الفيلم العربي ببرلين:حربٌ أهلية، ثوراتٌ، وفكاهة 1
صلاح سرميني ـ برلين
“فادي عبد النور”، فلسطينيّ، يعيش في برلين منذ عام 2002، وبالإضافة إلى عمله الأساسيّ في التصميم الغرافيكي، فهو ناشطٌ سينمائيّ شارك في تأسيس، وإدارة “جمعية أصدقاء الفيلم العربي” التي تُنظم (مهرجان الفيلم العربي في برلين)، وعلى الرغم من محادثاتنا الهاتفية الطويلة، والمُتكررة قبل شهورٍ من انعقاد الدورة الثالثة خلال الفترة من 2 وحتى 10 نوفمبر 2011، ومعرفتي ببعض تفاصيلها، فقد تخيّرت في حواري معه بأن ألعب دور “محامي الشيطان”، وأستفزّه بأسئلةٍ، وتساؤلاتٍ بعضها ساذجٌ، وبسيط، وأخرى خبيثةٌ، ومضمرة، بعد إقناعه بأنني لستُ متخصصاً في إجراء الحوارات، ولا أميل إليها، وأُفضل عليها النقاش المُتبادل، وبدوره، استسلم لهذه اللعبة المكشوفة، وتخلص بمهارةٍ من كلّ الشباك التي نصبتُها حوله، حتى أننا في بعض اللحظات لم نعدّ ندرك من يُحاور من ؟.
هذا الحوار (القراءة)، محاولةٌ للتعرّف أكثر على مهرجانٍ سينمائيّ لا يشبه في طبيعته، توجهاته، وبرمجته المهرجانات الأوروبية الأخرى المُهتمة كلياً، أو جزئياً بالسينما العربية التي يُنظمها عادةً مجموعات من المهاجرين، أو من أصولٍ عربية، بغرض تحقيق أهدافٍ ثقافية، اجتماعية، سياسية، اندماجية، وفي بعض الأحيان، ترفيهية، وإيجاد جسورٍ من التواصل مع الأوطان الأصلية، هم عادةً من الناشطين المُخلصين، أو المُتاجرين بالسينما، وقضايا المهاجرين، حيث تتحول بعض المُبادرات أحياناً عن أهدافها النبيلة، وتصبح وسيلةً سهلةً، و”مُمتعة” للارتزاق مُستغِلين حسن نوايا الجهات الأوروبية الداعمة، والتي تتباين جدية الرقابة الإدارية، والضرائبية فيها من بلدٍ إلى آخر، حيث يبدو، من خلال التجربة، بأنها متساهلة للغاية في هولندة، دقيقةٌ، وصارمةُ في السويد، وشحيحةُ في بلجيكا.
***
يتكوّن فريق عمل (مهرجان الفيلم العربي في برلين) من مجموعةٍ شبابية متعددة الجنسيات (فلسطين، السعودية، مصر، تونس، لبنان، كندا، هنغاريا، سويسرا، روسيا، وألمانيا، ..)، جعلني أتساءل عن المُبررات التي دفعت هؤلاء إلى الاهتمام بالسينما العربية .
تعود الأسباب إلى إعجابٍ، وتقديرٍ للثقافة العربية، ومعظم هؤلاء من الجنسيات الأجنبية حاولوا في فترةٍ ما تعلم اللغة العربية، أو هم، بالفعل، يعرفون القليل منها، إنه اهتمامٌ مشتركٌ بالثقافة بشكلٍ عام، والأهمّ، الاستمتاع بالعمل في هذا المجال.

ولكنّ السينما العربية ـ ماعدا المصرية ـ تُعاني في بلدانها الأصلية من ابتعاد الجمهور عنها، فكيف لها أن تحظى بقبول الجمهور الألماني، وفي “برلين” بالتحديد، المدينة المُتخمة بالمهرجانات، والتظاهرات السينمائية من كلّ نوع.
