“عدوى” سودربرج.. مخيفة لكن من دون حرارة!

أمير العمري

فيلم عدوى” Contagioun للمخرج الأمريكي ستيفن سودربرج، هو أحد أفلام القضايا الكبرى، أو بالأحرى، الكوارث الكبرى التي يمكن أن تهز العالم وتسبب الفزع والرعب للناس في الشرق وفي الغرب، فهو فيلم عن وباء غامض ينتشر بسرعة في شتى أنحاء العالم ويوقع الكثير من القتلى.. بل ويهدد بقتل عشرات الملايين كما فعل وباء الانفلونزا الاسبانية الذي انتشر عالميا من 1918 الى 1920 وأدى إلى مقتل نحو 70 مليون شخص، وهي معلومات تتردد في الفيلم كما لو كانت تقرأ من أحد كتب تاريخ الأوبئة!
 نحن إذن أمام موضوع “واقعي” له أرضية حقيقية خصوصا وأن الوباء الذي عرف باسم أنفلونزا الخنازير الذي اصاب الناس في بلدان عديدة في العالم عام 2009 ليس بعيدا عن الأذهان.
معالجة مثل هذا الموضوع سينمائيا من خلال الشكل السينمائي المثير، أي فيلم الصدمة، والتحقيق والتحري، ثم التوصل إلى السبب، مع وجود رسالة اجتماعية قوية داخل تلك الحبكة الواسعة التي لا تخضع لضوابط محددة، كان من الممكن أن تجدي وتعطي الثمار المرجوة أي تصنع فيلما له تأثير واضح، مع القدرة على تحقيق متعة المشاهدة أيضا، لو كان كاتب السيناريو (سكوت بيرنز) اهتم بتركيز موضوع لفيلم حول شخصيات محددة، مع احاطة تلك الشخصيات المحددة (التي لا أتصور أنها يجب أن تزيد على 4 شخصيات نتابعها باستمرار دون أن تتوه عن الحبكة) بمجموعة من الشخصيات الأخرى، الثانوية التي تدعم بناء الفيلم وتثريه، خاصة واننا امام دراما تدور في بلدان مختلفة حول العالم، من هونج كونج إلى منيسوتا، إلى لندن، وطوكيو وغيرها.
إلا أننا أمام بناء لا ضابط له ولا رابط، أي بناء سينمائي يعاني من الترهل، ومن تكرار الفكرة أو تشابه مهمة الشخصيات خاصة، وأن الهدف من الفيلم ليس العرض التفصيلي لتقنيات وأساليب العمل في التخصصات الطبية المختلفة داخل منظمة الصحة العالمية، وبالتالي لم تكن هناك حاجة الى كل تلك الشخصيات التي ترتدي الملابس اليضاء وتتالم لعجزها عن العثور على مصل مضاد لذلك الفيروس اللعين الذي يسبب كل ذلك الموت، مما يؤدي الى كل تلك الفوضى التي تصل إلى حد العنف، وكأن الإنسان ارتد إلى الحياة البدائية الأولى.

بداية قوية
يبدأ الفيلم بداية قوية مثيرة تشدنا عندما نرى جوينيث بالترو التي كانت في رحلة عمل الى هونج كونج، تعود الى بلدتها في مينسوتا لكنها تصاب بسعال وحمى وألم في الحلق ثم تموت في اليوم التالي أمام زوجها الذي لا يصدق ما يحدث. وسرعان ما يموت طفلها ايضا. ويتوالى مسلسل الموت المفاجيء بفعل تلك الحالة المرضية الخطيرة الغامضة في أماكن مختلفة من العالم.
ويشرع الوسط الطبي في البلدان المتقدمة كل أسلحته للبحث عن وسيلة لوقف المرض القاتل، عن طريق عزل الفيروس والتعرف عليه وإيجاد المصل المضاد له، وهو ما يستغرق الكثير جدا من التفاصيل الاكلينيكية التي لا تهم المتفرج البسيط حول العالم، مع الإغراق في تصوير مشاهد لا ضرورة لها بل تبدو صادمة بشكل فظ مثلما نجد في مشهد استخد=ام منشار لفصل الجزء اعلوى من جمجمة المريضة التي توفيت بفعل المرض أثناء القيام بعملية التشريح، من أجل الوصول الى المخ ثم تقطيعه أيضا!

