطرفة، لذلك كانت محطات الانقسام، والكراهية، وفقدان الأم لوحيدها. كانت المشاهد مزعجة، غير مريحة لمشاهد عانى في الحروب وعاد يستذكر المآسي، ولم تتردد لبكي في إزعاجه كأنها تريد أن تقول لنا أنه آن الأوان لأن نتعلم. لكنها تعود للفكاهة، والمزاح، والسخرية لترخي بظلال أقل ثقلا على الجمهور.
إنه شعور الأنثى التي لا تسمح لها طبيعتها بالمهادنة حفاظا على استمرار الحياة. فمنذ الحمل، تلعب الأنثى دور الحامي، والحارس للنوع، وهي المسؤولة عن استمراره، لذلك لا تهادن في الإعلان عما في داخلها حفاظا على بقايا الحياة حولها، وهذا ما ظهر من خلال انفجارها صارخة في الرجال بكل قوة وعنف لتضع حدا للخلافات بينهم، وتوقف انهيار القرية نحو الزوال.
موقف لبكي، وهي تخاطب الرجال بكل قوة لتضع حدا لرعونتهم، تعبير صادق عما عانته الفنانة المخرجة في الحقيقة، وهو ما عانى منه كل الناس. كأنها لم تكن تؤدي دورا تمثيليا بقدر ما كان الدور تعبيرا عما اختلج في ذاتها جراء تكرار الانقسامات، والكراهية، والتباعد في الحياة اللبنانية على مدى حربها الأهلية المدمرة.
“وهلأ لوين؟” يرخي بكل ثقله الفني، والانساني، والتعبيري على أذهاننا، استباحت لبكي الممكن واللاممكن، ومزجت الجميل بالقبيح، والمعقول بغير المعقول، ونخرج منه مختلطي المزاج، بين التسلية والفرح، والترفيه، وبين المأساة، والحزن، والتوتر، لنسأل: لماذا كل ذلك؟ وهلأ لوين؟


إعلان