بفضل الزخم السينمائيّ الذي يعيشه، يمتلك الجمهور الألماني، والجاليات المُقيمة في ألمانيا أذواقاً متطوّرة، إنها معادلة معكوسة، الأفلام التي تحظى على نجاحٍ جماهيريّ في البلاد العربية، رُبما لن تجد لها مكاناً في ألمانيا، بينما تستقبل صالاتها السينمائية الأفلام النوعية من كلّ أنحاء العالم .
بعد تجربة الوسط السينمائي مع مهرجانٍ آخر للسينما العربية في دولةٍ أوروبية مجاورة، بدأنا نشكّ في نوايا أيّ شخصٍّ يقدم على مبادراتٍ مُشابهة، وأصبحنا نعتقد بأنه سوف يتاجر بالسينما (كما الحال في مهرجاناتٍ عربية أيضاً)، وفي إحدى محادثاتنا الهاتفية خلال التحضير للدورة الثالثة، قلتَ لي، بأنك تعمل في التصميم الغرافيكي، ومن وقتٍ إلى آخر في مطعم، ما الذي يشدّك إذاً إلى أوجاع السينما العربية، وتنظيم مهرجانٍ عنها .
وهل تشكّ في نوايانا، من بين أعضاء الفريق هناك مثلاً “ويلترود هيمبوس” المسئولة عن العلاقات العامة، والأمور التنظيمية، درست السينما دراسةً أكاديمية، “ليفيا روتيشوسير” التي رافقتكَ من المطار إلى الفندق، جمعت بين دراسة الرقص، والدراسات الثقافية، “كلوديا رمضان” التي برمجت الأفلام التجريبية (Fluid Spaces)، والأفلام الصادمة (Shocking Arabs) درست بدورها السينما.
عندما كتبتُ خبراً صحفياً مطوّلاً، ومن ثمّ قراءةً أوليةً عن المهرجان، طلبتُ منك تحديد صفتك المهنية، وشرحتَ لي بأنكم تعملون بطريقةٍ جماعية، هل تعرف بأنّ هذه الصفات أصبحت متداولة في الوسط السينمائي العربي، والبعض يقاتل من أجل الحصول عليها، كي يسجلها في سيرته المهنية، أو يعلنها بزهوٍّ في أيّ مناسبة يتواجد فيها حتى ولو كانت مزيفة، ولا تعكس فعلياً حقيقة الخدمات التي يقدمها إلى هذا المهرجان، أو ذاك، ولم يقتنع هؤلاء بعد بأنهم، وفي أحسن الأحوال، ليسوا أكثر من “جامعي أفلام”، ولكنهم لا يرضون بصفاتٍ أقلّ من (مراسل، مندوب، منسّق، مبرمج، ومستشار،..)، وتصل جرأة البعض بأنهم يقدمون أنفسهم نقاد سينما، والأكثر خطورةً، تنطلي هذه الأكاذيب على بعض المهرجانات العربية الأخرى، إن لم نقلّ معظمها، ويبدو بأنّ هناك علاقة تواطئ ضمنيّة، أو مُعلنة مع المهرجانات التي يتعاملون معها، بمعنى، خدمات مجانية بسيطة جداً في مقابل دعوة، وصفاتٍ مهنية ضخمة تسمح لهم بالمُتاجرة بها، والقفز من مهرجانٍ إلى آخر عن طريقها، حتى ينكشف أمر الطرفين، ويتضح بأنّ مديري هذه المهرجانات يستخدمون نوعية معينة من المُتعاونين من أجل التمويه على ممارساتٍ احترافية فاسدة، واختلاساتٍ مالية مباشرة، أو مُقنعة.
سمعنا عن هذه السلوكيات، ونعرف بأنها موجودة، من طرفنا، نحاول اعتماد نموذجاً آخر من العمل، باعتقادي، واحدة من التغييّرات التي سوف تحدث في العالم العربي، هي التوّجه نحو المشاريع المؤسّساتية، وليس الأفراد.
