جوائز الدورة ال52 لمهرجان تسالونيكي…

الشباب والسينما المستقلة أكثرُ فائِّزيها

تسالونيكي ـ قيس قاسم
إجتمعت الأفلام الفائزة، بأهم جوائز الدورة ال52 لمهرجان تسالونيكي، على أن أصحابها هم من الشباب وإنها تنتمي في أغلبيتها الى السينما المستقلة، وبهما تَكرَس مسعى طالما حرص المهرجان على تحقيقه ووَضَعه كعلامة لتفرده عن البقية، في آن. وإذا كانت البرمجة قد لعبت دورا في هذا، عندما وضعت أكثر أفلام الشباب والمستقلة ضمن المسابقات الرئيسية، وخاصة الدولية منها، فأن منظموه لم يَخفوا تعمدهم هذا، بل أعلنوه في  أكثر من مناسبة كتوجه عام لمهرجانهم، ولهذا كان منطقيا أن تأخذ الأفلام بمواصفاتها المختارة تلك فرصتها للخروج بأكبر فوز؛ فجائزة الكسندر الذهبية لأفضل فيلم ذهبت الى”Twilight portrait” للشابة الروسية أنجيلينا نيكونوفا (قيمتها 20 الف يورو) والفضية كانت من نصيب الفيلم التشيكي المستقل “ثمانون مكتوبا” لفاسلاف كادرنكا ومن نفس المدرسة أُختير الأمريكي مارك جونسون كأفضل مخرج عن فيلمه “من دون”، فيما أخذ  ”Behold The Lamb” للأنكليزي جون مكيلدوف جائزة أفضل سيناريو.

 فيلم الروسية أنجيلينا نيكونوفا  “Twilight Portrait” مستفز وعصي على القبول بعض الشيء. فقصة الشابة التي اغتصبها ثلاثة من رجال الشرطة الروس لم تأخذ بعدا تقليديا ينتهي بإنتقام الضحية من مغتصبيها كما هو سائد في أفلام مشابهة كثيرة، بل راحت تنسج علاقة عاطفية وجنسية مع أحدهم، وتركته في النهاية يقع في حبها، وهو ما يمثل “إغواءا” أنثويا فيه أكثر من بعد، وهو قطعا غير السائد في الوعي الجمعي العام. لقد أرادت الشابة  مارينا المغتصبة أن توسع دائرة إنتقامها من الشخص الى المجتمع، الذي يسمح بل يغطي فعل الإغتصاب ضد المرأة، ومنطقية تكوينه المفسد تؤدي بالضرورة الى هذا الفعل وأكثر، وبالتالي فالإنتقام الفردي لن يحل المشكلة قدر البحث عن علاج جذري لها يغير نظرة المجتمع الى بنات جنسها والى كل ما يحيط به من حيوات، تبدو جلها ممزقة ومقهورة، حتى المُغتَصب وحين إقتربت منه مارينا وجدته محبطا ومتأثرا بفراغ عاطفي، إشتغلت عليه ليتبعها في النهاية، وأن على حساب لحظات كانت علاقتها فيه تثير في الجمهور حنقا عليها، لعدم توافق مسار الحكاية مع ما هو متفق عليه إجتماعيا وأخلاقيا، ومع هذا أصرت نيكونوفا الذهاب اليه، ربما، لأنها وجدت فيه نفعا حين أرادت كسينمائية بحث الإشكال الدائم والمُحيّر بين الرجل المُهيمن والمرأة بوصفها كائنا مُستَضعفا، في إطاره العام، والذي تحولت مارينا داخله الى رمز لمنتقم، لا من رجل واحد، بل من المجتمع الروسي بأسره. فيلم الأنكليزي  جون مكيلدوف ”Behold The Lamb” بدايته فيها نفس قتامة الروسي غير أنها، ومع الوقت، خفت قليلا وأعطت بارقة أمل لمحبطيه للتصالح مع عالمهم الشديد القسوة، أبطاله رأيناهم في إنحدار نحو قاع مظلم. إسلوبه كفيلم طريق أعطاه مساحة جيدة ليطور صاحبه ومن خلالها شخوصه وحكايته التي ظلت محدودة رغم ذلك بشخصين: رجل وأمراة، كل واحد منهما كان يبحث عن وَلَّده الذي ضاع منه ولأسباب متقاربة، تعود الى إتخاذهما إسلوبا في العيش يعتمد على الهروب الى الوراء في محاولة منهما لتناسي الواقع بمؤثرات دفعتهم الى إرتكاب أفعال خطرة وأوصلتهم الى مناطق أكتشفوا أنفسهم وبعد عناء أنهم بعيدون عنها بل وهي بعيدة كل البعد عن دواخلهم الباحثة عن إستقرار. الفيلم مكثف وأحداثه تجري بإيقاع بطيء تتشكل عبرها صورة المجتمع الأنكليزي وطبقاته الفقيرة، وكيف يضغط العوز الإقتصادي على كثيرين من المنتمين اليها ليجدوا أنفسهم عنوة خارج إطاره، من دون رغبة منهم. السيناريو الذي فاز بالجائزة كتب بعناية وركز على جوانيات أبطاله ضمن مناخ أنكليزي قاتم. ومن دون رغبتها، هي أيضا، وجدت الشابة جوسلين (الممثلة جوسلين جينسين) نفسها في عزلة مطبقة وسط غابة دفعتها للهروب الى داخلها المضطرب في محاولة لتناسي ماضي مؤلم. جهد مارك جاكسون في “من دون” إستحق عليه جائزة أفضل مخرج والذي ينتمي الى المدرسة الأميركية المستقلة، وفيه دخل الى جوانيات الإنسان المعزول وكلي الإنقطاع عن العالم عبر شخصيتين مركزيتين: الأولى شابة جاءت للعناية برجل عجوز مصاب بمرض الزهايمر الحاد.