ضد المؤسسة
وربما تكون شخصية المدون الذي يتكلم بلكنة انجليزية (بريطانية) والذي يقوم بدوره جود لو، من أفضل شخصيات الفيلم، فهي تضفي بعض الحيوية على الفيلم، فهو يناهض المؤسسة تماما، والمقصود بالمؤسسة هنا منظمة الصحة العالمية والسلطات الطبية وهيئات الصيدلة والمؤسسات الدوائية، ويتهمها بنشر اشاعات والتضخيم من حقيقة هذا الفيروس الجديد من أجل ارباك العالم وتنشيط عمل شركات التجارة في الأدوية، وهو ما سمعناه أيضا بعد انتهاء انتشار مرض انفلونزا الطيور في العالم، أو تلاشيه فجأة بشكل غامض كما ظهر، كما يتهم السلطات الطبية بالانتقاء العنصري للأشخاص الذين يحصلون على المصل المضاد بعد اكتشافه.
ولعل من أفضل مشاهد الفيلم الجزء الذي يصور الفزع الجماعي للناس، وهجومهم على مراكز حقن الأمصال، واقتحام الصيدليات، وانتشار العنف والتحطيم، ومراكز الاعتقال الجماعي للأشخاص المصابين، وهي أجواء شبيهة بأجواء الحرب والكوارث الانسانية الكبرى، وقد برع سودربرج في تصويرها بإمن خلال إيقاع لاهث سريع، ونجح في استخدام الأماكن وما توفر له من امكانيات هائلة من ديكورات وتنسيق المناظر الخارجية من خلال ما أقيم خصيصا من ديكورات أو التلاعب في الطبيعة نفسها وتغيير بنيتها لاضفاء الواقيعة على الصورة.

سقطة الفيلم
أما ما نظن أن سودربرج لم ينجح فيه بشكل يدعو للدهشة، فهو راجع ليس فقط الى التفتت الخطير في السيناريو وتبعثره في نثرات، ولجوئه أحيانا الى الحوارات العقيمة بل والمونولوجات التي يرددها الأشخاص أمام الكاميرا حينما يحدثون أنفسهم مثلا، كما يفعل الطبيب الأسود الذي يتساءل عن سر ذلك الفيروس أمام نموذج له وكانه يوجه له الحديث، ولكن أيضا استعانة سودربرج بكل هذا العدد من النجوم وهو ما يخلق لدى المتفرج العادي توقعا مسبقا بأنه بصدد مشاهدة مباراة في الأداء التمثيلي، في حين ان هؤلاء الممثلين (المرموقين) من أمثال كيت ونسليت وجوينيث بالترو ومات دامون ولورنس فيشبيرن واليوت جولد وماريون كوتار ولو جود وغيرهم، لا يتقابلون سوى نادرا في الفيلم، اكتفاء بالأحاديث التليفونية، كما أن ظهور معظمهم هامشي أو عابر، والأدوار التي يقومون بها لا تتطور ولا تساعدنا على التفاعل معهم أو الانفعال بما يقومون به أو التعاطف مع قضية الفيلم ككل، رغم أنها من تلك “القضايا الكبرى” التي تهم البشرية في كل مكان، وهو ما كان يراهن عليه دون شك، صناع هذا الفيلم.

والمشكلة هنا أن الواقعية الموجودة في فيلم يقوم على حدث “افتراضي” رغم كونه قابلا للحدوث تماما، تكتفي بلمس السطح الخارجي للأشياء، بحيث بدا أحيانا أننا نشاهد تقريرا تليفزيونيا حول معاناة الأطباء والباحثين من أجل التوصل الى عقار لمرض غامض، بدلا من أن نشاهد الإنسان- الفرد- الأسرة، في صراعها مثلا مع ذلك المرض.
لذلك نقول ان البداية كانت قوية لأنها كانت تركز على العنصر البشري القريب من المشاهدين، قبل أن يتحول الفيلم بعد ذلك مباشرة، إلى بانوراما استعراضية لصراع اكلينيكي حول علوم الباثولوجي والفارماكولوجي، وهو ما أفقد الفيلم حرارته وأبعده عن دائرة الأفلام الكبيرة التي تناقش قضايا كبيرة!


إعلان