جمال الدلاّلي: الوثائقي متعة تستحق العناء

يعتبر المخرج التونسي جمال الدلالي المقيم بالعاصمة البريطانية لندن واحد من أهمّ مخرجي الفيلم الوثائقي على المستوى العربي، كما بدأ يخطو أولى خطواته عالميّا من خلال أعمال تطرح قضايا الأقلّيات في المجتمعات الغربية. قدم للمكتبة السينمائية الوثائقية عددا هامّا من الأعمال تناولت مواضيع مثل العنصرية والزواج المختلط والإسلاموفوبيا.. كما قدم أعمالا كرّم من خلالها عددا من الشخصيات التاريخية التونسية مثل محمد المنصف باي وفرحات حشاد وأخيرا صالح بن يوسف. فاز مؤخرا بالجائزة الثانية في المسابقة الدولية للأفلام الوثائقية في مهرجان بغداد السينمائي الدولي عن شريطه “الحب والموت”.
في هذا الحوار حديث حول تجربة جمال الدلالي في إخراج الأعمال الوثائقية، وآخر أعماله ورأيه في السينما الوثائقية التونسية.

يبدو أنّك تخصصت في أعمال تُعنى بسيَر المناضلين الذين أغفلهم الخطاب الرسمي في تونس، أو تعمّدت أنظمة سابقة طمس تاريخهم؟

المخرج جمال الدلالي

 مع أنني لست ضد التخصص من ناحية المبدأ، لكن ما تفضلت به لا يعدو أن يكون ظاهر الأمر حيث أنني قمت بإخراج مجموعة من الأفلام الوثائقية الأخرى التي ترتبط بالوسط الذي أعيش فيه، وأعني بذلك واقع الأقليات في الغرب، فتناولت مواضيع مثل الإسلاموفوبيا، التمييز العنصري، الزواج المختلط، الإبداع والتميّز.. أما التطرق إلى سير المناضلين فهي محاولة لرد جميل هؤلاء على جيل ما بعد الاستقلال وأنا واحد منهم. وكذلك هي محاولة متواضعة للإسهام في قراءة جديدة لتاريخنا المحاصر والذي لم نقرأه ونطلع عليه إلا من خلال مصدر وحيد،  وأعني بذلك الرواية الرسمية للأحداث.  قد يكون التاريخ ضحية الأيديولوجيات أو المصلحة أو الجهل أو النرجسية، ولكن الضمانة الوحيدة لمقاربة الحقيقة هو أن تجتمع لدينا مختلف الروايات والقراءات وبعد ذلك سيقع ما يمكن تسميته بـ “الانتخاب الطبيعي” أي البقاء للرواية الأصح والأوثق.

هل هو الهاجس الفنّي الإبداعي فقط ما يحرك فيك هذا التوجه أمّ أنّك ترى في ذلك واجبا وطنيا ودورا نضاليّا؟
 لا يجب أن يغيب الهاجس الإبداعي عن أي عمل فني ولكنني لا أؤمن بمقولة “الفن من أجل الفن”، الفن يجب أن يكون خادما لقضية وذا محتوى أو مضمون رسالي قيمي.  وكما أسلفت، شخصيا أحمل هاجس رد الجميل وتقديم إضافة وزاوية أخرى لقراءة الأحداث، وهنا لا يمكن فصل الإبداع عن الواجب والدور.. وأعتقد أن مدى النجاح أو الفشل في ذلك هو مدى المواءمة بين المضمون والإبداع.. بين الجوهر والصورة.. وخلاصة القول إذا أردت أن تخدم قضية يجب أن تختار الشكل الإبداعي المناسب.

يرى البعض أنّ الاشتغال على الأفلام الوثائقية يتطلّب الكثير من البحث والقراءة والاطلاع بمعنى أن انجاز الشريط الوثائقي مرهق وليس من ورائه ربح كبير، كيف تنظر لهذا الطرح؟ المهم أن تفعل الشيء الذي تحبه وتقتنع به.. أما الجهد والوقت والمال فهم من لزوميات العمل الناجح. كما وجب التنويه أن العمل الفني عمل جماعي وأحد عوامل ومقاييس نجاحه هو تصريف الجهد الجماعي بشكل يجعل منه عامل دفع وتميز.  ما يعجبني في الوثائقي أنه يحاول قدر الإمكان محاكاة الحقيقة والواقع ولذلك تتضاءل إلى الحد الأدنى كل المؤثرات “التجميلية”. وفي هذا السياق، أعتقد أن الجزيرة الوثائقية قد نجحت إلى حد كبير في أن تجعل من الوثائقي العربي صناعة وأعادت له بعضا من المكانة على خارطة البرامج التلفزيونية والعروض السينمائية..  ولذلك شهدت السنوات الأخيرة كمّا متناميا من المهتمين بالوثائقي وانخراطا أكبر من ناحية الإنتاج. وفي النهاية الوثائقي بالنسبة لي متعة تستحق عناء الجهد والوقت والمال.

في شريطك الجديد”صالح بن يوسف..  جريمة دولة” تناولت الموضوع توثيقيّا وروائيّا، وتسعى لتقديم عملٍ يحمل الشقيّن معا، لماذا كان هذا الاختيار؟ ألم يكن كافيا أن تشتغل على الجانب التوثيقي فحسب؟

تمثيل مشهد اغتيال صالح بن يوسف

البداية كانت مع فيلم “محمد المنصف باي.. نهاية عرش” وتتواصل الآن مع فيلم “صالح بن يوسف” وفي التجربتين كان الجانب التمثيلي أو إعادة تمثيل مشاهد معينة خادما للوثيقة ورواية الأحداث. فليس هناك تعارض بين الاثنين إذا كانت الرؤية الأساسية للعمل هي أن يحافظ على طبيعته الوثائقية وقد عملت مع الزميلة المخرجة إيمان بن حسين لتكريس هذا التكامل.. هناك أحداث مفصلية ولحظات فارقة في حياة صالح بن يوسف ارتأينا أن لا نكتفي في سردها بالشهادات وأنْ نستعين بوسيلة إيضاح يمكن أن تنقل المشاهد إلى جو تلك اللحظات وتجعله يعيشها بكل تفاصيلها.  فالأمر لا يُؤخذ من زاوية المفاضلة ولكن من باب التكامل وخدمة للهدف الأساسي وهو تسليط الضوء على أحداث معينة ونقل المشاهد إلى جوّها وملابساتها.

 إذن هل يمكن اعتبارها خطوة أولى في طريق إخراج الأعمال الروائية؟
 ربما..  ولمَ لا؟؟ على كل حال مازلت منهمكا في مشاريعي الوثائقية التي أوليها كل اهتمامي الآن.

 كيف يرى جمال الدلالي المخرج التونسي المقيم في لندن واقع السينما الوثائقية في تونس؟ وما موقعها عربيّا ودوليّا؟
أصدقك القول، رغم التهجير أحاول قدر الإمكان متابعة الحركة السينمائية في تونس ومنها السينما الوثائقية، قد بدأت أكتشفها عن قرب بعد ثورة  14 يناير، ولكن عموما تعتبر التجارب التونسية رائدة ومتميزة في الوطن العربي،  ولعلّ التحدّي الأهمّ  أمامها الآن لمزيد من الانتشار هو فك الارتباط العضوي سواء من ناحية التمويل أو المواضيع المطروقة بالجانب الفرنسي وكذلك البعد عن الشحن الأيديولوجي الصادم لهوية البلاد.


إعلان