أقرب هو الى الموتى، إلا من نشاط بيولوجي بسيط يضعه قسراً في خانة الأحياء، وسَيُكون، بحالته هذه، الطرف الثاني في معادلة العزلة أو عالم الكائنات الطافية في حقل الإنتماء الى ال”بدون”، الى عدمية وجودية محيرة، دفعت جوسلين للهروب الى خيال هلوسي، مَرَضي، وّحدها مع الكائن المُحتَضر الذي جاءت للعناية به في بيت معزول وسط غابة. يذهب جاكسون في فيلمه للبحث في حالات “التفرد” القهري الذي يجد ربما الكائن البشري نفسه يوماً مجبراً على العيش فيها، كالمريض العجوز الذي صار على ما هو عليه نتيجة عجز جسماني لا دور له فيه. أما هي، الشابة القلقة، فاختارت عبور البحر لتصل الى طرف الغابة في محاولة لنسيان ماضيها القريب وإطفاء جمر حزنها المتوقد على صديقة أحبتها وبعد موتها لم تجد أحدا ترتكن إليه سوى ذاتها ووحدتها ورجل عجوز تقاسمه وجودها الجسماني مقابل وجود شبه معدوم. احتفط جاكسون بمناخ فيلمه الى النهاية تاركا لنا عوالم محسوسة الأذى ظلت معنا حتى بعد تركنا قاعة العرض. من ذات المدرسة تخرج التشيكي فاسلاف كادرنكا، وبفيلمه “ثمانون مكتوبا” أتحفنا. إشتغل على أسلوب غاية في الصعوبة قِوامه التعمد في إيقاف الزمن وحركته للحظات ومن ثم العودة ثانية اليه، لمراقبة ما يحدثه الصمت من تأثيرات في ذهن أبطاله حين ما يريدون تأمل مشهد أو الإصغاء الى ذاتهم المنشغلة بأسئلة مُحَيرّة، مِثل التي كانت تواجه الصبي المراهق وهو يرافق والدته في مراجعاتها الروتينية لمؤسسات الدولة التشيكية إستعدادا للسفر والإلتحاق بزوجها الذي غادر البلاد مهاجرا الى بريطانيا. اللحظة التي إختارها، كادرنكا لوجود بطليه الزمني

كانت في العام 1989، أي في السنة التي سبقت قليلا التغير الكبير في المجتمع التشيكي، وإنتقاله من الشيوعية الى الرأسمالية. مراجعاتها الكثيرة للحصول على جواز السفر كانت تجري وفق إيقاع رتيب يعكس بيروقراطية وصرامة إدارية تعيق السفر او إنتقال البشر من البلاد واليها، وعن صعوباتها كانت الزوجة تكتب رسائل الى زوجها تخبره بخطواتها والى أين وصلت مراجعاتها وأيضا تصف خلالها مشاعرها، في حين كانت الكاميرا تسجل دواخل الصبي وهو يودع عالمه بشيء من الصمت والحزن. التصادم بين الرغبة في البقاء والحنين الى أبٍ أضطر للسفر كانت تجد إنعكاستها في المشاهد الطويلة الصامتة المعبرة بقوة عن حالة الصبي النفسية ، فيما كانت والدته تُسَطر كلماتها على الورق حتى وصل عدد ما كتبته من مكاتيب الى 44 مكتوبا، وعنوان الفيلم يوضح لنا إنها ستواصل كتابة غيرها حتى تصل ربما الى ثمانين مكتوبا، لتغادر بعدها البلاد أو أن البلاد كلها ستتغير لتَبقى فيها مع وَلَدها. في نهاية مفتوحة كهذة يمنحنا كادرنكا فرصة تأمل بلاد عاشت يوما تحت حكم شمولي وتخلصت منه الآن، لكن ومن المؤكد أن كثيرا من البشر قد تألموا فيها، واليوم تصلنا بعض آلامِهم عبر عمل سينمائي ممتع وشديد الخصوصية.

.

 


إعلان