من جهةٍ أخرى، لا يشكلّ المهرجان “قطعة حلوى دسمة” يلتفّ حولها أحد، لأنهم لن يجدوا ما يبحثون عنه : توسيع علاقاتهم الانتهازية مع الوسط الفني، مكافآت مادية، أو فوائد معنوية،…
ورُبما يتجنبونا، لأننا نمتلك القدرة على فرز الحقيقي من المزيف، ببساطة، لم نتعرّض لهذه الاختراقات، وأعتقد بأنّ تعاونكَ “الأخطبوطيّ” مع كلّ المهرجانات الأوروبية المهتمّة بالسينما العربية سوف يُبعد هؤلاء عنها .

كنتُ متحمساً للتعرّف على المهرجان عن قرب، ومحاولة رصد الدورة الثالثة، وخلال الأيام الأربعة التي قضيتها معكم، وأنتم لم تبخلوا عليّ بدعوةٍ لفترة المهرجان كلها، لاحظتُ الروح الجماعية التي تسيطر على فريق العمل، كلّ واحدٍ يمتلك مهمةً خاصة، وعامة، ولم أشعر بأنّ هناك رئيساً “بالمعنى العربي للصفة”، يتحرك بكبرياءٍ، وعظمة، ويغضب من هذا، ويتذمرّ من ذاك، أو حتى يختال بين الضيوف، والجمهور في ملابس رسمية تميّزه عن الآخرين.
تُبهجني ملاحظتكَ، نحن نجتمع بشكلٍ دوريّ، ولا يحكم عملنا هيكلية عمودية، كلّ واحد من أعضاء الفريق يتساوى في الأهمية مع الآخر، ونعرف بعضنا قبل تأسيس المهرجان، وتوسّعت دائرة معارفنا عن طريق المهرجان نفسه، علاقاتنا الشخصية جيدة، وتجمعنا مودّة خاصة.
يمكن القول، بأنّ أحد أسباب نجاح المهرجان اعتماده على العمل الجماعيّ، وبرأينا، عندما يسيطر شخصٌ واحدٌ على مشروعٍ ما، أو يرتبط به، فإنّ احتمالات فشله كبيرة جداً.
هل تعتقد بأنّ هذه الروح الجماعية الحالية سوف تستمرّ في المستقبل ؟
سوف نبذل جهدنا كي تستمرّ، ونفضل أيضاً بأن تستمرّ، وفي النهاية، هذا الأمر يعود لنا.
كيف بدأت فكرة تأسيس المهرجان ؟
انطلقت المُبادرة من غياب السينما العربية عن المشهد السينمائي الألماني .
وماذا يهمّك أن تكون السينما العربية غائبة، أو حاضرة في المشهد السينمائي الألماني ؟
يعود السبب، رُبما، إلى علاقتي بالنشاط السياسيّ، والثقافيّ، كنت دائماً من الناشطين، وهذا الأمر يجعلني أشعر دائماً باحتياجاتٍ مُفتقدة في البلد الذي أعيش فيه، ينطوي ذلك على رغبةٍ بتغيير الواقع.
أقصد السينما ليست واحدةً من مشاغلكَ الاحترافية ؟
أعمل في التصميم الغرافيكي، ولديّ اهتمام خاصّ بالصورة، والسينما بشكلٍّ عام.
في الدورة الأولى لم تتوفر لديكم ميزانية كافية، فأنفقتم من جيوبكم.
نعم، وفي الدورة الثانية أيضاً حصلنا على بعض الدعم، وأكملنا الباقي من جيوبنا، وحتى الآن نُعاني من الديون السابقة.
وما هي أسباب هذه التضحيات المازوخية، أقصد لماذا تنفقون على المهرجان من جيوبكم ؟ من حقّ كلّ واحدٍ منكم الحصول على أجرٍ وُفق العمل الذي يؤديه .
المهرجان، بالنسبة لنا، مشروعٌ ثقافيّ للفائدة العامة، وكلّ واحدٍ من أعضاء الفريق لديه عمله الخاصّ، وهو ناجحٌ فيه، ولم يكن المهرجان وسيلةً لإيجاد فرص عملٍ لنا.
… يتبع